شعراء كبار غير مسلمين كتبوا عن مكة والنبي ومناسك الحج

فارس يواكيم يجمع بعضهم في كتاب ويشرح السياقات

فارس يواكيم
فارس يواكيم
TT

شعراء كبار غير مسلمين كتبوا عن مكة والنبي ومناسك الحج

فارس يواكيم
فارس يواكيم

المسيحيون العرب ينشأون في بيئة إسلامية محاطين بثقافة هذا الدين ورموزه وقيمه، وهم مهما ابتعدوا عنه، يبقى جزءاً من وجدانهم؛ وحتى كتاباتهم وأدبياتهم. هذا ما يسلط عليه الضوء فارس يواكيم في كتابه الجديد «الإسلام في شعر المسيحيين» من توزيع «الفرات للنشر» في بيروت، الذي يقدم فيه نماذج لأكثر من ثلاثين أديباً عربياً من سوريا ولبنان ومصر والسودان وفلسطين ودول عربية أخرى، كان الإسلام حاضراً في كتاباتهم، وخصوه، كما نبيه (صلى الله عليه وسلم)، بقصائد ومدائح، وأولوه جهداً وبادلوه حباً وإعجاباً.
منذ الصفحات الأولى يستشهد يواكيم بنص لجبران خليل جبران يقول فيه: «أنا لبناني ولي فخر بذلك، ولست بعثماني ولي فخر في ذلك أيضاً. (...) أنا مسيحي ولي فخر بذلك، ولكني أهوى النبي العربي وأكبر اسمه، وأحب مجد الإسلام وأخشى زواله (...). أنا أجلّ القرآن، ولكني أزدري من يتخذ القرآن وسيلة لإحباط مساعي المسلمين، كما أنني أمتهن الذين يتخذون الإنجيل وسيلة للتحكم برقاب المسيحيين (...)». هكذا منذ بداية القرن التاسع عشر، حشد أدباء العرب طاقاتهم الإبداعية للدفاع عن العروبة «وكان الإسلام في نظرهم صنو العروبة والمرجعية الثقافية لهم».
أسماء نعرفها، وأخرى لم نكن قد تنبهنا لهذا الجانب لديها، يؤطرها يواكيم بدراسة، هي من لطائف الإصدارات الجديدة، موثقة، يستعيد فيها النصوص التي كتبت، ويضعها في سياقها الذي ولدت به، مع ما يشبه التأريخ لحياة كل أديب، والتعريف السريع بنتاجه ومكانته. معلومات وكتابات، من مختلف أرجاء المنطقة العربية، حين يصبح بعضها إلى جانب بعض، تعطي فكرة واضحة عن أجواء السماحة التي سادت بلداناً اشتعلت بعد ذلك، بفعل التأليب والتجييش، حروباً مذهبية ودينية، ذهبت بها إلى التفتت والتشظي.
في الكتاب أشعار عن النبي (صلى الله عليه وسلم) وعيدي الفطر والأضحى، وصلاة الاستسقاء، وقصائد تستوحي سوراً من القرآن، ومكة، وذكرى الهجرة النبوية، وهلال رمضان، والغزوات. لا تكاد تجد مناسبة إسلامية إلا وينبري لها شاعر مسيحي يشارك فيها المسلمين مشاعرهم.
الشاعر اللبناني المعروف صلاح لبكي ينشد في قصيدته «غرباء» متوسلاً التفاتة من النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) لأن روح الجاهلية تسود المجتمع. وهو يتوجه إليه برسالته قائلا:
أرسل سلامك في الأنام محمدُ
عظمت مآثمهم وعزّ المرشدُ
عادوا كأنك لم تكن نور الهدى
للعالمين ولم يحن لك موعدُ
وغدوا وروح الجاهلية روحهم
في كل أرض يزدهي ويعربدُ
الشاعر الفلسطيني كمال ناصر الذي اغتالته إسرائيل في بيروت عام 1973 مسيحي بروتستانتي، لكنه بعد اغتيال غسان كنفاني عام 1972 من قبل إسرائيل أيضاً، شعر باقتراب الخطر، وطلب أن يدفن إلى جانبه. وفي قصيدته «اليتيم» التي نشرت في ديوان «بواكير» بعد وفاته، استعادة ليتم النبي (صلى الله عليه وسلم) بالقول:
أحمد ذلك اليتيم المفدّى
رفع الحق فاستوى في نصابِه
شعَّ في غابر الزمان نبياً
بهر الكائنات وهج شهابِه
حمل المشعل الذي مزّق الجهل
إلى ذروة الهدى وهضابِه
وبالطبع ليس هناك أشهر من قصة المبدع مارون عبود الذي ولد له صبي فسماه «محمداً»، وكان أشد من أعجب بالفكرة كاتب مسيحي لبناني آخر شهير هو أمين الريحاني. وفي ديوان مارون عبود «الزوابع» قصيدة يدافع فيها عن اختياره الاسم بقوله:
خفف الدهشة واخشع أن رأيت
ابن مارون سميّاً للنبي
أمه ما ولدته مسلماً
أو مسيحياً ولكن عربي
والنبي القرشي المصطفى
آية الشرق وفخر العرب
يذكر الكتاب كثيراً من النصوص والقصائد التي استلهمت معاني القرآن الكريم، وألفاظه، وأسلوبه، وبلاغته، مما يري بوضوح مدى اطلاع هؤلاء الكتاب على النص القرآني ومعرفتهم به؛ ومنهم من حفظه، والبعض عدّ أن لغته العربية وفصاحته لا تستوي من دون هضم القرآن.
وكان هؤلاء الكتاب في كثير من الأحيان، البوصلة التي تقوّم الاعوجاج، ويعدّون أنفسهم مسؤولين عن درء الفتنة حين تفتك بأصحاب الأديان. فقد انتهز الشاعر اللبناني شبلي الملاط عام 1924 مناسبة اجتماع مسلمين ومسيحيين أمام الجامع العمري الكبير في بيروت، للاحتفال بالمولد النبوي بالشراكة معاً، ليخاطبهم بقصيدة يقول لهم فيها:
والله ما قال المسيح تباغضوا
حتى نكون ولا كتاب محمد
لكنما أيدي الجهالة بدلت
أبناء هذا القطر شرّ مبدد
ويل لنا أيام يأتي بعدنا
أولادنا ويرون هول المشهد
كم من وليد سوف يلعن جده
وأباه وهو يود لو لم يولد
من طرائف الكتاب ما يذكره فارس يواكيم عن جبران التويني الجد (1890 - 1947) الذي كتب قصيدة عن مناسك الحج تظن وأنت تقرأها أنه أدى هذه الفريضة الإسلامية وعرف مناسكها:
طاف بالبيت محرماً وتهيّا
للقاء الرحمن برّاً نقيا
ومشى من منى إلى عرفات
يذكر الله بكرة وعشيا
ويناجي النبي في مهبط الوحي
هنيئاً لمن يناجي النبيّا
الكتاب بطبيعة الحال ليس حكراً على اللبنانيين، وإن بدا عددهم كبيراً، فهناك الشاعر الفلسطيني نقولا حنا (1923 - 1999) الذي كتب ذات يوم: «قرأت القرآن فأذهلني، وتعمقت فيه ففتنني، ثم أعدت قراءته فآمنت».
وهنا لا بد من ذكر الشاعر السوداني عزيز التوم منصور، المولود سنة 1920، الذي كتب قصيدة جميلة عند حريق المسجد الأقصى في 21 أغسطس (آب) 1969، والتهمت النيران الجناح الشرقي منه ومنبر صلاح الدين، مناجياً المسجد:
يا قبلة الدنيا وفي
نفسي إليك هوى صريح
إني بكيت عليك أمس
كما بكيت على المسيح
وبطبيعة الحال، فإن واحدة من أشهر القصائد التي كتبها شاعر مسيحي عربي في مكة قبلة المسلمين هو سعيد عقل. وهي قصيدة طارت شهرتها بعد أن لحنها «الأخوان رحباني» وشدَتْها فيروز، «وكلهم مسيحيون»، بصوتها العذب الدافئ:
غنيت مكة أهلها الصيدا
والعيد يملأ أضلعي عيدا
ولعل واحداً من الأبيات اللافتة في هذه القصيدة الرائعة هو الذي يقول:
يا قارئ القرآن صلّ لهم
أهلي هناك وطيّب البيدا
من راكع ويداه آنستا
أن ليس يبقى الباب موصودا
ويقول مؤلّف الكتاب فارس يواكيم في سعيد عقل إنه «على عكس معظم الشعراء الذين ورد ذكرهم في هذا الكتاب، وكان الإسلام والعروبة لديهم وجهين لعملة واحدة، ومدخلهم إلى الإسلام باب العروبة، يفصل سعيد عقل بين الاثنين جذرياً. وتبقى علاقته بالإسلام روحية ومن دون عروبة. وهو قرأ القرآن جيداً، ويلمس القارئ ذلك في بعض أبياته».
يشرح يواكيم أن اكتشافه أن «مؤسسة جائزة عبد العزيز سعود البابطين للإبداع الشعري» قد نشرت عام 2006 كتاباً تجمع فيه ما كتبه «شعراء النصارى العرب عن الإسلام... نصوص شعرية»، لم يمنعه من مواصلة مشروعه في إصدار هذا الكتاب، وأراد أن يميزه بأن يعرّف بهؤلاء الشعراء ويوضح مسارات كتاباتهم، ويكشف أسماء لأدباء إضافة إلى التي جمعتها مؤسسة البابطين... «والهدف معرفة الآخر، وتبديد أسباب التعصب، طالما أن الإنسان عدو ما يجهل».



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!