للقراءة مزاجُها كما الكتابة... هي عادة شديدة الخصوصية، تتنوع طقوسُها بحسب الحالة النفسية وجاذبية الكتاب وهوية المؤلِف. نطالعُ كثيراً، وماذا بعد؟ قد ننسى ما قرأنا بمرور الزمن، وربما ترافقنا صفحاتٌ ما حيينا، تمسنا في الصميم، خصوصاً إن تقاطَعت حالُنا لحظة التلقي مع حالِ الكاتب حين خطَّ سطوره.
يبني القارئ صلة مع المؤلِف منسوجة بحبالِ أفكاره وكلماته، ويحكمُ من خلالها على عِلمه وموهبته ولغته ونضوجه، فيصير يعرفه وإن لم يلتقِه يوماً، فكيف لو حظي بامتياز دخول عوالمِه والاقتراب منه؟ حينها يقابِلُ أي إصدار جديد بلهفة مضاعَفَة وعينٍ أكثر فضولاً وغوصاً في التفاصيل، كأنه أمام قراءتين متزامنتين؛ يقرأ المؤلِف والمؤلَّف.
قرأتُ غسان تويني بعمقٍ للمرة الأولى طالبةً جامعيةً تتأهب بأحلامٍ تُحلّق للانتماءِ إلى فضاءات السلطة الرابعة، وكان كتابُه الكبير «سر المهنة وأسرار أخرى» خريطة طريق لممارسة الصحافة حتى الثمالة، والإطلالة عبرها على أوجاعِ وطنٍ ومنطقة. غير أن ما تركَ أعمقَ الأثر في وجداني، ولا يزال، كتابه الأخير الصادر أولاً بالفرنسية تحت عنوان: «Enterrer la haine et la vengeance»، قبل ترجمته إلى العربية تحت عنوان: «فلندفن الحقد والثأر».
كتابٌ يُقرأ بالقلبِ، بالعقلِ، هو وصية حياة طبَعَتها التراجيديا، وكلمة ما قبل انسدالِ الستارة الأخيرة. فيه يعاود تويني المسيرَ في دروبِه وهو يودعها، ويقدّم دروساً معيشة عن الحياة في كنفِ الموت، وهو الذي وارى كل من أحب؛ طفلته وزوجته وابنه الشاب، وصولاً إلى الاغتيال الفاجع لآخر فلذاته؛ جبران.
يحدثُ أن ننشُدَ أحياناً كتباً غربية الهوى عما بات يعرفُ بـ«موضة مساعدة الذات والترقي في الحياة». عشراتُ الإصدارات تتشابه وتتكاثر زاعمة كشفَ أسرارِ النجاح، وبينها ما وضعَه دونالد ترمب قبل اقتحامه البيت الأبيض في إنجازٍ يكادُ يقارب الإخفاقَ لشدة إثارته للجدل. وقد نلجأ إلى روحانية جلال الدين الرومي وفلسفته وانعتاقه، يغرينا الانبهار الغربي به بإعادة اكتشافِه. لِمَ الذهاب بعيداً وعميد الصحافة اللبنانية الراحل يهِبُنا، برقي وتواضع وإيمان، كل ذلك وأكثر من دون أن يفقهَ على الأرجح أنه يفعل.
عند وضعِه هذا الكتاب كان غسان تويني بالنسبة إلي حاضناً مهنياً وراعياً ومتابعاً، لا مجرد أسطورة موسوعية بُهِرت بها تلك الطالبة الجامعية حين حلمت بـ«سر المهنة وأسرار أخرى». بخطٍ أنيق خاطبَ «العزيزة سوسن» في الإهداء بأنه «يريد الإيمان بلبنانٍ أفضل». لكن سوسن، كاتبة السطور، لم تكن تبحث عن الوطن في هذا المنشور بالذات، فقد تجلى على الصفحات تويني الإنسان؛ قوياً وضعيفاً، عاشقاً وفناناً، حتى في تحليلات الصحافي والدبلوماسي صانعِ القرار رقم «425»، والنائب بعمرِ 24 سنة، والوزير المستقيل احتراماً لقناعاته، كما ظهَر المسيحي المشرقي العروبي المنسجم مع الإسلام والمسلمين والدارس للقرآن.
بدأتُ الكتاب وفي داخلي مرارة وأسى وندوب رحيل أمي المفاجئ، فوجدتُ صدى لألمي، ونفساً كبيرة تتعالى على وجعٍ لا نظير له إلا في الملاحم الإغريقية. يقول غسان تويني إن الشك الذي يجتاحُ من خسر عزيزاً والعذاب الذي يلحِقه المرء بنفسه حين يغرق في بحور التساؤلات، يُفضيان إلى استيقاظ الإيمان ويطلقان الطاقة الكامنة في الصلاة. لكنه يقر بشجاعة صادقة بأنه شهِد لحظاتٍ سحقَه الألم فيها واعترته رغبة الانصياعِ طائعاً إلى قعرِ الحزن العميق ليصمتَ هناك ويذوي، فإذا به يعود إلى نفسه المكلومة. المأساة أوجدت لذاته ذاتاً أخرى، كما يكتب. تلك الذات الثكلى دعت من على مذبح الكنيسة إلى دفن الأحقاد مع جسد جبران المُفجَّر. تسامحُه، وفق وصفه، يعني «القبولَ بأموٍر لا أؤمن بها ولا أستطيع استيعابها»، راجياً الفَلاحَ في نقلِ «بعضِ ما أفكرُ وما أكون».
أما «لبنان الأفضل» الذي كان يأمل فيه، فلا يزال بعيد المنال. قبل خمسة أسطر من نهاية الكتاب يجزمُ بثقة صادمة بأن «الحرب لم تضع أوزارها يوماً». كان يقصد الحرب التي وصفها سابقاً بأنها «من أجل الآخرين» على أرضِ لبنان. الحروب الصغيرة في ذواتنا مع خسائر الحياة والموت، مقدورٌ إنهاؤها بالصبر والتفكير والرضا والتسامح كما فعل غسان تويني، لكن تلك الحروب اللبنانية الصغيرة المتنامية سياسياً ومذهبياً وعسكرياً كما دارَ ذات أيار في شوارع بيروت، كيف نواجهها وننهيها؟
* صحافية لبنانية
غسان تويني ووصية حياة
غسان تويني ووصية حياة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة