نهاد المشنوق.. فنان في بيته.. صقر في «الداخلية»

جرأة الوزير اللبناني دفعته لتحدي أبو إياد صغيرا.. والنظام السوري كبيرا

نهاد المشنوق.. فنان في بيته.. صقر في «الداخلية»
TT

نهاد المشنوق.. فنان في بيته.. صقر في «الداخلية»

نهاد المشنوق.. فنان في بيته.. صقر في «الداخلية»

كان لافتا جدا، أن يصل نهاد المشنوق إلى منصب وزير الداخلية، في حكومة الرئيس تمام سلام. فهو، على الرغم من تصنيفه على أنه «صقر» من صقور تيار «المستقبل» الذي يرأسه الرئيس السابق للحكومة سعد الحريري، إلا أن شخصيته تحمل في طياتها الكثير من المعاني «غير العسكرية»، فهو قارئ نهم، ومثقف بارز، وصحافي لامع تنقل في حياته المهنية بين كبريات الصحف، بالإضافة إلى أنه سياسي من الطراز الأول.
لكن المشنوق، نجح في أيامه القليلة في وزارة الداخلية، في أن يثبت نفسه بين «الكبار» الذين تعاقبوا على الوزارة لسرعة تأقلمه مع الدور الجديد وقيامه بدوره الجديد ببراعة لافتة. والوزير المشنوق هو رجل عصامي تدرج في حياته المهنية والسياسية من صحافي على علاقة وثيقة بالقيادات الفلسطينية، إلى مستشار سياسي وإعلامي للرئيس الراحل رفيق الحريري الذي كان صاحب الفضل الأكبر في استقرار المشنوق، ثم نائب في انتخابات عام 2009، فوزير للداخلية.
دفع المشنوق ثمنا لمواقفه من النظام السوري، بالنفي عن وطنه أكثر من مرة، أولها لمواقفه ضد السياسة السورية في لبنان عام 1976، وآخرها عام 1998 عندما أجبر على المغادرة إلى باريس بناء لتمنيات سوريا تحدثت عن اشتباه بعلاقاته مع إسرائيليين، لم تنته إلا بعد خمس سنوات بعودته بوساطة من طه ميقاتي، شقيق رئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي.
يقول المشنوق في حديث سابق «في اللحظة الأولى التي اختارني فيها رفيق الحريري لأكون أحد معاونيه في لبنان سنة 1989، كان واضحا أن الموقف السوري مني هو موقف سلبي، وعبر عن ذلك نائب الرئيس السوري عبد الحليم خدام بالقول له (شو بدك فيه لنهاد المشنوق، هذا صوفته حمراء)، فرد الحريري مازحا (بسيطة منغسلها بتصير زهر)». ولم يأخذ بهذه النصيحة من بدايات العمل معه.
من الملاحظات المهمة على شخصية المشنوق هي علاقته بطائفته، فهو يتصرف على أنه «سني سكر زيادة». يقول عنه أحد أصدقائه، إنه «يجسد في شخصيته التحولات التي شهدتها طائفته، عندما انتقل من يسار الثورة الفلسطينية إلى يمين قوى (14 آذار). عاصر المشنوق كل الوجوه السنية الأساسية، فكان مقربا من الرئيس السابق للحكومة تقي الدين الصلح ممثل السنية البيروتية المدنية، وغادر معه إلى المنفى عندما ضغط عليه السوريون، ولم يتركه إلا عندما عاد إلى بيروت في زيارة خاطفة، توفي خلالها الصلح من دون أن يتمكن المشنوق من أن يحمل إليه البيجاما التي أوصاه عليها من محلات عريقة في بيروت، يكون لونها زهريا فاتحا مع خطوط مقلمة.
عاصر المشنوق الثورة الفلسطينية بما تحمله من معان سنية فوق كيانية، وصولا إلى رفيق الحريري ببعديه السني اللبناني صاحب المشروع الإنمائي ورفيق الحريري الشهيد. يحمل المشنوق في داخله جرأة كبيرة للغاية، تصل أحيانا إلى حد التهور، مثلما فعل عندما «سرق» ملف التحقيق في اغتيال المسؤول الفلسطيني أبو حسن سلامة في السبعينات من على مكتب المحقق الفلسطيني، ونشره في مجلة «النهار العربي والدولي»، فكان أن تحول من صديق لأبو إياد، المسؤول الفلسطيني الشهير، إلى طريد له، فنام ليله متنقلا، إلى أن احتمى بصديق أمّن له عفو أبو إياد، فيما تكفل هو في اللقاء الأول الذي جمعه به بعد الحادثة بإعادة الصداقة إلى مجراها الطبيعي.
يقول أحد المقربين جدا من الوزير المشنوق لـ«الشرق الأوسط» إن «لدى المشنوق نقطة ضعف وقوة واحدة، وهي ثقته الشديدة بالنفس». ويشير إلى أن المشكلة هي أن هذه الثقة تجعله يتخذ قرارات متطرفة، مشيرا إلى أن رصيده الشخصي كاف لتغطيتها، كواقعة وجود مسؤول حزب الله الأمني وفيق صفا على طاولة اجتماع أمني رسمي تحت أضواء كاميرات الصحافيين.
يقول المقربون من وزير الداخلية إن «المشنوق كان واضحا في حديثه إلى صفا من أنه لا يعد وجوده حوارا ثنائيا ولا تنسيقا أمنيا بين الداخلية والحزب، فنحن نتحاور مع الحزب في (القصر الجمهوري) في بعبدا، لكني أتحاور معك كقوة أمر واقع في سوريا لأن الحوار مع النظام غير ممكن والحوار مع المعارضة (السورية) لا يجدي». ويقول صديق للمشنوق إن «هذه الخطوة لا يقوم بها أي من كان، إلا إذا اعتقد أن لديه رصيدا كافيا لعدم تخوينه من قبل حلفائه».
لكن هذا الرصيد لم يكن كافيا تماما، إذ تصاعدت أصوات من داخل تيار المستقبل تندد بخطوة المشنوق وصولا إلى دعوة الصحافي فارس خشان المشنوق إلى الاستقالة، قائلا في مقالة نشرها على موقع «يقال» إن «ثمة من يريد أن يقنعنا بأن مجرد وصول شخصه العظيم إلى السلطة، يقلب المعطيات، ويصحح الأخطاء، ويسمح بجعل الأسود أبيض، والتعاطي مع الذئب على أنه حمل، ويجعل القبور المكلسة صالونات فخمة؟». ويضيف «هل يعرف هؤلاء الذين احتفلوا بمطرقة العدالة أن وفيق صفا، يعد بالمقارنة، مع مصطفى بدر الدين - كبير المتهمين باغتيال رفيق الحريري - مجرد حاجب».
أما الجانب الآخر من شخصية المشنوق، فيتحدث عنه الصديق بحماسة بالغة، قائلا إن «كل الوقار والهيبة في شخصية المشنوق، تسقط، ويتحول إلى ابتسامة طفولية عندما يبدأ الحديث عن اللوحات والقطع الفنية، فيصبح بينها كطفل صغير في متجر للألعاب، أو عندما يتحدث عن ابنته ثريا، أول العنقود الذي تربطه بها علاقة مميزة».
مجموعته الفنية النادرة، تترجم شخصية المشنوق وتجربته واهتماماته، وهي تضم أعمالا لبنانية وعراقية وسورية ويمنية ومغربية، وصولا إلى مالي. فالمشنوق حريص أن يأتي من كل مدينة يزورها بما يمثل تراثها وفنها، ولذلك فعندما تتجول في بيته، تشعر وكأنك تتنقل من مدينة عربية إلى مدينة أخرى، حتى احتاج معها إلى المزيد من الجدران لتعليق لوحاته.
ويؤمن المشنوق بالترويج للفن اللبناني، فاللوحة التي تظهر للناس خلال استقبالاته هي من أعمال الفنان اللبناني نبيل نحاس بعث إليه برسالة شكر على عرضها لظهورها في كل وسائل الإعلام خلال استقبالات المشنوق. وكان المشنوق بالتنسيق مع زميلته الراحلة ريما تقي الدين، قد أقنع الرئيس الحريري بتقديم هدايا للمسؤولين في البلدان التي يزورها من أعمال الفنانين اللبنانيين.
ويمتلك المشنوق مجموعة فنية استثنائية، فلديه أهم لوحات لفنانين عربا، كلؤي كيالي وعاديل سيوي وعارف الريس وإسماعيل فتاح وأيمن بعلبكي، كما لديه مجموعة أخرى جميلة وثمينة من السجاد. حياته العاطفية مثيرة للاهتمام. فالرجل تنقل بين جميلات سماهن في مذكراته التي حملت اسم «النفي الرباعي» أسماء حركية كـ«المرجة الخضراء» التي كان يغازلها بشغف، إلى أن خيرته بين حياة المغامرات السياسية التي يعيشها، والمغامرة العاطفية معها. وبين البقاء معها في باريس، أو العودة إلى بيروت بعد تعرضه للاعتقال على حاجز للجيش السوري بينما كانا يتنزهان، اختار بيروت. عندما عاد تعرف على «عروس الحي» أحبها، وكانت من طائفة أخرى، فانتهت علاقتهما المعقدة بسفرها إلى الخارج، فاتت علاقته الثالثة مع «أم صالح» التي كانت تقليدية بعض الشيء، لكنها حملت له أجمل ما في حياته، ابنته ثريا، ثم ابنه صالح، فالابنة ديما. انتهت هذه العلاقة عمليا بعد عودته إلى بيروت من المنفى الرابع في باريس، حتي تزوج الإعلامية ليلى وهبة ورزق منها بابنته سارة.
أناقة المشنوق كانت مضرب مثل منذ الصغر. فالشاب البيروتي القادم من عائلة متواضعة ماديا، كان لا يظهر إلا على درجة عالية من الأناقة بين زملائه الطلاب، حتى في أشد أيام الحرب، لدرجة لقب معها بـ«المكوي» لظهوره دائما وكأن المكواة مرت على ثيابه للتو. وكان المشنوق يظهر ببدلته البيج، كعلامة فارقة في اجتماع القوى الفلسطينية التي كان مقربا من قياداتها، تفوح رائحة عطره بين شخصيات يعفرها تراب الميدان. أما اللافت، فكان أن المشنوق حافظ على أناقته هذه، في سجن للاستخبارات السورية قضى فيه عدة أيام بسبب انتقاده السياسات السورية، فخرج من السجن ليصل إلى الفندق أكثر ترتيبا وأناقة من الكثير من مستقبليه.
وبين صوته الأجش، الذي يعتبر من علاماته المميزة، وشخصيته المسيطرة، يقول الصديق إن «المشنوق ليس نكهة بديهية، فعليك أن تعود نفسك عليه»، ويضيف: «أما إذا رأيته للمرة الأولى وخرجت بانطباع سريع، فليس من السهل أن تكون صديقا له»، ليتابع مؤكدا أن للمشنوق «قلب طفل حقيقيا».والمشنوق مثقف استثنائي، كما يقول عنه عارفوه، وهو متابع وقارئ نهم. يناقش ويهاتف الكثير من المفكرين والإعلاميين أسبوعيا، فلديه حجم ثابت من الاتصالات لمتابعة ملفات مصر وسوريا والعراق.
العقل المنظم للمشنوق، جعله يدرك سريعا ما يمكن – وما لا يمكن – إنجازه في العمر الافتراضي القصير للحكومة. حدد سريعا ثلاث أولويات للعمل عليها، حيث يمكنه الإنجاز في الوقت الذي تتيحه له الفترة المتبقية من ولاية رئيس الجمهورية.
الملف الأول، هو ملف السجون الذي يحظى باهتمام لافت من المشنوق، وكأنه كان يبحث في معالجته قبل أن يعرف أنه آت لتسلم وزارة الداخلية، فكان أول نشاط قام به في مؤتمر وزراء الداخلية العرب البحث مع نظرائه العرب في كيفية مساعدة لبنان على تخطي هذه الأزمة. ومبعث قلق المشنوق أن القدرة الاستيعابية للسجون اللبنانية لا تتناسب مع أعداد السجناء، ما جعل بعض هذه السجون حصينة على الضبط من قبل القوى الأمنية.
بعد توصله إلى تفاهمات مبدئية مع بعض الوزراء العرب، لتبني إنشاء أربعة سجون في المناطق اللبنانية، ينصب اهتمام المشنوق اليوم على السجن المركزي في رومية. أنشأ لجنة مختصة لمتابعة الملف، أدخل فيها المعنيين بالأمن، والمعنيين بالمال، ومن بينهم رئيس جمعية المصارف والمسؤولين الأمنيين والقضائيين، علما أن هذه المقاعد لا ترتبط بشاغلها، بل بمنصبه، فإذا تغير الشخص يحل محله من يشغل المركز. كما استعمل علاقاته الشخصية لدفع أصدقائه من رجال الأعمال للاستثمار في الأمن من خلال التبرع لدعم عملية إعادة تأهيل السجون.
يقول المشنوق لـ«الشرق الأوسط» إنه «حازم جدا في مسألة السجون»، مشددا على أنه سيتم في نهاية المطاف الدخول إلى مبنى السجناء الإسلاميين حتى لو أدى ذلك إلى سقوط الدماء، فأنا موافق على ذلك. ويرى المشنوق أن معالجة هذا الملف من خلال تحسين وضع مباني السجون، ومعالجة ملف السجناء الخطيرين، ولو بالقوة في نهاية المطاف، أمر لن يجرؤ وزير غير سني على القيام به.
الملف الثاني، هو الملف الأمني الذي كان الأكثر ضغطا على لبنان، مع ظاهرة الانتحاريين الذين ضربوا في الكثير من المناطق اللبنانية، والتي لم يكن من الممكن معالجتها – كما يقول المشنوق – من دون معالجة العوامل الكاملة، فكان أن تحدث بوضوح عن «مربع الموت» الذي يشكله تجار السيارات المسروقة مع المفخخين والمفجرين، بين بريتال وحي الشراونة والنبي شيت الشيعية وعرسال السنية.
في هذا الملف أيضا، كان المشنوق الأكثر قدرة على التحرك. أعاد الاعتبار إلى قوى الأمن الداخلي كشريك للجيش في حفظ الأمن، بدلا من أن تكون تابعا. ويقول: «لقد كان ينظر إلى قوى الأمن نظرة دونية، لا معنى لها. فعلى الرغم من أن كثيرها أقل من كثير الجيش، غير أنها قادرة على القيام بواجباتها إذا ما أتيحت لها الفرصة، وهذا ما حصل، فبدأ تدحرج الخطط الأمنية، من الشمال والبقاع وصولا إلى العاصمة.. أما الضاحية الجنوبية، حيث معقل حزب الله، فلها ظروفها المرتبطة بالحوار الدائر حول سلاح الحزب. ويستدرك قائلا على أي حال، وضع الضاحية مضبوط اليوم أكثر من أي وقت مضى بسبب الإجراءات الأمنية المتخذة لمكافحة التفجيرات، فلا يخرج منها ولا يدخل حتى دراجة مخالفة.
ويشير المشنوق إلى أن التنسيق بين الجيش وقوى الأمن، وغيرها من القوى الأمنية الأخرى المرتبطة بوزارة الداخلية أعطى ثمارا إيجابية جدا. فالجيش ارتبط اسمه في بعض الأحيان في أذهان بعض اللبنانيين بعدم الحياد حيالهم، ولهذا كنت مصرا على قيام الطرفين بدورهما معا، في طرابلس وفي البقاع وبيروت. مشددا على أن التنسيق الأمني بات في أعلى درجاته بين الجانبين، حتى إن لوائح المطلوبين باتت موحدة بين الطرفين. وفي مجال آخر يؤكد المشنوق أن التنسيق الأمني بين شعبة المعلومات والاستخبارات الغربية عاد في ملف الإرهاب بعد توقف طويل إثر اغتيال العميد وسام الحسن.
أما الملف الثالث، فهو ملف اللجوء السوري إلى لبنان. فعدد النازحين يقترب من الحدود الخطرة، ويقول المشنوق إن «الأمر سيحتاج في نهاية المطاف لإجراءات قاسية قد يكون من بينها وضع قواعد صارمة لدخول اللاجئين إلى لبنان». مشيرا إلى أنه لا يمكن من الناحية الإنسانية منع لاجئ هارب من الموت، لكن هناك بعض اللاجئين الذين يأتون إلى لبنان من مناطق تعتبر آمنة في سوريا، وهذا أمر غير مقبول ويجب الحد منه. ويخلص المشنوق إلى أن إقفال الحدود بطريقة ما سيكون الأمر الصحيح الواجب القيام به، نتيجة الضغط الكبير للاجئين على البنية اللبنانية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.



حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
TT

حذر روسي في التعامل مع «انفتاح» ترمب على كسر الجليد مع موسكو

من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)
من لقاء الرئيسين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 2018 (آ ب)

طوال فترة الحملات الانتخابية في الولايات المتحدة، حرص الرئيس المنتخب دونالد ترمب على تأكيد قدرته على كسر كل الحواجز، وإعادة تشغيل العلاقات مع موسكو عبر تفاهمات سريعة وفعالة لوقف القتال في أوكرانيا، ووضع خريطة طريق لمعالجة الملفات الخلافية المتراكمة مع الكرملين. وقبل أيام قليلة من تسلم صلاحياته رسمياً، برزت اندفاعة جديدة من الرئيس الجمهوري نحو روسيا، عندما أعلن استعداده لتنظيم لقاء عاجل مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين يرسم ملامح العلاقة المستقبلية ويضع خطط إنهاء الحرب وتخفيف التوتر على مسار التنفيذ. لكن اللافت أن هذه التصريحات لم تُقابَل بشكل حماسي في روسيا. بل فضَّل الكرملين التزام لهجة هادئة تؤكد الانفتاح على الحوار، مع التذكير في الوقت ذاته، بعنصرين ضروريين لنجاح أي محاولة لكسر الجليد بين البلدين، أولهما اتضاح الملامح الأولى لرؤية الرئيس الأميركي الجديد لتسوية الملفات الخلافية المتراكمة، والآخر التذكير بشروط الكرملين لإنهاء الحرب في أوكرانيا. وبالتوازي مع ذلك، بدت تعليقات الأوساط المقربة من الكرملين متشائمة للغاية، حيال فرص إحراز تقدم جدّي على أي مسار... لا في الحرب الأوكرانية ولا العلاقات مع «ناتو»، ولا ملفّات الأمن الاستراتيجي في أوروبا.

لا ينظر أحد في روسيا بجدية إلى إمكانية تحقيق قفزات سريعة تؤدّي إلى تحسّن العلاقات مع الولايات المتحدة، وتضع إطاراً واقعياً للحوار حول الملفات الخلافية. وعلى الرغم من أن الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب صرّح مرّات عدة بأن موقف روسيا يمكن فهمه، وأن سبب الصراع كان إلى حد كبير السياسة المناهضة لروسيا التي تنتهجها «الدولة العميقة» الأميركية، فإن الأوساط الروسية تنظر بريبة إلى قدرة ترمب، العائد بقوة إلى البيت الأبيض، في تجاوز الكثير من «المطبّات» التي تعترض طريق إعادة تشغيل العلاقات بين موسكو وواشنطن.

رسائل روسية واضحة

في هذا الصدد، كان لافتاً أن موسكو تعمّدت توجيه رسائل واضحة إلى الإدارة الأميركية الجديدة، عبر إطلالتين إعلاميتين لشخصيتين تعدّان من أبرز المقربين لبوتين، هما وزير الخارجية سيرغي لافروف والمستشار الرئاسي وعضو مجلس الأمن الروسي نيكولاي باتروشيف. وفي الحالتين كان التوقيت وشكل التعامل مع «اندفاعة ترمب» يحظيان بأهمية خاصة.

جوهر كلام المسؤولين ركّز على قناعة بأن العالم قد يكون أمام «فرصة حقيقية للسلام» في عهد ترمب، بيد أن الانفتاح الروسي على الحوار مرتبط باستناد هذا الحوار إلى أسس «مبادرات ملموسة وخطوات ذات معنى بشأن الاتصالات على أعلى مستوى»، والأهم من ذلك، أن تتوافر لدى ادارة ترمب «اقتراحات محددة» بشأن أوكرانيا، وفق تعبير لافروف.

والاقتراحات المحددة المطلوبة روسياً، ينبغي أن تنعكس - كما قال الوزير – بـ«جدية في الاستعداد لحل المشاكل المتراكمة عبر الحوار لا عبر الضغوط والتهديدات» التي لم ينجح سلف ترمب في معالجتها.

وفي إشارة ذات مغزى، قال لافروف إنه «من المفيد أن نرى ما هي الأساليب التي سيستخدمها ترمب لجعل أميركا أعظم». وهذه عبارة أكملها باتروشيف بقوله: «هل سيكون ترمب قادراً على ترجمة نواياه بالكامل؟ وكما أظهرت ولايته الأولى، فإن (الدولة العميقة) السيئة السمعة في الولايات المتحدة... قوية للغاية».

أوكرانيا «رأس الأولويات»

الموقف الذي أعرب عنه المسؤولان الروسيان ينطلق من «الاستعداد للمناقشة والاتفاق على أي شيء باستثناء شيء واحد - أوكرانيا. (...) لقد عبّرنا عن موقفنا مراراً وتكراراً، وهو موقف لا يمكن تغييره». وفي هذا الإطار، لوّح لافروف بأنه إذا توصّلت روسيا إلى استنتاج مفاده أن واشنطن ستواصل دعم «النظام النازي المعادي في كييف» فإنها (أي موسكو) ستضطر إلى اتخاذ قرارات صعبة. في حين قال باتروشيف إن أوكرانيا «قد تختفي عن الخريطة خلال هذا العام» إذا استمرت السياسات الغربية السابقة.

الرسالة الروسية الثانية لترمب كان فحواها أن أي تسوية أو ضمانات لأوكرانيا، يجب أن تكون مرتبطة باتفاقيات أوسع نطاقاً. وهنا قال لافروف إن «روسيا مستعدة لمناقشة الضمانات الأمنية لأوكرانيا، لكنها يجب أن تكون جزءاً من اتفاقيات أكبر». بينما أوضح باتروشيف أنه بالإضافة إلى التوصل إلى ترتيبات أمنية في القارة الأوروبية «يجب وقف التمييز ضد السكان الروس في عدد من البلدان، وبالطبع، في دول البلطيق ومولدوفا».

أما النقطة الثالثة التي تحدّد شروط الحوار، فتنطلق من ضرورة البدء بمنح روسيا ضمانات كاملة عبر ملفي: وقف مسار ضم أوكرانيا إلى حلف شمال الاطلسي (ناتو) وتأكيد حيادها لعشرات السنوات، وتقليص القدرات العسكرية لهذا البلد ومنع تسليحه مجدداً.

هكذا، ترى موسكو المدخل الصحيح للحوار، الذي يجب أن يتأسس - كما قال الرئيس الروسي سابقاً - على قاعدة الإقرار بالتغييرات الميدانية التي وقعت خلال سنتين، بما يضمن الاعتراف الغربي بضم شبه جزيرة القرم والمناطق الأربع التي ضمتها روسيا خلال عام 2022.

تشكل هذه القاعدة التي تنطلق منها موسكو سبباً وجيهاً للتوقعات المتشائمة حول فرص إحراز تقدم، تضاف إلى الشكوك المحيطة بقدرة ترمب الفعلية على تجاوز كل العقبات والضغوط الداخلية والانطلاق نحو تقديم تنازلات مهمّة للروس.

يرى خبراء روس أن ترمب لن ينجح في قلب الموازين الداخلية،

لصالح إطلاق تغييرات جذرية في السياسة الخارجية الأميركية

التداعيات على أوكرانيا

كيف يتأثر الوضع في أوكرانيا؟

في هذا الإطار، وضع أحد أبرز خبراء السياسة في «المجلس الروسي للسياسة والأمن»، وهو مؤسسة مرموقة ومقربة من الكرملين، التصور التالي لشكل العلاقة مع ترمب في ملفات رئيسة:

بدايةً، في أوكرانيا ستفشل محاولة ترمب للتوصل إلى وقف إطلاق النار على طول خط التماس. وذلك لأن المخططات الأميركية لـ«وقف الحرب» تتجاهل تماماً المصالح الأمنية الروسية، كما تتجاهل الأسباب التي أدت أولاً إلى الأزمة ثم إلى الصراع العسكري واسع النطاق في أوكرانيا.

في المقابل، لن تقبل واشنطن الشروط الروسية لبدء المفاوضات ومعايير السلام التي أعلن عنها الرئيس فلاديمير بوتين في يونيو (حزيران) الماضي؛ لأنها تعني في الواقع استسلام كييف وهزيمة استراتيجية للغرب. وخلافاً لتوقعات التهدئة، فإن ترمب «المهان»، رداً على رفض خطته، سيعلن دعمه لأوكرانيا ويجمع حزمة أخرى من العقوبات على موسكو. لكنه في الوقت نفسه، سيمتنع عن التصعيد الجدي للصراع؛ كي لا يستفز روسيا ويدفعها إلى ضرب أراضي دول «ناتو»، بما في ذلك القواعد الأميركية الموجودة هناك. ومع هذا، ورغم غطاء الخطاب القاسي المعادي لروسيا، فإن المساعدات الأميركية لنظام كييف ستنخفض، وسيتعيّن على الأوروبيين تغطية العجز الناتج من ذلك. ومن حيث المبدأ، فإن الاتحاد الأوروبي مستعدٌ لذلك، وبالتالي لن يكون هناك خفض كبير في الدعم المادي لأوكرانيا من الغرب في العام الجديد على الأقل.

إلى جانب ذلك، قد تحاول واشنطن، وفقاً للخبير البارز، بدعم من بريطانيا وحلفاء آخرين، تعزيز الموقف السياسي الداخلي لنظام كييف من خلال المطالبة بإجراء انتخابات في أوكرانيا، وبالتالي استبدال فولوديمير زيلينسكي وفريقه المكروهين بشكل متزايد بمجموعة أخرى بقيادة رئيس الأركان السابق فاليري زالوجني. لكن التأثير السياسي المحلي لمثل هذا الاستبدال سيكون قصير الأجل.

العلاقة مع أوروبا

أيضاً، يرى خبراء روس أن ترمب لن ينجح في قلب الموازين الداخلية، لصالح إطلاق تغييرات جذرية في السياسة الخارجية الأميركية. وهذا يعني أنه لن يحقق وعوده حيال علاقة الولايات المتحدة مع «ناتو»، وبدلاً من ذلك، سيرفع السعر الذي يتوجب على الأوروبيين دفعه للانضمام إلى التكتل.

ووفقاً لبعض الخبراء، سيكون لزاماً على الأوروبيين، الذين كانوا يخشون عودة ترمب، أن يقسموا يمين الولاء له. وبالتالي، «لن تكون هناك معارضة ضد ترمب بأي شكل من الأشكال؛ لأن دول الاتحاد الأوروبي تحتاج إلى أميركا زعيمةً: ليس فقط حاميةً عسكريةً، بل وأيضاً زعيمةً سياسيةً ــ لا تقل عن حاجتها إلى روسيا باعتبارها «تهديداً مباشراً على الأبواب».

بهذا المعنى، تتطابق آراء الخبراء في مسألة أن «العداء لروسيا سيظل العامل الحاسم في توحيد أوروبا في عام 2025».

ويضيف بعضهم القناعة بأنه خلافاً للفكرة الرائجة بأن الأوروبيين متردّدون في مواجهة روسيا، بشكل رئيس بسبب الضغوط الأميركية، فإن الحقيقة أن روسيا، باعتبارها عدواً، تشكل عاملاً قوياً في توحيد النخب الأوروبية ودولها. بمعنى أنه كان لا بد من «اختراع التهديد الروسي»، وتقديم الحرب في أوكرانيا باعتبارها المرحلة الأولى من «الاختطاف الروسي لأوروبا».

في السياق ذاته، ينظر إلى الانتخابات المقبلة في ألمانيا، بأنها ستحمل إلى السلطة ائتلافاً جديداً، سيعمل أيضاً على تشديد السياسة تجاه موسكو. ولكن في الوقت نفسه، من غير المرجح إرسال قوات أوروبية إلى أوكرانيا بناءً على دعوة من فرنسا، لأن أوروبا تنظر إلى خطر الصدام العسكري المباشر مع روسيا على أنه مفرط في المخاطرة.

وداخلياً، ينتظر أن تواصل أوروبا الاستعداد بنشاط للحرب مع روسيا - وفقاً لأنماط الحرب الباردة في النصف الثاني من القرن العشرين، لكن على حدود جديدة، تحولت بشكل كبير نحو الشرق. كذلك، سيزداد الإنفاق العسكري للدول، ويتوسع الإنتاج العسكري، وتتحسن البنية التحتية العسكرية، وبخاصة، على الجانب الشرقي لـ«ناتو». وبناءً عليه؛ سيصبح المناخ الاجتماعي والسياسي أكثر صعوبة أيضاً.

وهكذا، بشكل عام، يقول خبراء روس إن عام 2025 عموماً سيكون مليئاً بالصراعات، الممتدة من عهد ولاية الرئيس جو بايدن حول روسيا وفي أوروبا، كما سيكون محفوفاً بالمنعطفات غير المتوقعة والخطيرة.

ومع القناعة بأن الاضطراب الاستراتيجي يتزايد باطراد، فإن نتيجة المعركة من أجل النظام العالمي الجديد ليست مُحددة مسبقاً بأي حال من الأحوال. إذ إن نقطة التوازن الافتراضية في النظام العالمي لا تزال بعيدة كل البعد عن الأفق. وفي هذا الصدد، يرون أن روسيا ستواجه في عهد الإدارة الجديدة تحدّيات جديدة في العديد من المجالات... ولا بد أن تكون مستعدة لها.