الملف الليبي في عهدة غسان سلامة

الأكاديمي والوزير اللبناني السابق يخلف مارتن كوبلر

الملف الليبي في عهدة غسان سلامة
TT

الملف الليبي في عهدة غسان سلامة

الملف الليبي في عهدة غسان سلامة

أقر مجلس الأمن الدولي أخيراً تعيين الأكاديمي والدبلوماسي والوزير اللبناني السابق الدكتور غسان سلامة مبعوثاً جديداً لمنظمة الأمم المتحدة إلى ليبيا، خلفاً للمبعوث السابق مارتن كوبلر، الذي كان ممثلا للأمم المتحدة في ليبيا منذ نوفمبر (تشرين الثاني) 2015. ويذكر أن موضوع خلافة كوبلر، الدبلوماسي الألماني، كان محل أخذ ورد منذ بعض الوقت، ففي شهر فبراير (شباط) رشح أمين عام المنظمة أنطونيو غوتيريش رئيس الوزراء الفلسطيني السابق الدكتور سلام فياض للمنصب. إلا أن الولايات المتحدة رفضت ترشيح فياض، واتهمت نيكي هايلي، المندوبة الأميركية في الأمم المتحدة عبر ترشيحه بمحاباة المنظمة السلطة الفلسطينية على حساب إسرائيل. جدير بالذكر، أن تعيين أي مبعوث دولي خاص للمنظمة لابد أن يحظى بتأييد إجماعي في مجلس الأمن الدولي بكامل أعضائه. وبعد الرفض الأميركي اعترضت روسيا، وكما اعترض أعضاء آخرون على مرشح بريطاني وآخر أميركي، ومن ثم، مدّدت فترة كوبلر في المنصب حتى نهاية يونيو (حزيران) الحالي.
وقبل أيام، وقع اختيار غوتيريش على سلامة، الذي سبق له أن كلف بمهمة دولية في العراق، وحصل الترشيح هذه المرة على الموافقة الإجماعية لمجلس الأمن.
يعد الدكتور غسان سلامة، الذي أسندت مهمة قيادة الجهود الدولية لتسوية الأزمة الليبية، من أبرز المثقفين والمفكرين والباحثين السياسيين في لبنان والعالم العربي. وهو حالياً يقيم في العاصمة الفرنسية باريس ويعمل أستاذا في المعهد العالي للعلوم السياسية – الشهير باسم «سيانس بو» - وهو من أعرق وأشهر الجامعات المتخصصة في حقل العلوم السياسية في العالم. ويتمتع بعلاقات طيبة مع أطراف أكاديمية وسياسية وثقافية عربية ودولية عدة.

بطاقة هوية
يتحدر غسان سلامة من عائلة ريفية مسيحية تنتمي إلى طائفة الروم الكاثوليك في بلدة مزرعة كفردبيان بجرود قضاء كسروان في محافظة جبل لبنان اللبنانية. وهو من مواليد عام 1951، ومتزوج من ماري بوغوصيان، وله ابنة اسمها ليا.
عاش سلامة في كنف أسرته - وكان والده مدرساً ومزارعاً - سنوات طفولته وفتوته. ومنذ نعومة أظفاره استفاد من اهتمام والده بالتعليم والثقافة وأخذ عنه أيضاً حبه الشديد للريف. وفي مقابلة تلفزيونية ذكر سلامة، أن والده كان يطمح له أن يدرس الطب ويغدو طبيبا لانعدام الأطباء في بلدتهم الشهيرة بفاكهتها، كما أشار إلى أن والده كان يدرّس خمسة أيام أسبوعياً كأستاذ ثانوي ويزرع في اليومين الأخيرين من الأسبوع، مع التفرّغ الكامل للزراعة في فصل الصيف. وحقاً، بلغت محبة غسان سلامة حياة الريف التي ألفها، أنه إبّان توليه منصب وزير الثقافة، أسس نحو 30 مكتبة في مختلف أنحاء لبنان.
تلقى سلامة تعليمه الجامعي في جامعة القديس يوسف «اليسوعية» العريقة في العاصمة بيروت، وتخرج فيها مجازاً في الحقوق. ثم سافر عام 1973 إلى فرنسا، حيث تابع تعليمه العالي، فحصل على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة باريس الأولى، وعلى الدكتوراه في الآداب من جامعة باريس الثالثة. وهو يتقن خمس لغات هي العربية والفرنسية والإنجليزية والإيطالية والإسبانية. وتستهويه الفنون والآداب، ولا سيما المسرح والسينما.
بعد عودته إلى لبنان، مارس التدريس الجامعي في الجامعة الأميركية في بيروت وجامعة القديس يوسف، لبعض الوقت. كما درّس في عدد من الجامعات في لبنان وفرنسا والولايات المتحدة منها جامعة كولومبيا بنيويورك.

وزيراً للثقافة
وبين العامين 2000 و2003 أسندت إليه حقيبة وزارة الثقافة في الحكومة التي ترأسها رئيس الوزراء السابق الراحل رفيق الحريري، الذي عرف عنه احترامه له وقربه منه. وتولى خلال هذه الفترة أيضاً منصب الرئيس والمتحدث باسم اللجنة المنظمة للقمة العربية (مارس/ آذار 2002) القمة الفرانكفونية الخاصة بالدول الناطقة كلياً أو جزئياً باللغة الفرنسية (أكتوبر/ تشرين الأول 2002) في العاصمة اللبنانية بيروت.
عام 2003 عيّن مستشارا سياسيا لبعثة الأمم المتحدة في العراق، حيث ساهم في إنشاء «مجلس الحكم الانتقالي» في أعقاب الغزو، ثم الاحتلال الأميركي وإسقاط حكم صدام حسين. وكاد يلقى حتفه في التفجير الانتحاري الكبير الذي استهدف مبنى بعثة الأمم المتحدة في بغداد، وفيه قتل العشرات يومذاك بينهم المبعوث البرازيلي سيرجيو دي ميلو.
وسلامة حالياً عضو مجلس إدارة «المجموعة الدولية لإدارة الأزمات» ومقرها في العاصمة البلجيكية بروكسل، و«المعهد الدولي للسلام» ومقره في نيويورك، وكذلك «مؤسسات المجتمع المنفتح» و«مكتبة الإسكندرية، بجانب رئاسته الصندوق العربي للثقافة والفنون وعضويته مركز الحوار الإنساني (بين 2011 و2015).

مؤلفاته
لغسان سلامة الكثير من المؤلفات باللغتين الفرنسية والعربية، أبرزها:
• المجتمع والدولة في المشرق العربي.
• السياسة الخارجية السعودية منذ عام 1945 دراسة في العلاقات الدولية.
• نحو عقد عربي جديد - بحث في الشرعية الدستورية.
• التسوية «الشروط المضمون، الآثار».
• من الارتباك إلى الفعل التحولات العالمية وآثارها العربية.
• أميركا والعالم إغراء القوة ومداها.

مجدداً مع الأمم المتحدة
مهمة الدكتور سلامة الجديدة، مثل مهمته الدولية الأولى في العراق، لا تخلو من صعوبة. وهي اليوم تأتي وسط ارتباك دولي واسع، وفوضى داخلية عارمة في بلد عربي ومسلم لم يتذوق طعم الاستقرار منذ الانتفاضة الشعبية على نظام العقيد معمر القذافي عام 2011. وتجدر الإشارة إلى أن سلامة بات منذ تعيينه رسمياً في وقت سابق من الشهر الحالي ثاني مبعوث لبناني يتولى رئاسة البعثة الأممية في ليبيا بعد مواطنه الوزير السابق طارق متري. وكانت ليبيا قد انزلقت إلى أتون اضطرابات دامية بعد الإطاحة بالقذافي، ومن ثم قتله؛ إذ تتنافس حكومتان وفصائل مسلحة عدة على السلطة. وتسعى حكومة تعترف بها الأمم المتحدة وتدعمها في العاصمة طرابلس من أجل فرض سلطتها، إلا أن فصائل مناوئة في شرق ليبيا، ترفض الاعتراف بشرعيتها.

تحدي ليبيا
المحنة التي تمر بها ليبيا، والتي ستشكل اختباراً لخبرة غسان سلامة، وقدراته على التوفيق بين المصالح والحساسيات المحلية والجهوية، دفعت كثرة من المتابعين العرب والدوليين إلى إبداء الخشية من تقسيم البلاد، أو عودة الحكم فيها إلى نظام الولايات الثلاثة (الولايات التاريخية الثلاث: طرابلس وبرقة وفزّان)، أو النظام الفيدرالي. ولقد سبق لـ«الشرق الأوسط» أن نشرت في تحقيق مفصّل عن واقع ليبيا، أنه في منتصف القرن الماضي كان الملك يُحضِّر للحصول على اعتراف دولي باستقلال ليبيا، ولكن كانت العقبة الوحيدة هي الخلافات بين قادة الشرق وزعماء الغرب، وفي نهاية المطاف استطاع أن يذيب الفوارق بين هذين التكتلين المتنافسين، عن طريق إدارة ليبيا غير أن حكم القذافي – الذي جاء إلى الحكم في أول سبتمبر (أيلول) 1969 – عمل على تفتيت هياكل الدولة، وأسس «اللجان الشعبية» لتحل محل مؤسسات السلطة المألوفة في سائر دول العالم، واقله العالم العربي.
ومما لا شك أن بضعة عوامل أسهمت في بلوغ الأزمة الليبية مستوى التأزم الذي هي فيه راهناً، أهمها ما يلي:
- العامل القبلي الجهوي، فليبيا بلد شاسع المساحة (نحو مليون و760 ألف كلم مربع)، لكنه صغير نسبياً من حيث عدد السكان (نحو ستة ملايين و500 ألف نسمة)، تتوزع أقاليمه قبائل كبرى بعضها تشكل كثافة سكانية وتتمتع بنفوذ كبير في مناطقها.
- العامل العربي، ذلك أن الارتباك في الوضع العربي وصراع المحاور عربياً بات ينعكس بقوة على المشهد الليبي الداخلي، وبالأخص فيما يتعلق بارتباط بعض الفصائل والمسلحة بهذه الجهة العربية والمسلمة أو تلك.
- العامل الديني؛ إذ ظهرت بقوة على الساحة الليبية إثر الثورة على القذافي حركات مسلحة إسلامية، بعضها متشدد، بل إن منها ما هو جزء من تنظيم القاعدة. وللعلم، يشكل المسلمون من أهل السنة والجماعة غالبية سكانية ساحقة من السكان، يضاف إليهم أقليات أبرزها الأقلية الأباضية في جبل نفوسة. والحال، أن تزايد الجماعات المتشددة التي ترفع شعارات إسلامية، داخل ليبيا نفسها، وتلك الوافدة عليها من كل مكان، وغيرها) أسهم إسهاماً كبيراً في معاناة ليبيا وتزايد الانقسامات وتنامي التطرف.
- العامل الإثني، ذلك أن رقعة ليبيا الضخمة تضم ليس فقط الغالبية العربية، بل تضم أيضاً قبائل وجماعات أمازيغية، ولا سيما في جبال شمال غربي ليبيا، يضاف إليها أقليات أخرى أفريقية مثل التبو في الجنوب الشرقي، والطوارق في الجنوب الغربي.
- العامل الدولي، وينعكس على شقين: الأول سياسي تضارب المصالح في مجتمع دولي مضطرب ينعدم فيه التوافق على استراتيجية واضحة. والثاني، اقتصادي، في ظل كون ليبيا إحدى أغني دول العالم بالنفط والغاز، وبالتالي، تشكل ثرواته الطبيعة مطمعاً للقوى الكبرى.
- العامل الجغرافي أو الجيو - استراتيجي، وهو يتمثل شمالاً بطول الساحل الليبي المطل على البحر الأبيض المقابل لسواحل أوروبا، وجنوباً بعمق ليبيا الصحراوي المتصل بالصحراء الكبرى، وهو ما يعني أن البلاد باتت قبلة أنظار كل الحالمين بالهجرة من أفريقيا الوسطى جنوبي الصحراء إلى أوروبا عبر الأراضي الليبية. وعليه، ثمة حرص شديد وبخاصة في أوروبا الجنوبية على إغلاق باب الهجرة غير الشرعية عبر الشواطئ الليبية، وهذا لا يمكن لأن يتحقق من دون حل سياسي حقيقي.
- إلى تفاقم الصراع على خلفيات ثقافية وعلى إرث قديم يتعلق بمن تكون له الأولوية في تقرير مصير الدولة. وبينما تترقب واشنطن الموقف، أصبحت كثير القوى الإقليمية والدولية، تبحث عن موضع قدم في ليبيا، للاستفادة من النفط والغاز، وإيجاد نفوذ على الساحل وفي العمق الأفريقي.

لمحة تاريخية
ما يجدر ذكره أيضاً، أن مشكلة الحكم في ليبيا، كانت قائمة – وفق تحقيق «الشرق الأوسط» – منذ أكثر من مائة سنة، أي منذ بداية الصراع بين الإمبراطورية العثمانية وتطلعات الدولة الإيطالية إلى شمال أفريقيا. وأدى ذلك الصراع إلى ظهور «الجمهورية الطرابلسية» في الغرب الليبي، بينما اختار الشرق الصدام مع القادمين من وراء الحدود. ومن ثم، حتى في أيام مقاومة الوجود الإيطالي، بقيادة المناضل عمر المختار، ظهرت مشكلة القبائل البدوية والجهويين في الغرب، وهي مشكلة تستولد نفسها بأوجه مختلفة أحياناً ومتشابهة أحياناً أخرى.
وللعلم، يضم إقليم طرابلس، في غرب ليبيا، أصولاً متعددة، بحكم استقرار الكثير من رعايا دول البحر المتوسط كتركيا وإيطاليا واليونان ومالطة، في مدن مثل طرابلس ومصراتة. وفي حين يُعرف المواطن عن نفسه في شرق البلاد – ربما باستثناء مدينة بنغازي ومدينة درنة – باسم قبيلته، فيقال برعصي (البراعصة وأهم مراكزهم البيضاء) أو عبيدي (العبيدات وأهم مراكزهم مدينة طبرق)، تسود في الغرب «هوية» المدينة التي ينتمي إليها الفرد، فيقال مصراتي، أو طرابلسي، أو زليتني، وغيرها. وتجدر الإشارة، إلى أن من الصراعات القبلية التاريخية، الخلافات القديمة التي تتجدد كل حين وآخر بين «المشاشية» و«الزنتان»، و«تاورغاء» و«مصراتة» و«ورفلة»، و«الطوارق» و«التبو» و«الأمازيغ» و«العرب» وغيرها.
وهنا، يقول بعض الباحثين إنه في حين لا توجد في ليبيا مطالب عرقية أو مذهبية يمكن أن تهدد وحدة الدولة، كتلك الموجودة اليوم في العراق أو سوريا، فإن ثمة حساسيات قديمة حول مناطق النفوذ وحدود السلطة. وأوضحوا، أن عمر المختار «واجهته مشكلة الإرث القبلي، والإرث الحضري، ولهذا قسَّم عمليات الجهاد ضد الجيش الإيطالي المستعمر، على أدوار بين القبائل... دور لقبيلة العواقير، ودور لقبيلة البراعصة، ودور لقبيلة المغاربة، وهكذا... ولهذا؛ فإن حركة المقاومة ضد الطليان نجحت في برقة، وفشلت في طرابلس».



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.