لا يجد المتتبع لراهن الممارسة الشعرية المعاصرة في المغرب، إلا أن يسجل جملة ملاحظات بخصوص التحولات الكثيرة التي طالت المشهد الشعري، في العقود الثلاثة الأخيرة، خصوصاً بعد أن انتقلنا، كما يقول الناقد والشاعر عبد اللطيف الوراري، «من واحديّة الجيل إلى تعدُّد الراهن» الذي تتلاقى ضمنه مختلف الأشكال والتجارب والاختيارات والقناعات: راهن يتميز، على رأي الناقد والكاتب محمد الديهاجي، بـ«التّنوُّع والكثرة»، فيما ينقل لـ«وعي شعري جديد يتميز بالاختلاف والمغايرة»، بحيث لم يعد يعني، حسب الوراري، جيلاً بعينه، وإنما «تخلقه وتتفاعل داخله تجارب ورؤى وحساسيّات مختلفة، متمايزة وغير متجانسة في تصوُّرها للفعل الكتابي وتدبر طرائق إنجازه»، لنكون، كما يلاحظ الشاعر عبد الرحيم الخصار، مع «من عايش القصيدة منذ أن كان يكتبها فقهاء المغرب بقداسة، إلى أن صار يكتبها الشباب بطيش».
ويمكن استخلاص 10 ملاحظات، من متابعات المهتمين والمتتبعين لراهن وتحولات القصيدة المغربية، تختصر، بشكل كبير، للتحول النوعي الذي طال الممارسة الشعرية في المغرب، ناقلة لما يميز المشهد الراهن، سواء على مستوى الأشكال أو المضامين.
وتتلخص أول ملاحظة في «انتشار قاعدة الشعراء»، ضمن راهن تتفاعل داخله كل الأشكال الشعرية، من العمودي إلى التفعيلي وصولاً إلى قصيدة نثر، بحيث يتجمع تحت سقفه شعراء محسوبون على مختلف الأجيال والحساسيات الشعرية، بغض النظر عن أعمارهم وتوجهاتهم، وثانيها في «تزايد وتيرة الإنتاج والنشر ورقياً»، وذلك ضداً على ما يبشر به الزمن الرقمي. ومن بين الدراسات، التي تناولت مسار الشعر العربي الحديث والمعاصر، في هذا الصدد، نكون مع البيبليوغرافيا التي أعدها الباحث محمد يحيى قاسمي، وتناول فيها «سيرورة القصيدة» بالمغرب، انتهى فيها إلى أن مجموع ما نشر، منذ 1932 إلى نهاية 2006، هو 1185 مجموعة شعرية، ما يقرب من نصفها نشر خلال الست سنوات الأولى من الألفية الثالثة، لنستنتج معه أن أكثر السنوات إنتاجاً تبقى سنة 2001، بـ79 مجموعة، يحتل الشعر بها المرتبة الأولى، في الإبداع المغربي، الشيء الذي يمكن أن يدفع، من وجهة نظره، في اتجاه إعادة صياغة سؤال هل نعيش زمن الرواية أم زمن الشعر، فيما يبقى الشيء الأكثر إثارة ومدعاة للتأمل. وفي الدراسة ذاتها، يظهر لنا، على غير المتوقع، أنه ما بين 2000 و2006، أي خلال الست سنوات الأولى من الألفية الثالثة، التي تميزت بانتشار واسع لوسائل الاتصال الحديثة، سواء على مستوى التواصل أو النشر، نشرت 579 مجموعة شعرية، وهو رقم يؤكد أن التعلق بنشر الشعر ورقياً، في زمن العولمة والتكنولوجيات الحديثة ووسائط النشر الجديدة، ما زال خياراً أساسياً بالنسبة للمبدعين، الشيء الذي يبدو مخالفاً لكثير من التوقعات المنذرة باختفاء الكتاب الورقي.
وتتعلق ثالث الملاحظات، بصدد التحولات التي طالت المشهد الشعري المغربي المعاصر، في العقود الثلاثة الأخيرة، بـ«تعدد لغات كتابة القصيدة»، حيث تتجاور قصيدة الزجل مع القصيدة المكتوبة بالعربية الفصحى، فضلاً عن توسع هامش الكتابة تحت سقف لغات أخرى، كالفرنسية والإنجليزية والإسبانية والإيطالية، وغيرها من اللغات التي تفرض نفسها على المتمكن منها، إما لظروف الإقامة في المهاجر، أو الاختيارات اللغوية للكتابة من داخل البلد، مع الإشارة إلى أن عدداً من الشعراء المغاربة في بلدان المهجر، يكتبون وينشرون، ليس، فقط، بلغة بلد الإقامة، بل بالعربية، أيضاً.
وتتمثل رابع ملاحظة في أن شعراء الحساسية الجديدة، كما يقول الوراري، «لا يكتبون بسويّةٍ واحدة، ولا يجمع بينهم فهْمٌ محدّدٌ للعمل الشعري»، فيما تتلخص خامس الملاحظات في تميز راهن الممارسة الشعرية بـ«تواصل النقاش» حول مكانة قصيدة النثر، ضمن المشهد الشعري المغربي المعاصر، حتى باتت، برأي كثيرين، «لسان حال» الشعراء الجدد، كما صارت تنظم لها ملتقيات ومهرجانات يشارك فيها شعراء من المغرب وخارجه.
وتتعلق سادس الملاحظات بتبلور «تسونامي» شعري نسائي، حسب تعبير الناقد بنعيسى بوحمالة، وذلك انطلاقاً من تسعينات القرن الماضي، التي ستمثل «نقطة تحول كمي في عدد الإصدارات»، على رأي الناقد رشيد يحياوي، الذي نجده يشدد على أن «الموجة البشرية الشعرية نسائياً»، لم تكن موجة، ولا تقليعة، وإنما «إقلاع شعري بصوت المؤنث يرجع لسياقه الثقافي والاجتماعي»، مبرراً ذلك بـ«توسع انفتاح المرأة على المجال الثقافي والفني، وازدياد وعيها بذاتها وحضورها، وطموحها لأن تحرر لغتها من تقاليد الكبت اللغوي والفني والقمع الاجتماعي».
فيما تتمثل سابع ملاحظة في تميز راهن الممارسة الشعرية بتداعيات زمن العولمة على عملية الإبداع، بوجه عام، في سياق راهن يتميز بتزايد الحديث عن انحسار الشعر وتناسل الأسئلة بصدد جدواه، في زمن العولمة، المحكوم بثقافة الاستهلاك، بشكل ينتهي، كما يكتب محمد بنيس، مثلاً، في مؤلفه «الحق في الشعر»، إلى نفي الشعر والقصيدة.
فيما، نكون، ثامناً، مع ما اعتبر استثماراً، من شعراء الحساسية الجديدة، للتكنولوجيات الحديثة في كتابة القصيدة، حيث حضرت، في أشعار عدد منهم، معجم ومفردات الشبكة العنكبوتية وما ينقل لعوالمها الافتراضية.
وتتمثل تاسع ملاحظة في حرص أغلب شعراء الحساسيات الجديدة على «عدم التخفف من الهم الجماعي والهواجس التاريخية والسياسية»، مع احتفائهم بالذات، موظفين، في سبيل ذلك، معجماً «يذهب إلى الحياة مباشرة»، كما يقول الشاعر عبد الإله الصالحي، فيما تبرز السخرية، إلى جانب اليأس والسأم والضجر والهشاشة، كمكونات أساسية على صعيد الكتابة، بشكل يجعل منها «أداة مقاومة»، إلى درجة يصير معها السم «فكرة بليدة» والشنق بالحبل «خياراً لا بأس به» والغرق «قدراً عادياً» والحبوب المنومة «موضة قديمة»، بشكل يختصر، كما يقول الشاعر طه عدنان، تجربة جيل «يتقدم نحو القصيدة برصانة مخمور وإلى المعنى بحكمة مجنون وإلى الحياة بثقة ميت لكي يعلن نهايته».
وإلى كل هذه الملاحظات، يتوقف كثيرون عند ملاحظة عاشرة، لمضمونها صفة الظاهرة، تتمثل في تحول عدد من الشعراء المغاربة إلى الكتابة تحت سقف الرواية، إما بشكل دائم أو مؤقت، في وقت يدعو فيه كثيرون إلى الكف عن الكلام حول الأجناس الأدبية أو الفنية، مشددين على أن المهم ليس الكلام عليها، بل إنتاجها بشكل رائع؛ مما يعني أن العبرة تبقى بقيمة ما يكتب، وأن صفة شاعر أو روائي ليست قدراً يحصر المبدع ضمن خانة أبدية، تتطلب منه الحصول على ترخيص مسبق للكتابة تحت لواء جنس أدبي آخر غير الجنس الذي اشتهر بالكتابة تحت سقفه.
نتاجات كمية قياسية و«تسونامي» شعري نسائي
المغاربة يعيشون زمن الشعر لا الرواية
نتاجات كمية قياسية و«تسونامي» شعري نسائي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة