انتظار السَمَرْمَرْ... إنطاق الأمكنة وإضفاء الصفات الإنسانية عليها

فيحاء السامرائي تصنف عملها بـ«محكيات»

انتظار السَمَرْمَرْ... إنطاق الأمكنة وإضفاء الصفات الإنسانية عليها
TT

انتظار السَمَرْمَرْ... إنطاق الأمكنة وإضفاء الصفات الإنسانية عليها

انتظار السَمَرْمَرْ... إنطاق الأمكنة وإضفاء الصفات الإنسانية عليها

ثمة كُتب مُراوغة، عصيّة على التصنيف، ترفض الانقياد لجنس أدبي محدد، فلا يعرف المتلقّي إن كان يقرأ قصصاً متفرقةً، أو حكاياتٍ متناثرةً، أو نصوصاً روائية متماسكة! وكتاب «انتظار السَمَرْمَرْ» لفيحاء السامرائي هو نموذج لهذا التأرجح بين ثلاثة أجناس أدبية معروفة، وهي القصة الطويلة، والحكاية، والرواية. ومع ذلك، فقد صنّفت الكاتبة عملها الأدبي بـ«المحكيات»، لكنها لم تستبعد إمكانية التجريب، فقد تكون هذه التقنية محاولة جديّة لتقويض تقاليد الكتابة الروائية، أو التملّص من اشتراطاتها القاسية. وعند عتبة المحكيّة الثانية، يُخبِر الكاتبُ الراويةَ، بوصفها قارئة المحكيات، أنّ بإمكانها قراءة كل محْكية على انفراد، رغم أنّ بعض الشخصيات تستمر ضمن أنساقها السردية حتى الصفحات الأخيرة من المحكيّة السابعة، بل تتجاوزها إلى عتبة «المتنزّه» الثامنة، التي تأخذ بيدنا إلى حكمة هذا النصّ السردي، وجوهرته النفيسة التي تقول: «إنّ الخلاص يكمن في دواخلنا وحدنا»، وإن فعل «الكتابة» كفيل بتحريرنا من الهواجس المُقلقة والكوابيس الثقيلة.
يمكن القول باطمئنان كبير إنّ «انتظار السَمَرْمَرْ» هو نص روائي بامتياز، وليس مَحْكيات، كما ذهبت الكاتبة، فالحكاية كما يُعرّفها الناقد والروائي البريطاني إي. إم. فورستر، في كتابه المعنوّن بـ«أركان الرواية»، هي «قصّ أحداثٍ مرتّبة في تتابع زمني» (ص39). ويورِد فورستر ثلاث جمل للتفريق بين الحكاية والحبكة، لكننا سنكتفي بجملتين فقط، فإذا قلنا: «ماتَ الملك، ثم ماتت الملكة بعد ذلك»، فهذه حكاية لأنها تخلو من الحبكة. أمّا إذا قلنا: «مات الملك، وبعدئذ ماتت الملكة حزناً»، فهذه حبكة لأننا نكتشف أن سبب موتها هو الحزن على وفاة الملك. وهكذا، نستطيع التمييز بسهولة بين الحكاية والقصة التي تنطوي على حبكة ما، سواء أكانت بسيطة أم مركّبة أم معقّدة. وكتاب «انتظار السَمَرْمَرْ» يشتمل على حبكة رئيسية تضمّ المحكيات السبع برمتها، كما تنفرد كل محْكيّة بحبكتها الخاصة التي يمكن أن تُقرأ كقصة طويلة، ويستطيع القارئ أن يقرأها أيضاً كقصصٍ متواشجة، لكن القراءة الأنجح لهذا النص السردي المؤثر هي أن يُقرأ كنصٍ روائي متضامّ، ليس بسبب وجود الحبكة وهيمنتها على مدار النص وحسب، وإنما بسبب الشخصيات الرئيسية التي تحضر بقوة منذ مستهل النص حتى منتهاه، مثل نيدابا عبد الهادي ومخلّد حلمي اللذين أحبّا بعضهما بعضاً، وافترقا بسبب ظروف قاهرة ألمّت بالعراق والعراقيين الذين كانوا ينتظرون على أحرّ من الجمر مجيء طائر السَمَرْمَرْ كي يلتهم جراد الاستبداد الذي دهم حقول العراق على مدى خمس وثلاثين سنة، وأوشك أن يحوِّلها إلى أرض يباب.
ربّ سائل يسأل: ما الذي يميّز هذه الرواية عن غيرها من الروايات العراقية والعربية؟ هل هو الشكل أم المضمون؟ الثيمة الرئيسية أم الأفكار الثاقبة المبثوثة على مدار النص السرديّ؟ الشخصيات المتعددة، سواء العراقية منها أو العربية، أم الأحداث التي تغطي مُدّة خمسة عقود تقريباً؟
ما يميّز «انتظار السَمَرْمَرْ» هو شكلها الفني الجديد، فثمة كاتب، ليس بالضرورة أن يكون مُحترفاً، يُقدِّم محْكياته أو «فصول روايته» تباعاً إلى سيدة مُولعة جداً بالمطالعة والأدب كي تقرأها، وتكون أول متلقيّة لفصول هذه المخطوطة. ثم يُسدي لها سبع ملحوظات مهمة تكشف عن تقنيته في كتابة المخطوطة، فمُقتبسات الأغاني يضعها بين قوسين كبيرين، والأشعار والمقولات بين قوسين صغيرين، كما يلفت انتباهها إلى أن المناجيات الداخلية مكتوبة بحروف غامقة. وأنه يستعمل اللهجات المحلية العربية من دون أن ينتهك هيبة الفُصحى التي تتجاور مع اللهجات الأخرى، وتُهيمن على مساحة واسعة من هذا النص الروائي الذي يُراهن على وهج اللغة، وتفجير الكلام بشقّيه المحكي والفصيح. كما يُفرِط في استخدام الجمل الفعلية القصيرة، ويُكثر من استعمال الأفعال المضارعة، ويقلِّل من «أل» التعريف وأسماء الوصل وواو العطف والفعل الماضي الناقص «كانَ»، الأمر الذي يثير فيها سؤالاً مُلتبساً مفاده: «هل يريد الهروب من الماضي، أم يعزم على إحياء الماضي في الحاضر» (ص 8). الميزة التقنية الأخرى ستضيفها السيدة التي اقترحت أن تقرأ الفصول بصوتٍ مسموع كي تبوح للطيور ببعض أسرار بني البشر، خلافاً للتقليد المتبّع في بوح الإنسان لمجمل عناصر الطبيعة، من أشجار وأنهارٍ وأطيار. أما الميزة التقنية المتفردة لهذا النص الروائي، فلعلها تكمن في إنطاق الأمكنة، وإضفاء الصفات الإنسانية عليها، بحيث تتكلّم المدينة، والحارة، والجامعة، والمتنزّه، والكابوس، والحلم، والزمن، والأنوثة، والعاطفة، والرحيل، والحزب، والمرآة، والبريد، والحقيبة، والصبح، والليل، والسيّارة، والهوى، والأمل، وما إلى ذلك، إضافة إلى أحاديث الشخصيات التي تشتبك في الأنساق السردية، سواء تلك التي تتمحور على البطلَين نيدابا ومخلّد أو التي تتشظّى عن بقية الشخصيات المؤثِثة للنص، المؤازِرة لثيماته الرئيسية والفرعية.
تُشكِّل اللغة، سواء الفصيحة منها أو المحكيّة، عنصر نجاح في هذا النص السردي، ليس لجهة البراعة والتألق والإتقان وحسب، وإنما لتوظيف الكاتبة لأسلوب السخرية السوداء التي تمنح الجُملة الروائية دماءً جديدة، وتُضفي عليها نكهة خاصة لم نألفها من قبل، لعل أجملها توريات الأستاذ فرغلي، الذي كان مدّرساً مغترباً مع نيدابا في الجزائر، حيث يصف الفوارق الطبقية في مصر بطريقة لاذعة تضرب على الوتر الحسّاس، حينما يقول: «ناس عايشة كويّس، وناس كويّس إنها عايشة» (ص255). وفي السياق ذاته، يصف زوج نيدابا الصامت، قائلاً: «ده مش ساكن قصادي، ده ساكت قصادي» (ص258). وما دمنا في إطار الأسلوب التهكمي والسخرية السوداء، فلا بد من الإشارة إلى نجاح الروائية فيحاء السامرائي في التدليل لمعرفة المحذوف من سياق العبارة، فحينما تقتبس الجُمل الآتية: «لاحِظ جنابك، لا كهرباء، لا مايْ، لا هاي، لعد وين الديمقراطية مالتهم... بالعظيم ملّينا، عمّي ملّينا من هالحال» (ص374)، فيعرف القارئ العراقي سلفاً أنها تتحدث عن المحامي طارق حرب لأنه يُكثر من استعمال كلمات من قبيل «حَضرتك وجنابكْ»، كما نجحت في التدليل على اسم البلد من خلال وسائل التعذيب، فما إن تسمعهم يتلفظون بكلمات أو عبارات مثل «دولاب، وبساط الريح، والشبح، والعبد الأسود، والكرسي الألماني» (ص293)، حتى تعرف أن الكاتبة تتحدث عن سوريا، على الرغم من عدم ذِكرها لاسم البلد، لأن وسائل التعذيب هذه تكاد تكون ماركة مسجّلة باسم النظام الوحشي السوري.
تتسم هذه الرواية بتوظيف عدد من اللهجات العراقية والعربية، ونظراً لإتقان الكاتبة لهذه اللهجات، فقد أبدعت فيها حتى لتخالها حينما تقرأ هذه الرواية أنها فلسطينية أو سورية أو جزائرية أو يمنية، فقد وظفت الأغاني والأمثال والأقوال المأثورة خير تمثيل، وجعلتها جزءاً متماسكاً من لُحمة النص وسداته.
يمكن أن تكون ثيمة هذه الرواية هي «دوام الحال من المحال»، لكن ما هو أنسب منها هو الفكرة التي تقول: «يرحل عنهم طاغية، ولا يرحل الطغيان... يروح ظالم، ويبقى الظلم والظلام» (371).
ثمة عيوب جوهرية كان بإمكان الكاتبة أن تتفاداها لو أنها عرضت المخطوطة على أي ناقد أمين على تخصصه الأدبي، وأولها طول النص الذي يمكن اختزاله إلى أقل من 300 صفحة، من خلال التخلي عن بعض الأشعار والأقوال المأثورة والأحداث الميتة التي لم تخدم البنية المعمارية لهذه الرواية النوعية التي تُعد إضافة حقيقية للمنجز الروائي العراقي الذي لم يألف مغامرة جريئة في الشكل والمضمون وزاوية النظر.



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!