سماح إدريس: العرب والاستشراق المعكوس
كتب الكثير عن النكسة وتداعياتها، لكنني أعتقد أن أسوأ انعكاساتها هي في محاولة بعض المثقفين العرب، تأبيد هذه الهزيمة إلى حد، ليس اعتبارها قدراً محتوماً، وإنما أمر كامن في بنية ما يسمونه العقل والمجتمع العربيين. وكأنما هناك نوع من الاستشراق المعكوس نتبناه عن غباء العقل العربي، وعدم قدرة هذا الإنسان على تجاوز تخلفه، فصارت النكسة دائمة. هذا ليس فقط خيانة للدور الذي يفترض أن يؤديه المثقف، وإنما خيانة لكل فكرة التطور.
دور الثقافة هو تحسين الراهن. هناك في التاريخ العربي المعاصر ما يشجع العقلية المهزومة، سواء بالتركيز على اجتياح إسرائيل عام 1982، أو احتلال العراق، ثم تدمير الربيع العربي.
النظرة التشاؤمية المغرقة في جلد الذات، تتغاضى عما حققه العرب في أماكن أخرى وعلى رأسها ضرب إسرائيل في لبنان، وعجزها عن كسر إرادة الشعب الفلسطيني ولو بالأمعاء الخاوية.
قد يبدو هذا الكلام كلاماً غير ثقافي وغير عقلاني، وسط كل الإحباطات. لكن لننظر إلى حقيقة أساسية هي أن العدو لم يكسرنا رغم كل تآمرنا وهزائمنا، ما زلنا قادرين على أن نرفع صوتنا، قادرين على الحياة، ولن نستسلم لما يفرض علينا. وما يجري الآن في العالم، أعتقد سيكون حافزاً جديداً لنا على النهوض. نحن إزاء تكون مجتمع دولي جديد، ليس قوامه الأمم المتحدة والحكومات الغربية والاستعمارية، وإنما حركات المقاطعة ضد إسرائيل التي تستقطب مئات آلاف الناشطين على المستويات الفنية والأكاديمية والكنائس الأميركية والأوروبية. وهذا مؤثر على ما يمكن أن يكون عليه العالم بعد سنوات، إذ سيكون مغايراً لما تريده الصهيونية التي استعبدته باسم الهولوكوست.
* الروائية علوية صبح: تنصّل المثقف
الأدب والفن جزء من التحولات الكبرى. وهزيمة 67، التي لا أحب أن أسميها نكسة، هزّت الوجدان العربي وزلزلت الكتاب والمثقفين، لكن أغلب النصوص التي كتبت على الأثر، هي نصوص مخذولة، ورثائيات. ساد الخطاب المهزوم، والذائقة ما عادت تتحمل سوى الانكسار وتوجيه الاتهامات إلى الأنظمة وهي تحملها مسؤولية الهزيمة.
لكنني أسأل نفسي: لماذا بقي المثقف يستثني نفسه من المحاسبة؟ لماذا لم يوجه نقداً لذاته؟
كشفت الهزيمة، كم أننا نعيش في مجتمعات لا قيمة فيها للفرد إلا حين يكون زعيماً، وهي عقلية لا تزال سائدة. استبدل المثقف العربي بعد 67 بخطابه النضالي آخر تنصلياً، ونقل بندقيته من كتف إلى آخر، وتحول من عبادة الشخص (الزعيم) إلى التعصب للأحزاب والآيديولوجيات والقوى التي صعدت بعد الهزيمة. في هذه الفترة رأينا ازدهار نجم القومية والبعثية والشيوعية والحركات الإسلامية، وصار المثقف خادماً لها وبدّل بخطابه المهزوم خطابات حزبية، عوضاً عن أن يكون ناقداً لهذه الأحزاب. وسادت على الأثر، الآيديولوجيا في الأدب، وابتعد المثقف عن مهمته في كشف المستور ووضع الأسئلة وأخذ بدلاً عن ذلك يقدم الإجابات. هكذا غرقت الكتابات الأدبية بالعقائد السياسية بدل أن تنشغل بالحياة.
يحضرني هنا، عملان مهمان عبرا عن صدمة المثقف أمام ما حصل بعد الهزيمة، أحدهما هو «حفلة سمر من أجل 5 يونيو (حزيران)» للرائع سعد الله ونوس الذي عبر فيه عن غضبه ونقده لما حصل، والآخر هو «ثرثرة فوق النيل» للكبير نجيب محفوظ. وهي رواية أدهشتني وأعتبرها واحدة من أهم ما كتب، فهي أشبه بقصيدة روائية. بطل محفوظ مختلف عن الذي نجده عند ونوس، فهو أشبه بمجذوب، إذ استبدل محفوظ بالتعبير عن الغضب، العبثية، واستغرق البطل في الملذات والهروب من الواقع.
مع صعود الأحزاب الآيديولوجية النضالية والثورية، ولد الحلم المسلح الحزبي بدل الفرد القومي أو الشيوعي أو الإسلامي، صار الإيمان عامة بالعقيدة الحزبية لا القناعة الذاتية، ثم انكسرت الحزبية وانهزمت أيضاً. وهنا لم يجرِ المثقف نقداً لدوره وبدل ذلك صار البطل الثوري هو الموضوع، وتميز الأدب بتمجيد المناضل، فيما أصبح الأديب مقاولاً أو خادماً للخطاب السياسي.
مستغرب أن المثقف الثوري حمّل الفن والثقافة مسؤولية هزيمة يونيو وتنطّح البعض ليحمّل أم كلثوم مثلاً الوزر، لأنها تغني أغنيات عاطفية، ووجدناها تنشد بعد الهزيمة «أصبح عندي الآن بندقية». هناك من حمل الرحابنة مسؤولية اختراع لبنان الصورة الحلم، وبالتالي كانوا من أسباب اندلاع الحرب الأهلية. مرة أخرى لم يلُم المثقف نفسه بشيء.
بالإمكان ذكر أسماء كثيرة، لكتاب معروفين انضووا تحت لواء أحزاب ودافعوا عن آيديولوجياتها، وتنقلوا بينها، ولم يقوموا بأي مراجعة ذاتية، بل على العكس، بعضهم تنصل حتى من نتاجه الذي كتبه خلال مرحلة يريد نكرانها. استبدل المثقف باستمرار خطاباً بخطاب آخر، وفي كل مرة لخدمة مشروع سياسي يعتبره منتصراً. وفي النهاية تُرمى المسؤولية على الحاكم، بينما الأدب في ماهيته وجوهره، هو عملية كشف للحجب ومقاربة للحياة وتعبير عن أعماقها.
* غسان علم الدين: القمع هو النكسة
لا يمكن الفصل بين تجربة الشريف حسين رغم نقاء فكرته في موالاته للإنجليز ضد العثمانيين، تبعاً لوعود مكماهون، الذئب الإنجليزي لاستقلال البلاد العربية ولم يحدث ذلك بالطبع، وتجربة عبد الناصر، مع الإشارة إلى بعض الاستثناءات الإيجابية في تجربته كالرؤية إلى المستقبل الاقتصادي وبناء المصانع... ولكن اعتماده على السوفيات ونصيحتهم شبه الخديعة، بألا يكون البادئ بالحرب، هي من أهم عوامل نكسة 1967. الاستبداد وإقصاء الخصوم لم ينعكس على هؤلاء فقط، بل أيضاً على أصحاب التجارب الإبداعية الكثيرة التي كانت لها رؤيتها وهمها الوطني أيضاً. تم تسفيه الجميع وزجهم في السجون، مثل الشعراء أمل دنقل، ونجيب سرور، وصلاح عبد الصبور، وآخرين كثر. جرى هذا في مصر وسوريا، أيام الجمهورية العربية المتحدة، وتجلى في الشبكات الأخطبوطية المخابراتية لصلاح نصر وعبد الحميد السراج. وعلى رغم جماليات إبداعية كثيرة أفضت إليها التعبئة العسكرية والسياسية (المناضلة) فإن إلغاء وسحقاً مخيفاً، حجب عنا حركات كانت تتفاعل في مصر ودول عربية أخرى، كالتي كانت تشق طريقها إلى عقول وقلوب الناس في أوروبا وفلسفاتها. حيث كان سارتر وسيمون دو بوفوار ودالي وليفي ستراوس ووليم بوروز؛ الوجودية، والتفكيكية، والتكعيبية، والانطباعية، والبتلز، والبلوز... وعوض أن يترك المجال للناس أن تأخذ مبادرتها لنفسها، تم ضبط ومراقبة كل ما يسمى المصنفات الأدبية والفنية. وحظر كل ما لا يتلاءم مع فكر الثورة التي انحصرت في المقاومة العسكرية لإسرائيل وأميركا والغرب. وكان المناوئون لهذا النهج، ومن تضرروا بفعل ما سمي ثورات من إسلاميين وغيرهم، يعملون عملهم ويضخون أموالاً طائلة، وأفكاراً تسري كالنار في الهشيم، خصوصاً أن دعاة الثورة والقومية العربية كانوا ينهزمون، الهزيمة تلو الأخرى في معاركهم التي جيشوا لها كل الطاقات وأهمها الاقتصادية، وأفضت إلى تجويع الشعوب العربية. إذ لا دعم ولا هبات، ولا الإنتاج القومي المحلي بقادر على سد إهراءات الجوع من الملبس والمأكل والسكن. جاءت نكسة 67 تتويجاً لذاك النهج الذي عاش في عروشه المستبدة بدل أن ينهمك، في صنع مجتمعات حديثة تتلاءم مع النقلات النوعية، على صعيد الإنتاج الفكري، والثقافي، والاقتصادي أو على صعيد ترك علاقات الشعوب العربية بين بعضها بعضاً، وجعلها تستفيد من الثورة الفرنسية التي كانت ولا تزال تعطي ثمارها في العالم أجمع، وتحرير العبيد في أميركا، وإعداد العدة لركائز يكون المواطن فيها سيد نفسه، يتمتع هو وأسرته ومجتمعه بمقومات الاكتفاء الذاتي. وكان أن خسرنا 80 في المائة من مساحة فلسطين التي جيشت كل الطاقات لاستردادها، وفوقها شبه جزيرة سيناء والجولان السوري ولاحقاً جنوب لبنان، فلا حكم الشريف حسين تحقق ولا حكم القوميين العرب وعبد الناصر. مع الأول جرى تقسيم العالم العربي ومع الثاني خسرنا مزيداً من أرضنا، ووجدنا أنفسنا أمام أسهل الخيارات التي كانت تتحرك على الأرض: التطرف الديني.