العوفي: نقلتنا الهزيمة من المرحلة الرومانسية إلى الواقعية

نجيب العوفي
نجيب العوفي
TT

العوفي: نقلتنا الهزيمة من المرحلة الرومانسية إلى الواقعية

نجيب العوفي
نجيب العوفي

تتفق مختلف الكتابات التي رصدت اللحظة الجديدة، التي انفجرت بعد حرب 1967، على أن الهزيمة جاءت «لتكشف المخبوء»، وتقنع المفكرين والمبدعين بأن «كثيراً من الشعارات والتصورات تحتاج إلى النقد والمراجعة والتغيير». ومنذئذ، يقول محمد برادة، في مؤلفه «الرواية العربية ورهان التجديد»، شهدنا «لحظة أخرى لفورة إبداعية وفكرية، باتجاه أكثر جذرية واستقلالية عن السياسي والآيديولوجي. هي لحظة - منعطف، لأن المفكرين والمبدعين والنقاد تخلوا عن أوهام المرحلة الوطنية والقومية المعاقة، وتوغلوا في تشريح وانتقاد اختلالات المجتمعات العربية الفاقدة أسس الصراع الديمقراطي وحرية التعبير والاعتقاد»؛ حيث ستمثل 1967 «سنة الفرز ما بين أنظمة متسلطة، متشبثة بالحكم، معتمدة على قوى القمع وأجهزة آيديولوجية تستغل الدين والترهيب، وبين طلائع من المفكرين والمبدعين الذين انشقوا عن الإجماع القومي، الوهمي، ليعبروا عن المسكوت عنه ويستنطقوا مكامن الحياة والتحدي والتوق إلى التحرر»؛ وهو ما يعني أن «هزيمة 1967 أخذت أبعاداً تتعدى المجال العسكري إلى الإعلان عن نهاية مرحلة، هي مرحلة الوطنية وقيمها الاجتماعية؛ ما جعل الأنظمة تفقد شرعيتها في عيون المواطنين، والآيديولوجيات يتلاشى بريقها أمام الشلل والشعور بالمهانة والعجز»، في حين سيأخذ الخطاب الأدبي العربي طريقه الخاص: «متخلصاً من الشعارات الفضفاضة والتفاؤل الأبله، مرتاداً طريق الجحيم، بعد انجلاء الأوهام، ليسائل المسكوت عنه في مناطق الذات والمجتمع والعلاقة بالسماء».
لقد مثلت هزيمة 1967 نكسة، بكل ما في الكلمة من معاني الحزن والأسى ومرارة الهزيمة، الشيء الذي وجد صداه في المنجز الإبداعي والنقدي المغربي، تعبيراً عن الإحساس بالفاجعة التي تفجرت، على المستوى القومي، كما يقول الناقد إدريس الناقوري، في مؤلفه «المصطلح المشترك»، بـ«الإدانة الكلية للبنى الخائرة التي كرست الهزيمة».
واليوم، بعد نصف قرن على حرب الأيام الستة، يرى الناقد المغربي نجيب العوفي، أن «كلمة (النكسة)، المتداولة على الألسن، ربما تبدو، في الأغلب الأعم، كلمة غير مطابقة لدلالتها التاريخية – المعلومة، أو ربما تبدو كلمة مُراوغة لدلالتها الحقّة، الجارحة. كلمة تُلطّف وتُخفّف من وقع المصاب»، قبل أن يستدرك: «ولعل كلمة (الهزيمة) هي الأوْفى بالقصد، بلا لفّ أو دوران. ومن دون وضع مساحيق على الواقع الصادم. ومعلوم أن اللغة كثيراً ما تحتال على الواقع وتُموّهه».
ويضيف العوفي: «هزيمة يونيه 1967، قد كانت، وبكل المقاييس، زلزالاً قومياً رجّ العالم العربي من أقصاه إلى أدناه ومن مائه إلى مائه، وأيقظه من سُبات أحلامه الكبيرة، أو بالأحرى من بَياته الشتوي الطويل، وفتح أحداقه على سوءات وعورات المشهد السياسي العربي».
ولم يتوقف العوفي عند التداعيات السلبية للهزيمة، بل حاول أن يبرز جوانبها الإيجابية، بقوله: «وربّ ضارّة نافعة، كما قيل. فقد نقلت الهزيمة المجتمع العربي، من المرحلة السياسية الرومانسية – الحالمة، إلى المرحلة الواقعية – المباشرة، بكل التباساتها وارْتكاساتها. كما كانت الهزيمة حافزاً ومهْمازاً لحَراك أدبي جديد، حرّك السّواكن واخترق تابوهات ثقافية وسياسية ماضية، وأعاد النظر في كثير من القيم والتقاليد والأعراف الأدبية والثقافية السائدة. وقد تزامن ذلك مع هُبوب رياح الحداثة الغربية على المشهد الثقافي العربي، بدءاً من ستينات القرن الماضي، وهو ما شكّل هزّة ثانية للمجتمع الثقافي العربي أطلق عليها أدونيس (صدمة الحداثة). وكانت مُفارقة فعلاً، أن تأتي الهزيمة والحداثة في موعد واحد».
ينتقل العوفي من العام، العربي، إلى الخاص، المغربي، ليرى أن «آثار الهزيمة» قد «تزامنت، تاريخياً، في المشهد الثقافي المغربي، مع سنوات الجمر والرصاص السياسية، التي اصْطلى المثقفون والأدباء المغاربة بنارها، إبّان السبعينات من القرن الفارط. ومن ثمّ كانت الهزيمة مناسبة سانحة ومُواتية لممارسة النقد الصريح والجريء فكراً وإبداعاً، واجتراح لغة أدبية جديدة ومشحونة، تنْضح باحتقانات المرحلة وغيْظها الكظيم، وتقتحم المناطق الحسّاسة والمسكوت عنها. كما هزّت الهزيمة أدبياً، قواعد الأجناس الأدبية المعروفة وخلْخلت نظامها ويقينها، وأشرعت الباب أمام موجات جديدة في الكتابة الإبداعية والتعبير الأدبي. وقد كان تيّار الموجة الجديدة في القصة والرواية في مصر عقب الهزيمة مباشرة، فاتحة لموجات جديدة طالت المشهد الأدبي العربي برمّته. وكان المغرب مرْتعاً خصباً لهذه الموْجات، على أيدي أجيال جديدة من المبدعين والمبدعات، مزجوا وصهروا في تجاربهم ونصوصهم بين أشواق الحداثة والتجريب، وأشواك الهزائم والإحباطات».
يربط العوفي حديث الخاص والعام، على مستوى هزيمة 1967، بعد مرور خمسين سنة على وقوعها، بالمكانة التي أخذتها القضية الفلسطينية، على الصعيدين القومي والقُطري، فيقول: «وقد أضحت فلسطين بعد الهزيمة، في قلب الحَراك الأدبي المغربي، وعلى كافة الصّعُد والمستويات. أضحت فلسطين أيقونة أدبية ورمزية في جُماع ما أنتجه المبدعون المغاربة من شعر ونثر، قصيدة وقصة ورواية ونقداً أيضاً.. ودخلت في المجال الاستعاري والرمزي والاستيهامي للمبدع المغربي، وأصبحت تيمة ساخنة، أو لنقلْ جمرة ساخنة في الإبداع المغربي، تُعيد بعض الدفء والألق للرماد البارد المحيط بالنصوص والنفوس... بما يعني أنها أصبحت معادلاً موضوعياً، ونافذة إغاثة رمزية وأدبية».
ينتهي العوفي، من استحضاره لهزيمة 1967 والتحولات التي عرفها العالم العربي، بعد نصف قرن من النكسة، إلى القول: «لا نبالغ إذا قلنا، بأن الأدب العربي برمّته، ومنذ النكبة إلى الآن، مسكون بالهاجس الفلسطيني ودائر في فلكه. وقد تبدو هزيمة 67 الآن أخفّ وطأة، في غمار الهزائم العربية الكارثية والمتتالية التي تنوء بأثقالها على الوطن العربي. وبعض الشرّ أهوْن من بعض. وقد تكون هزيمة 67 تبعاً، هي فاتحة هذه الهزائم العربية وبذرة هذا الحصاد المر. وفي عمق هذه الهزائم يلوح الاحتلال الصهيوني، كشأْفَة الداء وأساس البلاء. لكن في عمق هذه الهزائم الكارثية، يلوح الصمود الفلسطيني – الملحمي، وعلى مرّ الأيام والليالي، كنجمة مضيئة في الليل العربي».



«هدنة غزة» تقترب وسط جولات مكوكية وحديث عن «تنازلات»

دخان القصف الإسرائيلي فوق بيت ياحون بقطاع غزة الخميس (رويترز)
دخان القصف الإسرائيلي فوق بيت ياحون بقطاع غزة الخميس (رويترز)
TT

«هدنة غزة» تقترب وسط جولات مكوكية وحديث عن «تنازلات»

دخان القصف الإسرائيلي فوق بيت ياحون بقطاع غزة الخميس (رويترز)
دخان القصف الإسرائيلي فوق بيت ياحون بقطاع غزة الخميس (رويترز)

وسط حديث عن «تنازلات» وجولات مكوكية للمسؤولين، يبدو أن إسرائيل وحركة «حماس» قد اقتربتا من إنجاز «هدنة مؤقتة» في قطاع غزة، يتم بموجبها إطلاق سراح عدد من المحتجزين في الجانبين، لا سيما مع تداول إعلام أميركي أنباء عن مواقفة حركة «حماس» على بقاء إسرائيل في غزة «بصورة مؤقتة»، في المراحل الأولى من تنفيذ الاتفاق.

وتباينت آراء خبراء تحدثت إليهم «الشرق الأوسط»، بين من أبدى «تفاؤلاً بإمكانية إنجاز الاتفاق في وقت قريب»، ومن رأى أن هناك عقبات قد تعيد المفاوضات إلى المربع صفر.

ونقلت صحيفة «وول ستريت جورنال» الأميركية، عن وسطاء عرب، قولهم إن «حركة (حماس) رضخت لشرط رئيسي لإسرائيل، وأبلغت الوسطاء لأول مرة أنها ستوافق على اتفاق يسمح للقوات الإسرائيلية بالبقاء في غزة مؤقتاً عندما يتوقف القتال».

وسلمت «حماس» أخيراً قائمة بأسماء المحتجزين، ومن بينهم مواطنون أميركيون، الذين ستفرج عنهم بموجب الصفقة.

وتأتي هذه الأنباء في وقت يجري فيه جيك سوليفان، مستشار الأمن القومي للرئيس الأميركي، محادثات في تل أبيب مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الخميس، قبل أن يتوجه إلى مصر وقطر.

ونقلت «رويترز» عن دبلوماسي غربي قوله إن «الاتفاق يتشكل، لكنه على الأرجح سيكون محدود النطاق، ويشمل إطلاق سراح عدد قليل من الرهائن ووقف قصير للأعمال القتالية».

فلسطينيون بين أنقاض المباني المنهارة في مدينة غزة (أ.ف.ب)

في حين أشار القيادي في «حماس» باسم نعيم إلى أن «أي حراك لأي مسؤول أميركي يجب أن يكون هدفه وقف العدوان والوصول إلى صفقة لوقف دائم لإطلاق النار، وهذا يفترض ممارسة ضغط حقيقي على نتنياهو وحكومته للموافقة على ما تم الاتفاق عليه برعاية الوسطاء وبوساطة أميركية».

ومساء الأربعاء، التقى رئيس جهاز المخابرات الإسرائيلي، ديفيد برنياع، مع رئيس الوزراء القطري، الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، في الدوحة؛ لبحث الاتفاق. بينما قال مكتب وزير الدفاع الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، في بيان، إنه «أبلغ وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن في اتصال هاتفي، الأربعاء، بأن هناك فرصة للتوصل إلى اتفاق جديد يسمح بعودة جميع الرهائن، بمن فيهم المواطنون الأميركيون».

وحال تم إنجاز الاتفاق ستكون هذه هي المرة الثانية التي تتم فيها هدنة في قطاع غزة منذ بداية الحرب في 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023. وتلعب مصر وقطر والولايات المتحدة دور الوساطة في مفاوضات ماراثونية مستمرة منذ نحو العام، لم تسفر عن اتفاق حتى الآن.

وأبدى خبير الشؤون الإسرائيلية بـ«مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية» الدكتور سعيد عكاشة «تفاؤلاً حذراً» بشأن الأنباء المتداولة عن قرب عقد الاتفاق. وقال لـ«الشرق الأوسط» إن «التقارير تشير إلى تنازلات قدمتها حركة (حماس) بشأن الاتفاق، لكنها لا توضح نطاق وجود إسرائيل في غزة خلال المراحل الأولى من تنفيذه، حال إقراره».

وأضاف: «هناك الكثير من العقبات التي قد تعترض أي اتفاق، وتعيد المفاوضات إلى المربع صفر».

على الجانب الآخر، بدا أستاذ العلوم السياسية بجامعة القدس السياسي الفلسطيني، الدكتور أيمن الرقب، «متفائلاً بقرب إنجاز الاتفاق». وقال لـ«الشرق الأوسط» إن «هناك حراكاً أميركياً لإتمام الصفقة، كما أن التقارير الإسرائيلية تتحدث عن أن الاتفاق ينتظر الضوء الأخضر من جانب تل أبيب و(حماس) لتنفيذه».

وأضاف: «تم إنضاج الاتفاق، ومن المتوقع إقرار هدنة لمدة 60 يوماً يتم خلالها الإفراج عن 30 محتجزاً لدى (حماس)»، مشيراً إلى أنه «رغم ذلك لا تزال هناك نقطة خلاف رئيسية بشأن إصرار إسرائيل على البقاء في محور فيلادلفيا، الأمر الذي ترفضه مصر».

وأشار الرقب إلى أن «النسخة التي يجري التفاوض بشأنها حالياً تعتمد على المقترح المصري، حيث لعبت القاهرة دوراً كبيراً في صياغة مقترح يبدو أنه لاقى قبولاً لدى (حماس) وإسرائيل»، وقال: «عملت مصر على مدار شهور لصياغة رؤية بشأن وقف إطلاق النار مؤقتاً في غزة، والمصالحة الفلسطينية وسيناريوهات اليوم التالي».

ويدفع الرئيس الأميركي جو بايدن والرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، من أجل «هدنة في غزة»، وكان ترمب طالب حركة «حماس»، في وقت سابق، بإطلاق سراح المحتجزين في غزة قبل توليه منصبه خلفاً لبايدن في 20 يناير (كانون الثاني) المقبل، وإلا فـ«الثمن سيكون باهظاً».