كان قرار ضم القدس الشرقية إلى إسرائيل، هو أكبر قرار استيطاني اتخذته إسرائيل منذ 50 عاماً. فمساحة القدس كانت يومها 6 آلاف دونم، لكن الحكومة ضمت معها 64 ألف دونم أخرى، تمتد شمالاً وشرقاً وجنوباً، وبضمنها 14 قرية فلسطينية. ومن هنا بدأت النقاشات حول الاستيطان اليهودي في بقية المناطق (أي في الضفة الغربية والجولان وسيناء)، علماً بأن القانون الدولي، يحرم على المحتل أن ينقل مواطنيه للسكن في المناطق المحتلة.
يكتب ثيودور ميرون، أحد أبرز الحقوقيين في العالم، الذي كان مستشاراً قانونياً لوزارة الخارجية الإسرائيلية آنذاك، مذكرات في أواخر 1967 وأوائل 1968، يوضح فيها موقفه من المستوطنات. فيقول، في رسالة مرفقة بمذكرة سرية موجهة إلى السكرتير السياسي لرئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك: «خلاصة رأيي أن استيطان المدنيين في الأراضي الخاضعة للإدارة، يتعارض مع النصوص الصريحة لاتفاقية جنيف الرابعة».
وشرح ميرون الذي يعيش الآن في الولايات المتحدة، أسبابه، في صفحات عديدة، لكنها تلخصت كلها في كون إسرائيل إحدى الدول الموقعة على اتفاقية جنيف، التي تحظر نقل مواطنين من دولة الاحتلال إلى الأرض المحتلة. وكتب يقول إن «أي دفوع قانونية سنحاول إيجادها، لن تصمد أمام الضغط الدولي الذي سيمارَس علينا، حتى من جانب الدول الصديقة التي ستؤسس موقفها على اتفاقية جنيف الرابعة». وأوضح أن السبيل الوحيد الذي يراه ممكناً لإقامة مستوطنات لها مبرراتها القانونية، هو أن تكون معسكرات مؤقتة «يقيمها الجيش لا كيانات مدنية»، وحتى هذه الحجة قال إنه لا يحبذها.
ولكن الحكومات الإسرائيلية تبنَّت الفكرة، وبدأت فعلاً في السماح للمستوطنين اليهود بالسكنى في مواقع تابعة للجيش، تحولت، فيما بعد، إلى مستوطنات رسمية. ويختلف الإسرائيليون بل يتسابقون للفوز بمكانة صاحب الفضل في إقامة المشروع الاستيطاني. فحزب العمل، الذي يعتبر اليوم «معارضة يسارية»، يقول إنه صاحب الفضل، ولكنه فعلها بشكل مراقب لا يمنع قيام دولة فلسطينية. في حين أن اليمين الحاكم، يعتبر «العملية» الاستيطانية الحقيقية تمت سنة 1977، مع الانقلاب الذي أسقط حكم اليسار، وجاء باليمين بقيادة مناحيم بيغن إلى الحكم. ويقول عضو الكنيست إيتان بروشي، من حزب العمل: «نحيي، خلال الأسبوع المقبل، الذكرى اليوبيلية الخمسين لحرب الأيام الستة، وكلما اقترب موعد هذه الذكرى، يحاول اليمين ادعاء تملّكه للحدث التاريخي، والاحتفاء به في معركته للسيطرة على الوعي. ولن أستغرب إن سمعت عما قريب، ادعاءات تقول إن اليمينيين كانوا هم، عملياً، مَن خططوا لهذا النصر في عام 1967. فاليمين قام بادعاء تملُّكِه التام لقيم الاستيطان، وهو من يدعي اليوم تمثيله لروح الصهيونية (الحقيقية)، وهؤلاء يدّعون، وبالطبع فهم وحدهم من يفهمون في الأمن. إن أبناء التيار اليميني، في الواقع، هم المسؤولون عن تشويه القيم الاستيطانية، وعن تحويل الصهيونية من حركة قومية إلى حركة قومجية ميسيائية خلاصية مهدوية (تؤمن بالغيب، وترى في عملها تقرُّباً إلى الله وتقريباً للخلاص الموعود)، وقد كان جلّ ما أنجزه اليمين، هو فقداننا لغالبية الإنجازات الأمنية، الاستراتيجية والسياسية التي نجحت إسرائيل في تحقيقها أثناء حرب الأيام الستة».
ويضيف بروشي: «ينبغي علينا أن نكون دقيقين: الاستيطان والأمن هما، أولاً وقبل كل شيء، قيم أساسية ومكونة في وعي وفكر الحركة العمالية الصهيونية. والدليل على ذلك، أننا قمنا، في يوليو (تموز) من العام 1967، أي بعد شهر من انتهاء الحرب، ببناء كيبوتس مروم غولان (مستوطنة إسرائيلية في الجولان الذي تم احتلاله آنذاك)، وكانت أولى بوادر الازدهار الأول لروافع الاستيطان في هضبة الجولان، وفي غور الأردن، وفي شمال البحر الميت، بريادة الحركة الكيبوتسية وحركة الموشافيم اليسارية. لقد كان أعضاء الحركة الكيبوتسية هم أول من ذهبوا إلى الجولان، واستوطنوا أيضاً في أماكن قليلة الكثافة الديموغرافية، وتعد حيوية وضرورية لأمن الدولة. وهنا يكمن الفرق الواضح بين الفعل الصحيح والتشويه... لقد رأت الحركة العمالية في الاستيطان قيمة هدفها الإسهام في أمن الدولة، والمساعدة في الصراعات الدبلوماسية المرتقبة أمامها.
أما اليمين، في المقابل، فقد رأى في الاستيطان آليةً للإفشال الموجَّه ضد أي محاولة للتوصل إلى تسوية بين إسرائيل والفلسطينيين، وأداة لتحقيق الأحلام بأرض إسرائيل الكبرى، بصبغات دينية، خلاصية. هناك مثال على هذا الفرق البنيوي والكينوني بين الحالتين، هو مخطط ألون. فبعد أيام معدودة على انتهاء المعارك، وحين كانت الدولة بأسرها ثَمِلة بنشوة انتصار الأيام الستة، تمعن يغئال ألون في الوضعية الجديدة، وحللها بحسب المصالح العملانية لدولة إسرائيل، وقد حسم الأمر تجاه تنازل عن الأراضي. لقد دمج مخطط ألون بين الاهتمام بأمن إسرائيل والحفاظ على الطابع اليهودي للدولة، والاعتراف بحقوق الفلسطينيين. كانت تلك الرؤية جديدة في ذلك الوقت. لقد رسّم مخططه درب الحركة الصهيونية منذ ذلك الوقت وحتى الأبد، الرؤية التي سعت إلى عودة اليهود إلى وطنهم، وإلى الاستيطان. الرؤية التي، على الرغم من كل ما سبق، وفي تلك اللحظات الحاسمة، أيدت التوصل إلى تسوية سياسية وتقسيم البلاد. هذا ما حدث أيضاً عشية صدور قرار الأمم المتحدة في عام 1947، وبفضل ذلك قامت الدولة. هذه هي أيضاً رؤية حزب العمل: الأمن، الاستيطان، والقدرة على التوصل إلى تسوية. لو ووفق على مخطط ألون في ذلك الوقت، لكانت إسرائيل اليوم في وضع أفضل من ناحية أمنية، سياسية، وأخلاقية. ولأسفنا الشديد، لم تتم الموافقة على هذا المخطط، ولكن، وعلى مر سنوات السبعينات، عمل حزب العمل بحسب مبادئ مخطط ألون؛ فقد دعم الاستيطان في كل من هضبة الجولان، غور الأردن، شمال البحر الميت، وعلى امتداد سلسلة الجبال الرئيسية، وامتنع عن الاستيطان في المناطق المكتظة بالفلسطينيين.
مع صعود الليكود إلى السلطة في عام 1977 تم تنفيذ السابقة التاريخية المتمثلة في تشييد مستوطنة «ألون موريه» (المستوطنة اليمينية الدينية الأولى التي تم إنشاؤها في الضفة الغربية) هذه هي المستوطنة التي أطلقت موجة الاستيطان في سائر أرجاء يهودا والسامرة (الضفة الغربية)، والتي تعارضت مع مخطط ألون ومع أي منطق سياسي - أمني. هكذا وصلنا إلى الحالة القائمة اليوم: تحيي دولة إسرائيل ذكرى خمسين عاماً على انتصارها العسكري الأكبر وهي تسير بأحداق مفتوحة نحو مصير الدولة ثنائية القومية.
ويختتم بروشي: «قال ألون ذات مرّة: (ستشتاقون إلى مخطط ألون)، ورد عليه مناحيم بيغن (الليكود) قائلاً: (ستكون كثير من مستوطنات ألون موريه)، وقد صدق الزعيمان. نعيش اليوم في ظل توتر بين الرؤيتين. لقد رأى ألون في انتصار الأيام الستة فرصة لترسيم حدود الدولة، والتوصل إلى ترتيبات سلمية، ومنع تحقق الدولة ثنائية القومية. أما المعسكر الصهيوني، وهو من يسير على خطى بن غوريون، ألون، ورابين، فهو ملتزم بمواصلة السعي من أجل ترسيم حدود الدولة وفقا لمخطط ألون. علينا أن نؤكد أننا سنحمي المستوطنات في الخطوط الحيوية ونحتفظ بها، ونؤمن حاجاتنا الأمنية، ما من نية لدينا للتخلي عن أي مركّب أمني، ولكننا مع ذلك سنسعى إلى تسوية سلمية. على مشارف سبعين عاماً من الاستقلال، آن الأوان لنتحرر من عبودية خمسين عاماً من أرض إسرائيل الكبرى، ولكي نلجأ إلى عهد الحرية والسلام، وعهد الدولة اليهودية الديمقراطية التي تضمن أمنها وتضمن لنفسها أفقاً دبلوماسياً واعداً. عند ذلك فقط ستكون إسرائيل دولة قوية وعادلة أيضاً».
50 عاما على حرب 67 : الاستيطان... بدأ بضم القدس و14 قرية فلسطينية
إسرائيل تحيي انتصارها العسكري الأكبر بينما تزحف نحو دولة ثنائية القومية
50 عاما على حرب 67 : الاستيطان... بدأ بضم القدس و14 قرية فلسطينية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة