كان الاشتراكيون الأول يسعون، ضمن ما يسعون، إلى تحقيق نظام تكون من نتائجه الطبيعية إتاحة وقت فراغ للإنسان ليطور مداركه الذهنية والعقلية كي يرتقي إلى مرتبة عليا. ووصلت المبالغة أقصاها حين توقع ليون تروتسكي أن يكون المستوى الفكري للإنسان المتوسط في النظام الشيوعي لا يقل مستوى عن أرسطو! وكل ذلك بفضل وقت الفراغ الذي سيتوفر للإنسان بعدما يتحرر من الحاجة المادية المهلكة، المستنزفة للروح والعقل.
وبالطبع، لا يوجد أبهى من حلم كهذا، ولكن لا شيء أبعد من تحقيقه في مستقبل البشرية المنظور وغير المنظور، بل زاد الأمر سوءا، وبتنا نحلم حتى بلحظات قليلة لا يدهمنا فيها الوقت بسيفه القاطع، ولم يعد بإمكاننا أن نفعل شيئا حيال ذلك. لم يعد أي معنى للخيار، الذي وضعه العرب القدماء أمامنا بين تقطيعنا للوقت أو تقطيعه لنا كالسيف. إنه «زمن داهم» سيجرف كل شيء، وأولا النظام الذي يلعب به كما يشاء، أو، في الأقل، هذا ما يعتقده كريستوف بوتون، أستاذ الفلسفة في جامعة مونتانيه في كتابه «الزمن الداهم».
على عكس الاشتراكيين الأوائل الذين كانوا يرون أن النظام الرأسمالي سيزول بحكم التناقض الصارخ بين وسائل الإنتاج الخاصة وعلاقات الإنتاج العامة، كما شخص ذلك كارل ماركس منذ القرن التاسع عشر، وأن الرأسمالية ستحفر قبرها بنفسها قبل أن تتولى الطبقة العاملة هذه المهمة، يعتقد بوتون أن الحفّار سيكون هذه المرة، بعد أن بلغت البشرية هذه الدرجة المعقدة من التطور المتباين الأشكال: الوقت.
وبالطبع، إنه لا يأتي بجديد هنا، فقد أشبعه حديثا المفكرون، الاشتراكيون وغير الاشتراكيين. فمنذ الثورة الصناعية ظهر الإحساس بتسارع التاريخ، الناجم عن تسارع وسائل النقل، مدعوما بتسارع وسائل الاتصال، ثم جاءت الثورة التكنولوجية ووسائل الاتصال الجماهيري لتعزز هذا التوجه.
الجديد هنا أن ظاهرة «الوقت الداهم»، تتخذ الآن بعداً غير مسبوق في العالم الغربي. فبدل أن توفر المكننة والثورة التكنولوجية وقت فراغ أكثر للإنسان، إلا أن هذا الوقت، كما يقول بوتون في مقابلة له مع وكالة الصحافة الفرنسية بمناسبة صدور كتابه، يتم استغلاله في الاتجاه المعاكس، لتفعيل سباق الإنتاجية والربح.
وهو بذلك يتفق مع ما قاله المنظرون الاشتراكيون الأوائل، من دون أن يتطرق إلى نظرياتهم أو يستشهد بهم ولعله تجاهل غير مقصود، حول الوقت من ناحية الجوهر، وليس الشكل.. فحسب هؤلاء، الوقت اللازم للإنسان ليطور مداركه لا يمكن تحقيقه إلا بقلب النظام الرأسمالي وإحلال النظام الاشتراكي محله. أما بالنسبة لبوتون فهو يقترح إعادة الهيبة للشأن السياسي في مقابل الاقتصاد من دون أن يشرح لنا كيف. إنه يرى أن المشكلة تكمن في «رأسمالية منفلتة من أي ضوابط، ترسي آليات داهمة للإنتاج وتنظيم العمل»، وهذا الشكل من الرأسمالية سعى، بمختلف الأشكال التي اتخذها عبر التاريخ، إلى «إقامة رابط مع الوقت، تهيمن عليه فكرة أن الوقت مورد ينبغي استغلاله واستخراج أفضل ما فيه».
استنزاف النظام الرأسمالي للإنسان، عبر الإرهاق المهني، وعبر وسائل أخرى قد لا تكون مدركة تماما، وقد تبدو حتى بريئة، لا يمكن أن يوفر الوقت الكافي للاهتمام بالشأن السياسي، الذي بات يتطلب، كما يقول بوتون، وقتا متزايدا لفهمه، ومن هنا «فإن الديمقراطية التي تتطلب تفرغا باتت مهددة بفعل الزمن الداهم».
إذن، كيف سيحقق الإنسان في العالم الغربي هذا الوقت المطلوب للاهتمام بالشأن السياسي، وبالتالي بمصيره الخاص، حسب المعطيات التي أوردها بوتون نفسه حول طبيعة النظام الرأسمالي؟
كيف يمكن تحقيق مثل هذه المعادلة المستحيلة؟ لم يجبنا بوتون على ذلك..
حين يتحول الوقت إلى سلعة رأسمالية
حين يتحول الوقت إلى سلعة رأسمالية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة