تداعيات أحداث تطاوين

احتجاجات الفقراء في مواجهة «حيتان» التهريب

تداعيات أحداث تطاوين
TT

تداعيات أحداث تطاوين

تداعيات أحداث تطاوين

سمع كثيرون من مثقفي العالم وساسته بمدينة تطاوين التونسية قبل نحو 13 سنة، بعد النجاح الكبير الذي لقيه الشريط السينمائي عن «حرب النجوم»، الذي تحدث عن «كوكب تطاوين». وكانت قد صوّرت 6 من حلقاته في صحراء الجنوب التونسي، معظمها في منطقة الواحات الحدودية التونسية – الجزائرية، في موطن شاعر تونس الكبير أبي القاسم الشابي، بمحافظة توزر. إلا أن محافظة تطاوين التونسية، الواقعة على الحدود التونسية – الليبية، شدت أنظار العالم إليها خلال الأسابيع القليلة الماضية لأسباب مختلفة تماماً، إذ شهدت تحركات احتجاجية شبابية غير مسبوقة تطالب بالحق في التشغيل والتنمية في موقع صحراوي عسكري نفطي يدعى «الكامور»، يبعد عشرات الكيلومترات عن عاصمة المحافظة.
وكان المحتجون ينقلون إليه عبر سيارات وشاحنات تقول مصادر حكومية إنها مؤجرة من قبل مجموعة من كبار المهربين والمورطين في الفساد المالي. ورغم التنازلات الكبيرة التي اتخذتها السلطات لفائدة هذه المحافظة التي تغطي مساحتها ربع مساحة البلاد، ولا تضم أكثر من 150 ألف ساكن، تطورت فيها الاحتجاجات إلى أعمال عنف ومصادمات مع قوات الأمن، ثم إلى حملة اعتقالات غير مسبوقة لمئات من كبار المتهمين بالفساد المالي والسياسي، وبركوب احتجاجات العاطلين عن العمل، من بينهم عدد من أبرز صناع القرار السياسي والاقتصادي في البلاد منذ سنوات.

بدأت تحركات الشباب العاطل عن العمل في محافظة تطاوين الصحراوية الحدودية التونسية مع ليبيا سلمية، وكانت أبرز مطالبها براغماتية، بينها الحق في التشغيل، وفي رصد مبالغ مالية أكبر من قبل الدولة من أجل تنمية مدن المحافظة وقراها وأريافها، حيث استفحل الفقر لأسباب كثيرة، بينها تدهور الأوضاع الاقتصادية والأمنية في ليبيا. وللعلم، كان جلّ أبناء الجهة يعتمدون طوال عقود على المبادلات التجارية القانونية وغير القانونية مع ليبيا، «الجارة» إلى الشرق.
إلا أن التحركات سرعان ما تطورت إلى اعتصام شبابي في نقطة صحراوية حدودية قاحلة، دعمه آلاف النشطاء في «فيسبوك» وبقية المواقع الاجتماعية. ونجح هؤلاء في إقناع تيار من الإعلاميين وآلاف النشطاء السياسيين والحقوقيين من ميول مختلفة في العاصمة وكامل البلاد بالانحياز إلى مطالبهم التي تصاعدت تدريجياً إلى حد رفع مطالب وصفتها السلطات بالتعجيزية، من بينها تخصيص خمس مداخيل آبار النفط الموجودة في الجهة لمحافظة تطاوين وحدها، وتوظيف 3 آلاف عاطل عن العمل من أبناء الجهة في مؤسسة النفط التي تقول السلطات إن إنتاجها تراجع بنسبة فاقت الـ90 في المائة عما كانت عليه قبل 30 سنة.
وتعقدت أوضاع المحتجين أكثر لما تبنى بعضها قياديون في نقابات العمال وبعض الأحزاب السياسية اليسارية الراديكالية القريبة من «الجبهة الشعبية»، بزعامة حمة الهمامي، ثم حزب الرئيس السابق المنصف المرزوقي، وقياديون في حركة النهضة الإسلامية، بينهم رئيس الحكومة الأسبق علي العريّض ورئيس مجلس الشورى في الحركة الوزير السابق عبد الكريم الهاروني. وأوشكت تحركات تطاوين أن تصبح خارج السيطرة عندما تعاقبت التظاهرات السياسية والاجتماعية والإعلامية المساندة لها في العاصمة تونس وفي محافظات كثيرة، بينها محافظات سيدي بوزيد والقصرين وقفصة ومدنين وقابس، التي كانت وقود الانتفاضة الاجتماعية في 2010 ومطلع 2011.
وعلى غرار ما جرى في تونس في تحركات اجتماعية احتجاجية شبابية شهدتها البلاد عامي 2014 و2015، تجدد الحديث عن «ثورة ثانية»، وعاد بعض المتظاهرين لرفع شعارات ثورة يناير (كانون الثاني) 2011، وبينها: الشعب يريد إسقاط النظام، وخبز وحرية وكرامة وطنية، وثورة مستمرة، إلى غير ذلك من الشعارات التي يرفعها خصوصاً النقابيون والطلاب والشباب المحسوب على التيارات اليسارية.
* ازدواجية في المواقف
بعدها، تخوف المراقبون في تونس من مخاطر التصعيد الخطير الذي وصلت إليه الأحداث بعد تفاقم العنف في عدة مدن جنوبية وحدودية مع ليبيا والجزائر، وسط قلق حقيقي من أن يستغل آلاف المسلحين والإرهابيين الفارين من حرب ليبيا الوضع كي يتسللوا إلى تونس. وفي هذا السياق، تحولت مناقشة هذا الملف في البرلمان ووسائل الإعلام إلى مناظرات وتبادل علني للاتهامات بالخيانة الوطنية والضلوع في العنف والإرهاب من جهة، مقابل اتهامات بالضلوع في الفساد والسرقة والرشوة وجهت إلى رموز الائتلاف الحاكم من قبل بعض الحقوقيين والمعارضين، مثل الوزير السابق محمد عبو وزوجته البرلمانية سامية عبو، والأمين العام لحزب الرئيس السابق المرزوقي الوزير السابق عماد الدايمي.
هذا المناخ ورّط كبرى الأحزاب والأطراف السياسية، وبينها قيادات أحزاب الائتلاف الحكومي، مثل النداء والنهضة وآفاق والجمهوري والمسار، في ازدواجية المواقف. وتراوحت تصريحات بعض تلك القيادات بين مساندة ما وصفته بشرعية تحركات الشباب المضربين والمعتصمين في الطرقات المؤدية إلى المدن ومضخة النفط، وانتقاد هجومها على مؤسسات الأمن والإدارة والنفط وحرق مقرات مؤسسات أمنية وإدارية وسيارات تابعة للدولة.
ولعل هذه الازدواجية برزت، خصوصاً، في التصريحات الصادرة عن قيادات حزب النداء، الذي يتزعمه حافظ قائد السبسي، نجل الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي، وبعض زعامات حركة النهضة الإسلامية التي يتزعمها راشد الغنوشي، ونائب البرلمان التونسي عبد الفتاح مورو. وبرزت التناقضات أكثر بعد الخطاب الذي ألقاه الرئيس التونسي يوم 10 مايو (أيار) الحالي، وأعلن فيه عن تكليف الجيش بحماية المؤسسات الاقتصادية الوطنية، وبينها مضخات النفط ومناجم الفوسفات، إذ رد عدد من الساسة وزعمائها النقابيين بانتقادات لاذعة، واتهموا السلطات بمحاولة عسكرة البلاد، ودفع الأوضاع نحو إلغاء الديمقراطية والتعددية، وتسليمها إلى الجيش.
وكانت المفاجأة أن كان من بين من صدرت عنهم تلك الانتقادات الرئيس السابق المرزوقي ورئيس حكومة النهضة عام 2012 حمادي الجبالي وحقوقيون ونقابيون، بينهم سامي الطاهري، الأمين العام المساعد للاتحاد العام التونسي للشغل.
* المنعرج الأخطر
هذا الاستقطاب داخل النخب السياسية دفع الأوضاع في محافظة تطاوين وعدد من المحافظات الجنوبية نحو تجاوز كل الخطوط الحمراء، من حيث نوعية العنف المستخدم. وكان المنعرج الأخطر إقدام مجموعة من الشباب المعتصمين على غلق مضخات نفط في محافظتي تطاوين وقبلي، وحرق عدد من المؤسسات الأمنية والإدارية، ما تسبب في مواجهات وأعمال عنف كانت حصيلتها عشرات الجرحى بين الأمنيين والمتظاهرين، ومقتل الشاب أنور سكرافي بعدما دهسته سيارة أمن. ويومها، قالت السلطات إن السيارة كانت تتراجع للفرار من المداهمين الذين أحرقوا سيارات أمن وإسعاف مجاورة لها. كما تسببت تلك التطورات في إيقاف عشرات المشتبه فيهم والمتهمين.
ومن ثم، أعلنت السلطات أن التحقيقات مع الموقوفين في تطاوين والعاصمة وبقية المحافظات «تورّط» مجموعة من المهرّبين و«الحيتان الكبيرة» السياسيين في إشعال فتيل الأحداث، وقالت إن بينهم رجال أعمال وتجاراً يؤثرون في الحياة السياسية وفي توجهات وسائل الإعلام والقنوات التلفزيونية الخاصة منذ سنوات.
* أكبر «بركان سياسي»
وبعد أسابيع من الاتهامات المقنعة التي وجهها الرئيس التونسي قائد السبسي وبعض أعضاء حكومة يوسف الشاهد إلى أطراف يسارية وإلى حزب المرزوقي، وكذلك إلى «المتشددين» الإسلاميين، بركوب الاحتجاجات الشبابية وتأجيج الأحداث، كان «البركان السياسي» الأكبر في تاريخ تونس منذ انهيار حكم زين العابدين بن علي في يناير 2011، إذ تطور نسق الأحداث بسرعة، وعقدت جلسات طارئة في البرلمان والمجلس الأعلى للأمن، وفي مستوى رئاسة الحكومة ورئاسة الدولة والقيادات المركزية للحزبين الكبيرين النداء والنهضة.
وبدأت إشارات «البركان» بتصريح مثير صدر عن عماد الحمامي، الأمين العام المساعد في حزب النهضة الإسلامي وزير التشغيل المكلف من قبل الحكومة، بالتفاوض مع شباب تطاوين.
الحمامي، الذي عرف بهدوئه المبالغ فيه، وبدوره في تهدئة الأوضاع ميدانياً عبر تصويت وافق فيه 90 في المائة من المعتصمين على وقف التحركات مقابل وعود مالية واجتماعية وسياسية كبيرة قدمتها الحكومة للجهة وشبابها، أطلق نار التهم على حزب المرزوقي وعلى عدد من المهربين ورجال الأعمال الفاسدين.
وتسارع النسق عندما صدرت تصريحات مماثلة عن رئيس الحكومة الأسبق العريّض ووزير الزراعة والقيادي اليساري سمير الطيب، ثم عن نواب وساسة من أحزاب ليبرالية مشاركة في الائتلاف الحاكم.
وفي الوقت نفسه، انطلق مسلسل إيقافات شمل شخصيات مؤثرة في عالمي المال والإعلام، وفي اللعبة السياسية، وعشرات من التجار في «السوق السوداء» وضباط الجمارك الحاليين والسابقين، ومتهمين بامتلاك مخازن للسلع المهربة وبتزعم عصابات «بارونات» التهريب وتبيض الأموال.
وفي وقت قياسي، تغير إيقاع الأحداث في عموم تونس بنسبة 180 درجة، من التحركات الرامية إلى إسقاط «حكومة الوحدة الوطنية» برئاسة يوسف الشاهد، إلى تنظيم تحركات شعبية وحملة إعلامية مساندة لحربها الشاملة ضد الفساد.
ومع حلول شهر رمضان، وموسم الإجازات والمهرجانات الصيفية، وابتعاد التونسيين عن الشؤون السياسية، تكون الحكومة قد ضمنت خروجًا بأقل الأضرار من الأزمة التي فجّرتها احتجاجات الشباب العاطل عن العمل في الجنوب التونسي. وتعود تطاوين مجدداً إلى حجمها الطبيعي، في شكل مدينة سياحية تاريخية صغيرة، بعدما حاول بعض شبابها أن يصنعوا منها عبر «فيسبوك» والمواقع الاجتماعية «كوكباً سياسياً» جديداً يضاهي كوكب تطاوين في فيلم «حرب النجوم» الواسع الانتشار.
* تطاوين: مهمشون على ربع مساحة تونس
مدينة تطاوين، في الجنوب التونسي، هي عاصمة محافظة تطاوين الصحراوية التي تجمعها حدود مشتركة مع غرب ليبيا وشرق الجزائر، وهي أكبر محافظات تونس مساحة، إذ تمثل نحو ربع مساحة البلاد، وتمتد على نحو 40 ألف كلم مربع، على الرغم من أن تعداد سكانها يحوم حول 150 ألف نسمة فقط.
معيشياً، يعتمد أبناء هذه المحافظة، على غرار نسبة كبيرة من سكان الجنوب التونسي عامة والجنوب الشرقي خاصة، على عائدات العمالة التونسية في أوروبا، وخصوصاً في فرنسا وليبيا، والمبادلات التجارية القانونية وغير القانونية مع ليبيا. وللعلم، تنتمي معظم عائلات المحافظة وقبائلها إلى القبائل والعائلات المنتشرة في غرب ليبيا نفسها، خصوصاً في الجبال الصحراوية الليبية الممتدة إلى سلسلة جبال مطماطة في محافظة قابس التونسية، على مسافة 400 كلم جنوب شرقي العاصمة تونس.
وتعتبر محافظة تطاوين منذ عشرات السنين أهم مركز لمضخات النفط، وموطناً رئيساً للسياحة الصحراوية والثقافية. كما تعد السلسلة الجبلية المعروفة باسم جبال الضاهر من أهم المشاهد الطبيعية في تطاوين وعموم الجنوب الشرقي التونسي. ولقد كانت تلك الجبال مخبأ رئيسياً للثوار الوطنيين التونسيين والليبيين ضد الاستعمارين الفرنسي والإيطالي بعد الحرب العالمية الثانية. غير أن نحو نصف أراضي محافظة تطاوين صحراوية قاحلة، تعاني مثل غالبية جهات الجنوب التونسي من نقص فادح في الأمطار والموارد المائية السطحية ومراعي الأغنام.
* قرارات بالجملة لفائدة المحافظة
أعلنت رئاسة الحكومة التونسية عن حزمة من الإجراءات، نصت على أكثر من 60 قراراً لفائدة محافظة تطاوين، على هامش زيارة عمل أداها إليها رئيس الحكومة يوسف الشاهد رفقة عدد من الوزراء ورجال الأعمال والبرلمانيين، منها:
- الإعلان عن تمويل 453 مشروعاً (223 عن طريق البنك التونسي للتضامن ومؤسسات التمويل الصغير وبنك المؤسسات الصغرى والمتوسطة، و40 مشروعاً فلاحياً و190 مشروعاً عن طريق الوكالة الوطنية للتشغيل والعمل المستقل).
- الإعلان عن 350 وظيفة في إطار عقد الكرامة (حصة تطاوين 1042).
- تأسيس لجنة بإشراف وزارة التكوين المهني والتشغيل تتولى إسناد البطاقة المتعلقة بالتشغيل في الصحراء.
- الانتداب الفوري لـ500 عون بشركة البيئة والبستنة.
- تمويل 670 مشروعاً صغيراً في إطار المسؤولية المجتمعية للمؤسسات.
- تمويل 150 مشروعاً في إطار التمكين الاقتصادي للمرأة قبل نهاية 2017.
- إحداث مركب للتشغيل والعمل المستقل سنة 2018.
- انطلاق أشغال إعادة تهيئة المناطق السقوية بمعتمديات رمادة والبئر الأحمر وغمراسن والذهيبة سنة 2018.
- انطلاق أشغال حماية مدينة تطاوين من خطر الفيضانات.
- إحداث مناطق سقوية جديدة بمعتمديات غمراسن ورمادة والبئر الأحمر.
- انطلاق أشغال تعزيز وتجديد قنوات جلب المياه بالجنوب الشرقي في نهاية 2017.
- انطلاق تدعيم التزويد بالماء الصالح للشراب بمنطقة تلالت من معتمدية تطاوين الشمالية والمناطق العليا من مدينة غمراسن ومنطقة قصر الحدادة من معتمدية غمراسن سبتمبر (أيلول) 2017، بكلفة 0.72 م.د.
- فتح مطار رمادة العسكري للطائرات المدنية، وذلك قبل 25 مايو 2018.
- الانطلاق في بناء ورشة جهوية لصيانة الحافلات سنة 2018.
- انطلاق الأشغال المتعلقة بوصلة الربط بين تطاوين والطريق السيارة أ1 بولايتي مدنين وتطاوين، وذلك بداية سنة 2018.
- انطلاق أشغال تهذيب الطريق الجهوية رقم 111 بين الصمار وحدود ولاية مدنين بطول 23 كلم.
- انطلاق أشغال بناء جسر على وادي تلالت بالطريق الوطنية رقم 19 في يوليو (تموز) 2017.
- انطلاق أشغال تدعيم الطريق الجهوية رقم 115 الرابطة بين منطقة واد الغار وحدود ولاية مدنين بطول 26 كلم.
- انطلاق أشغال تعصير وتدعيم الطرقات داخل المناطق البلدية بكل من بلدية تطاوين وبلدية غمراسن وبلدية الصمار في يونيو (حزيران) 2017.
- الانطلاق في تهذيب حي وسط المدينة ببلدية رمادة (طرقات - تنوير عمومي - ماء صالح للشراب).
- انطلاق أشغال تأهيل وتوسعة وتجهيز المستشفى الجهوي بتطاوين (عيادات خارجية، والاستعجالي، ومبيت للأطباء، وقطب جامعي إقليمي في طب النساء والأطفال، وإحداث صيدلية) سنة 2018.
- إحداث وحدة طب استعجالي بالمركز الوسيط ببني مهيرة نهاية 2017.
- انطلاق أشغال إحداث مركز تكوين في الطاقة والمواد الإنشائية في سبتمبر المقبل.
- إحداث المنطقة الصناعية ببونمشة بولاية تطاوين تمتد على 50 هكتاراً، وانطلاق الأشغال في مايو 2018.
- إحداث مسلخ بلدي سنة 2018.
- انتهاء أشغال توسيع وإعادة تهيئة محطة التطهير لمدينتي تطاوين وغمراسن قبل نهاية 2017.
- انتهاء أشغال تطهير 3 أحياء شعبية بتطاوين أبريل 2018.
- انطلاق توسيع شبكة التطهير بمدينة تطاوين قبل نهاية 2017.
- إعادة بناء دار الثقافة برمادة سنة 2018.
- إحداث متحف للتراث الثقافي والطبيعي بتطاوين سنة 2018.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.