تستعيد مدينة الطبقة الواقعة في الشمال السوري بصعوبة أنفاسها بعد أيام على إعلان ميليشيا «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) المدعومة أميركيا السيطرة عليها وطرد ما تبقى من عناصر تنظيم داعش منها. وفيما كشف مصدر قيادي كردي أن «قسد» التي تشكل ميليشيا «وحدات حماية الشعب» الكردية عمودها الفقري، لا تزال تلاحق عناصر التنظيم الأجانب المتخفين في عدد من الحارات، تحدث ناشطون في الشمال السوري عن أوضاع إنسانية صعبة ترزح تحتها المدينة مع استمرار وجود جثث تحت الأنقاض ونقص في المواد الغذائية والطبية.
حملة «الرقة تذبح بصمت» التي ترصد أحوال المناطق الخاضعة لسيطرة «داعش» في الشمال، تحدثت عن «فرض (قسد) حظرا للتجوال في المدينة خصوصا في الأحياء التي سيطرت عليها موخراً»، لافتة إلى أنها تقوم بـ«نقل كثير من الجثث من المنازل ومن تحت الأنقاض نظرا لكون المعارك في الأسبوعين الماضيين تسببت بدمار قسم كبير من المدينة، خصوصا منطقة الأحياء، آخر نقاط الاشتباك بين الطرفين. وفيها استخدم التحالف الدولي قاذفات (بي52) الأميركية الاستراتيجية وكذلك الطيران الحربي والمروحي، الأمر الذي تسبب بدمار قرابة 50 في المائة من الحي الأول، وما يقارب 40 في المائة في الحيين الثاني والثالث».
من جهة أخرى، قال مهاب ناصر، الناشط المعارض، وابن مدينة الطبقة لـ«الشرق الأوسط» في حوار معه: «هناك جثث في منطقة الحي الثالث والحي الثاني ما زالت تحت أنقاض المباني»، لافتا إلى أن «الوضع الحالي ما زال سيئا في المدينة الخارجة من حصار محكم، خصوصا أنه حتى الساعة لم يدخل إليها أي مواد غذائية أو طبية. كذلك لا يوجد أي نقطة طبية جاهزة داخل المدينة حتى الآن».
وأشار ناصر إلى أن «الكهرباء ما زالت مقطوعة، وكذلك الاتصالات العادية، أما الاتصالات الفضائية أو عبر الإنترنت، فممنوع استخدامها في المدينة بقرار من (قسد)». وتابع أن الميليشيا المذكورة قامت خلال الأيام القليلة الماضية بإدخال «معلبات إلى المدينة وقامت بتشغيل المياه أيضا و5 أفران... أما العدد الإجمالي للمدنيين الموجودين حاليا بكامل المدينة فهو نحو 5 آلاف. كما يمكن رصد وجود مجموعة على شكل كتيبة كلها من المقاتلين الأجانب معظمهم من الأوروبيين يقاتلون مع وحدات حماية الشعب في سد الفرات، وقسم منهم موجود في مطار الطبقة».
في المقابل، أوضح مصدر قيادي كردي أن «عمليات تمشيط عدد من الحارات في الطبقة مستمرة بحثا عن عناصر (داعش) الأجانب، وهذا شيء طبيعي في المعارك بعد التحرير، كما أن هناك عمليات ناشطة لتفكيك الألغام التي زرعها (داعش)». وأردف المصدر لـ«الشرق الأوسط» قائلا: «قواتنا أعادت عمل أفران المدينة كذلك تقدم المساعدات للمدنيين عبر توزيع المياه والطعام وفتح الطرقات... الوضع الإنساني بشكل عام جيد، لكننا لا شك بحاجة لبعض الوقت لإعادة تفعيل البلدية والدوائر المدنية».
هذا، وتكمن أهمية مدينة الطبقة بكونها تحوي أكبر السدود في سوريا (سد الفرات) الواقع على نهر الفرات، كما فيها أحد أهم المطارات العسكرية وهو مطار الطبقة العسكري الذي سيطر عليه تنظيم داعش منتصف عام 2014. ويزيد عدد القتلى المدنيين الذين خلفتهم معارك الطبقة، وفق حملة «الرقة تذبح بصمت» عن 6 آلاف لقوا حتفهم نتيجة غارات الطيران الحربي التابع للتحالف الدولي، «حيث استخدم طيران التحالف الكثافة النارية بصورة مفرطة للغاية لتلافي الاشتباكات المباشرة ما بين الميليشيات المتقدمة على الأرض وعناصر التنظيم، الأمر الذي تسبب بمجازر وإصابات كثيرة يتحمل التحالف الدولي مسؤوليتها». ونقلت «الحملة» عن أحد الأشخاص الموجودين حاليا داخل الطبقة قوله «شاهدنا الكثير من الأبنية في الحيين الثاني والثالث مدمرة تماما، حتى إننا رأينا تحت بعضها عددا من الجثث، خصوصا في الحي الثالث حيث يقدر عدد الضحايا المدنيين بـ40، ناهيك بالدمار اللاحق بالبنية التحتية».
الجدير بالذكر أن التحالف الدولي، بقيادة واشنطن، في بيان أصدره يوم الخميس الماضي قال إن مسلحي تنظيم داعش سلموا مدينة الطبقة على نهر الفرات لميليشيا «قسد» قبل أن يفروا ويتعرضوا لقصف التحالف. وأعلن أن «نحو سبعين مقاتلا من التنظيم رضخوا لشروط (قسد)» التي تتألف في معظمها من فصائل كردية، و«سلموا» المواقع التي كانوا لا يزالون يسيطرون عليها في المدينة المحاصرة منذ أسابيع. ولفت إلى أن هذه الشروط تضمنت «تفكيك العبوات الناسفة المحلية الصنع» حول سد الطبقة و«تسليم كل أسلحتهم الثقيلة» و«انسحاب كل مقاتلي (داعش) من مدينة الطبقة». وأضاف التحالف أن قواته «رصدت» لاحقا هؤلاء المسلحين، الذين كانوا يغادرون المدينة وضربتهم «من دون إصابة مدنيين».
من جانب آخر، كشفت معركة الطبقة إلى حد بعيد «السياسة الأميركية الجديدة في التعامل مع الإرهاب»، وفق تقرير مفصل أعدته «الرقة تذبح بصمت». وفي التقرير أشارت إلى أنه خلال المعركة التي استمرّت قُرابة الخمسين يوماً «توقع عناصر (داعش) تكثيف الهجوم على الرقة من الجهة الشمالية، لكن (قسد) بمساندة كاملة من طائرات التحالف التي لم تفارق سماء الطبقة وريفها؛ استخدمت أساليب قضم الأرض التي يسيطر عليها التنظيم رويدا رويدا، ممعنة في حصار عناصره والتخفيف من كفاءاتهم في الالتحامات المباشرة، والحيلولة دون تنفيذهم عمليات انتحارية تؤّخر تقدّم القوات المهاجمة أو توقع إصابات وخسائر كبيرة في صفوفها».
وأوضح التقرير أن أبرز ملامح «التحوّل في السياسية الأميركية للتعامل مع (داعش)» كان الإنزال الجوي للقوات الأميركية في الثاني والعشرين من مارس (آذار) في أربعة مواقع في ريف الطبقة قامت به بشكل متزامن كل من مشاة البحرية الأميركية «المارينز» و«قسد» لتسيطر بموجبه على الطريق الواصل بين الرقة وحلب. كذلك رصد التقرير تحولا آخر لجهة «استراتيجية المفاوضات مع عناصر (داعش)»، إذ حصلت عدة مفاوضات مع عناصر التنظيم الذين حُوصروا في الأحياء الرئيسية الثلاث في المدينة (الأول والثاني والثالث) وتحصنوا فيها، وتمحورت هذه المفاوضات على خروج آمن لعوائلهم والجرحى منهم، مقابل تسليم المدينة.
«الطبقة» مدينة سكانها خمسة آلاف... والضحايا ستة آلاف
معركتها حسمت اتجاه السياسة الأميركية الجديدة في التعامل مع الإرهاب
«الطبقة» مدينة سكانها خمسة آلاف... والضحايا ستة آلاف
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة