السيرة الشخصية... أم الفكر؟

من يقرأ تفاصيل الحياة الخاصة للمفكرين يشوش على نفسه

السيرة الشخصية... أم الفكر؟
TT

السيرة الشخصية... أم الفكر؟

السيرة الشخصية... أم الفكر؟

بعض الباحثين حينما يريدون تناول مفكر أو فيلسوف بالدرس، يجهدون أنفسهم في البحث عن سيرته والغوص في تفاصيل دقيقة عن حياته، وذلك من منطلق أن ذلك سيضيء فهمهم لمواقفه، وستتضح لهم بعض ما استغلق من أطروحاته، فالحياة التي عاشها تلقي بظلها على تفكيره وتلون قناعاته... لكن الأمر في الحقيقة ليس كذلك إلا بنسبة ضعيفة جداً، ولا يمكن اعتمادها أبداً كقاعدة، وهو ما سنحاول بيانه:
إنك مثلا حينما تقرأ كتاباً مرموقاً من قبيل «نقد العقل الخالص» لصاحبه الفيلسوف إيمانويل كانط، فأنت لا يهمك هل تزوج أم لا؟ هل أقام علاقات غرامية أم لا؟ هل كان عفيفاً طاهراً أم كان ماجناً فاسقاً؟هل كان نبيلاً أم خسيساً؟ هل كان غنياً أم فقيراً؟... فكل هذه الأمور لن تزعزع من صلابة ومعمار الكتاب. وإذا ما قلت لنا وأنت تتبع سيرته، أنه كان شخصاً عفيفاً ولم يتزوج قط وليس له أبناء وهو ما ساعده على التفرغ والتفكير، سنرد عليك أن هذه ليست قاعدة مفسرة على الدوام، فكم من الفلاسفة تزوجوا وأنجبوا ولم يؤثر ذلك على جودة فكرهم، ولنا في أرسطو النموذج الأمثل، فهو تزوج لمرتين وكان له ولد اسمه «نيقوماخوس»، ونحن نعلم أنه قدم معماراً فكرياً هيمن على عقول البشرية لمدة عشرين قرناً، فهزيمته لم تكن إلا في القرن السابع عشر.
أما إذا أخذنا مثالاً معاصراً وهو سيرة الفيلسوف الوجودي سارتر، فهي مملوءة بالغرابة، حيث عاش مع الفيلسوفة «سيمون دو بوفوار» تجربة تمثلت في «زواج العشاق»، حيث تم تتويج لقائهما منذ البداية باتفاق شهير يقضي بالحرية الجنسية والعاطفية، وأما الغيرة فهي لا تخطر على البال، شريطة الوضوح بينهما، وأن يحكي كل واحد للآخر أفعاله وغرامياته!. وهو الاتفاق الذي تم اعتباره في خمسينات القرن العشرين فضيحة لهما. وحقا فإن سارتر لم يلتزم جنسيا مع سيمون دو بوفوار، ودخل في غراميات متعددة، والأمر نفسه فعلته دو بوفوار، بل كانت لها ميولات سحاقية... لكن كل ذلك لن ينقص أبداً من كتاب «الوجود والعدم» لسارتر، ولم يؤثر على مبادئ الفلسفة الوجودية التي جعلت من الإنسان كائنا متعاليا وحرا فاعلا يختار بين البدائل، ومتحملا لكامل مسؤولياته.
إن الأمر نفسه يقال عن كاره النساء، الفيلسوف شوبنهاور، فكتابه «العالم كإرادة وتمثل» هو زلزال فكري رهيب سمح للبشرية في التفكير في الأعماق الخفية المحركة للعالم، فهو من ممهدي فكرة اللاشعور الفرويدية، فماذا ينفعنا أن نعرف أنه كان كارها للنساء، وأنه كان شديد التوجس من الآخرين ولا يثق بأحد إلا كلبه الصغير.
بل جرب مرة أخرى، واقرأ كتابا في التربية شهيرا جدا ظهر في القرن الثامن عشر وهو «إميل أو التربية» لصاحبه جون جاك روسو، فستنبهر بالأفكار الثورية التي فيه، والسبق في بعض ما نحن ننعم به في التصورات التربوية للأطفال، إلى درجة أن الأديب الألماني «غوته» قد وصف هذا الكتاب بكونه «إنجيل المعلمين». لكن اذهب إلى حياة الرجل فستجدها حياة تشرد وبؤس، حياة كلها تنقل وعدم استقرار، ألم يرمِ أولاده الخمسة والذين أنجبهم بطريقة غير شرعية في دار الأيتام دون اسم ولا نسب. فهل قيمة كتابه في التربية في ذاته؟ أم هو مرتبط بسيرته التي لا تتلاءم وادعاءاته الفكرية؟ بل أليس الرجل هو من قدم نظرية واضحة في الديمقراطية في كتابه «التعاقد الاجتماعي» والذي أعطى فيه الصلاحيات للإرادة العامة، ومن خلاله تحركت الثورة الفرنسية؟.
أما إذا اتجهت صوب فيلسوف آخر ذائع الصيت وهو «مارتن هايدغر»، وحاولت قراءة كتابه «الكينونة والزمان» فأنت ستجد نفسك أمام فلسفة أصيلة وعميقة تنتقد الحضارة الغربية وتراها موغلة في التقنية ومتناسية للوجود الذي توارى واختفى السؤال عنه، ولكن ماذا إن سألت عن حياته؟ فهي انتماء للنازية وفي الوقت نفسه نكران جميل لمعلمه «هوسرل» الذي منحه منصبا مرموقا في الجامعة، والأكثر من ذلك علاقته مع الفيلسوفة «حنا ارندت» وبطريقة سرية فهو كان متزوجا وبولدين. فهل نقرأ أفكاره، أم ننغمس في دقائق خصوصياته وانتماءاته السياسية؟
ولنختم قائمة النماذج التي لا حصر لها بفيلسوف كانت حياته مقززة ومنفرة، وهو «الفرنسي ميشال فوكو» فهو كان يزرع «الحشيش» في حديقة بيته، ويتعاطى أنواعا متعددة من المخدرات. لكن جرب أن تقرأ كتبه، فستجد عمقا هائلا، وستتساءل مباشرة: هل حقا من يكتب هو نفسه يفعل كل ذلك؟ أليس الرجل هو من فضح آليات السلطة الدقيقة؟ أليس هو من بحث في الهوامش المنسية وحفر مدققا فيها (الجنون، العيادة، الجنس...)؟ أليس الرجل هو من وضع يده على ما أسماه «الإبستمي» أي أفق العصر المعرفي المسيطر على المفكرين؟ بل ألم يعتمد د. عابد الجابري على أدواته المنهجية؟

* كاتب وأكاديمي مغربي



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!