من التاريخ: حكم قراقوش

من التاريخ: حكم قراقوش
TT

من التاريخ: حكم قراقوش

من التاريخ: حكم قراقوش

«لو كررت الكذبة مجموعة من المرات ستصبح حقيقة»، هذه الجملة الشهيرة هي للدكتور «جوبلز»، وزير إعلام هتلر وألمانيا النازية، والمقصود بها أن الشعوب كثيرا ما لا تتحقق من الصدق في بعض المقولات، بالتالي تكون على استعداد لكي تصدق الأكذوبة في نهاية المطاف، فتصبح أمرا مصدقا بين أفراد الشعب، وعلى الرغم من تحفظنا الشديد على هذه المقولة وقائلها، فإنها قد تكون حقيقية في بعض المناسبات التاريخية، فالكثير من الشخصيات التاريخية التي نقرأ عنها اليوم إنما هي مرتبطة بالشخصية سالفة الذكر، وبالتالي فإن بعضهم يُوصم لأسباب غير موضوعية، وآخرين يعلو شأنهم دونما استحقاق، فهذه سُنة البشر، فلا مناص من هذا المرض التاريخي غير الموضوعي، ولعل أبرز مثال على ذلك هو «قراقوش»، تلك الشخصية التي لو سألت عنها المصريين لخافوا منها، وتمنوا ألا يروها في حاضرهم لأنها تشكلت كجزء من ذكرى غير مرغوب فيها بالعقل الباطن الجمعي للمصريين، والذي استقر للأسف على فرية نأمل أن نسهم بمحوها في هذا المقال.
إن شخصية «قراقوش» هي شخصية حقيقية وليست من نسج الخيال، فكُتب التاريخ أوردتها، وهي شخصية مهمة خدمت كلا من صلاح الدين الأيوبي وعمه أسد الدين شيركوه، وهو عبد خصي من آسيا الصغرى دخل في خدمة الأخير وذهب معه إلى مصر خلال حملته لصالح السلطان نور الدين محمود، وقد لُقب الرجل باسم بهاء الدين بن عبد الله الأسدي، فاسم عبد الله لأنه لا نسب له، والأسدي نسبة إلى أسد الدين شيركوه، وتصفه أغلبية الكتب التاريخية بأنه كان شخصية جادة للغاية ولديها جلد كبير على العمل والتنظيم والإدارة، فبزغ نجمه خاصة في مجالات الدواوين والهندسة، فهو بحق رجل دولة، ولكنه ليس بالضرورة عبقرية عسكرية، فلم يُسجل التاريخ للرجل أي مآثر عسكرية عظيمة، وإن كان له دوره بطبيعة الحال في حصار عكا، والذي انتهى بالاستسلام، وأغلب الظن أن أفضل وصف له هو أنه كان الذراع اليمنى لكثير من حكام مصر، بدءا من أسد الدين شيركوه، مرورا بصلاح الدين وأولاده وإخوته، ولعل أفضل ما ميزه هو أنه رجل لم يغير في أي وقت من الأوقات ولاءه، ولم يبع نفسه لكل مزايد على السلطة، فظل على عهده إلى أن مات سيده الواحد تلو الآخر، وهي قيمة نادرة في ذلك الوقت، لا سيما مع تعدد الأقطاب السياسية وتناحرها.
لقد أتى «قراقوش» مع سيده أسد الدين شيركوه إلى مصر، وخدم في جيشه وكان من المؤتمنين على سره، ولكن بعد موت الرجل وتولى صلاح الدين رئاسة وزراء مصر خلفا له في فترة عصيبة من فترات التاريخ المصري، أقسم الرجل على الولاء له، وقد عهد له صلاح الدين بأهم مهمة لرجال دولته في ذلك الوقت، حيث عينه رئيسا للديوان السلطاني بعدما اتخذ القرار الجريء بإنهاء الخلافة الفاطمية في مصر وتحويل مذهب الدولة من الشيعة إلى السنة بإعادة مصر إلى أحضان الخلافة العباسية الواهنة، وقد كان صلاح الدين يخشى الدسائس في القصر وخطورتها على الشرعية الجديدة التي يسعى لتثبيتها، وقد كان «قراقوش» الرجل المناسب، فلقد أحكم قبضته على القصر تماما، ويقال إنه فرق بين بقايا ذكور الأسرة الفاطمية والنساء منعا للتكاثر تفاديا لمطالبات مستقبلية بولاية العرش، حيث وضعهم في «حارة برجوان»، وقد قام الرجل بعد فترة غير طويلة بتصفية القصر تدريجيا من كنوزه وجواريه تمهيدا لإنهاء نيف ومائتي عام من الحكم الفاطمي، حتى إنه قام أيضا بتصفية مكتبة القصر تحت حجة أنه كان يعتقد أنها تحتوي على كثير من كتب التشيع الذي كان سلطان مصر الجديد يسعى للقضاء عليه، وفي التقدير هنا أن هذا الشخص لم يكن على دراية فكرية أو موضوعية بقيمة مثل هذه المكتبة، ومن ثم جاءت فكرة تصفيتها دونما مراجعة.
بعد نجاحه الباهر في هذه العملية المهمة، تولى «قراقوش» أمر تدبير الدولة المصرية، وعلى الرغم من أن وظيفته لم تكن واضحة كل الوضوح، فإنها كانت أقرب ما تكون إلى رئيس وزراء، حيث عُهد له بتنظيم مصر مرة أخرى بعد القضاء على الدولة الفاطمية، وإليه ترجع جهود تحسين الأحوال وشق الترع والاهتمام بالزراعة وشؤون الناس، وفي عهده وضعت الأسس لبناء القلعة الشهيرة في المقطم، والتي لا تزال اليوم أثرا مهما من آثار القاهرة يقف المرء متأملا لها ولما تحمله من أسرار، وذلك على الرغم من أن البناء لم ينته في عهده، كذلك فقد قام أيضا بشق مجاري المياه حول القاهرة، كما أنه أقام بعض التحصينات العسكرية لضمان حماية مصر من الحملات الصليبية، وقد عهد له صلاح الدين بالقيام على الشؤون المصرية في الكثير من المناسبات عندما كان في الشام يحارب الصليبيين.
وقد ظل صلاح الدين يرى في «قراقوش» رجل الدولة الذي يثق فيه، إلى الحد الذي انتقل إلى خدمة ابنه «العزيز» بعد موته، وظل «قراقوش» على نشاطه وهمته في خدمة الرجل في مصر، إلى الحد الذي دفع السلطان بمهمة الوصاية على عرش ابنه «المنصور» والذي كان لا يزال دون العاشرة من عمره، وهي المهمة التي قام بها على أكمل وجه إلى أن أصر «الأفضل»، عم السلطان، على أن يتولى هذه المهمة، وظل الرجل على عهده مع الأسرة الأيوبية، يخدم سلاطين مصر الواحد تلو الآخر، دون أن تغويه السلطة أو تفتنه امرأة أو يستميله مال، وقد أوردت بعض كتب التاريخ صفاته المحمودة ودوره العظيم مع السلاطين الأيوبيين كرجل دولة له قيمته وقامته وأعماله الجليلة.
ولكن كيف يتحول عمل رجل مثل هذا ليكون مجالا للتندر المصري والرفض السياسي والأخلاقي لكل أعماله، والتي يعترف بها التاريخ ويشهد بها أغلبية المؤرخين؟ وحقيقة الأمر أن الرجل على ما يبدو وقع في صدام مع أحد الشعراء والأدباء في ذلك العصر، وهو «ابن مماتي»، والتقدير أن هذا الخلاف كان سببه تحالف «قراقوش» الأمين مع المماليك التي كانت تابعة لسيده صلاح الدين بدلا من فريق آخر يتبع أخاه، فكان «ابن مماتي» ينتمي للفريق الثاني، بالتالي ألّف كتابه هذا لتشويه صورة الرجل أمام العامة والخاصة وضرب مصداقيته بين الشعب المصري ولدى النخب المجاورة لمركز السلطة، وبالتالي فإن كتاب «الفاشوش في أحكام قراقوش» ما هو إلا مجموعة من النوادر غير المنطقية في مجملها، والتي لا يمكن أن تصدر من رجل دولة بحنكة رجل مثل «قراقوش»، فهي مليئة بالمتناقضات والقصص القصيرة التي ترقى لتكون مجالا للسخرية والهجاء والتهكم وليس الحقيقة، ولكنها كانت في واقع الأمر كفيلة بأن تدمر صورة الرجل عبر الأجيال، إلى الحد الذي أصبح يُستخدم في مصر على اعتباره رمزا للطغيان والجبروت والمطالب غير المنطقية من قبل الحاكم، وهكذا تكررت الأكاذيب على يد الشعراء لتصبح حقيقة غير واقعية في العقل الباطن لدى شعب.
ولعل ما قد يعزي «قراقوش» في قبره هو أن شيئا مماثلا قد حدث لغيره في عصر غير بعيد عنه وفي مصر أيضا، وهي لكافور الإخشيدي، رجل الدولة، والذي كانت خلفيته تتشابه مع «قراقوش» أيضا، فكان عبدا خصيا آلت له مصر وأسس الدولة الإخشيدية، ومع ذلك، فعندما يأتي ذكره فإن الجميع ينسون قدراته كرجل دولة وكيف استفادت مصر منه باستقلالها بعيدا عن خلافة منتهية الصلاحية في بغداد، فهم لا يتذكرون إلا قصيدة المتنبي التي هجته لأنه لم يمنحه العطاء المطلوب والتي قال له فيها:
لا تشترِ العبد إلا والعصا معه
إن العبيد لأنجاس مناكيد
صار الخصي إمام الآبقين بها
فالحر مستعبد والعبد معبود



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.