المثقفون العرب وتصفية الحسابات التاريخية مع الذات التراثية

500 عام على حركة الإصلاح الديني البروتستانتي

لوحة تصور الجيش الألماني خلال حرب الثلاثين عاماً -  حرب الـ30 عاماً: 1618 - 1648 - المؤلف: البروفسور هنري بوغدان أستاذ علم التاريخ الأوروبي في جامعة مرسيليا - دار النشر: بيران، باريس
لوحة تصور الجيش الألماني خلال حرب الثلاثين عاماً - حرب الـ30 عاماً: 1618 - 1648 - المؤلف: البروفسور هنري بوغدان أستاذ علم التاريخ الأوروبي في جامعة مرسيليا - دار النشر: بيران، باريس
TT

المثقفون العرب وتصفية الحسابات التاريخية مع الذات التراثية

لوحة تصور الجيش الألماني خلال حرب الثلاثين عاماً -  حرب الـ30 عاماً: 1618 - 1648 - المؤلف: البروفسور هنري بوغدان أستاذ علم التاريخ الأوروبي في جامعة مرسيليا - دار النشر: بيران، باريس
لوحة تصور الجيش الألماني خلال حرب الثلاثين عاماً - حرب الـ30 عاماً: 1618 - 1648 - المؤلف: البروفسور هنري بوغدان أستاذ علم التاريخ الأوروبي في جامعة مرسيليا - دار النشر: بيران، باريس

نريد أن نتحدث هنا عن حرب الثلاثين عاماً التي جرت في أوروبا بين عامي 1618 و1648 بين أتباع البابا والمذهب الكاثوليكي من جهة، وأتباع لوثر وكالفن والمذهب الإصلاحي البروتستانتي من جهة أخرى. ينبغي أن نبحث عن أصل هذه الحرب المدمرة التي اكتسحت معظم أنحاء أوروبا في تلك الأزمة الدينية التي أصابت أوروبا الوسطى على إثر اندلاع حركة الإصلاح الديني البروتستانتي. وهي حركة اندلعت عام 1517 أي قبل 500 سنة بالضبط. ومعلوم أن الألمان يحتفلون على مدار هذا العام كله ببطلهم القومي الأكبر مارتن لوثر الذي فجر هذه الحركة وكان قائدها الأعظم. وهو العدو اللدود لبابا روما. ولا يزال مكفراً حتى الساعة من قبل الكاثوليكيين. ومعلوم أيضاً أن أوروبا انقسمت بعد لوثر إلى قسمين: قسم بروتستانتي مؤمن بأفكاره، وقسم ظل كاثوليكياً تابعاً للبابا والفاتيكان. والقسم الأول، أي البروتستانتي، تخلى عن عقائد كثيرة في المسيحية البابوية، كتقديس رجال الدين أو إطاعتهم إطاعة عمياء، وكالاعتقاد بمعصومية البابا، وكعزوبية رجال الدين الإجبارية، وكشفاعة مريم العذراء والقديسين، إلخ. ولكن البابا حاول سحق هذا الإصلاح الديني الشهير عن طريق القوة. ونتجت عن ذلك حروب ومعارك طاحنة طيلة القرن السادس عشر سواء في ألمانيا أم في فرنسا أم في سواهما. ثم استمرت هذه الحروب في القرن السابع عشر بل وحتى الثامن عشر والتاسع عشر. وفي آيرلندا استمرت بين الطرفين الكاثوليكي والبروتستانتي حتى نهاية القرن العشرين تقريباً وبالتحديد حتى عام 1998.
هذا وكان الطرفان المتصارعان قد اجتمعا في مدينة أوغسبرغ الألمانية، واتفقا على وضع حد لهذه الحرب. واتفقا على مناقشة نقاط الخلاف اللاهوتية بين الكاثوليك والبروتستانت، ثم توصلا إلى تسوية معينة. وكان ذلك نحو منتصف القرن السادس عشر. ولكن يبدو أن هذه التسوية لم ترض الطرف الكاثوليكي كثيراً فحاول الانقلاب عليها واسترجاع بعض المناطق التي كانت قد أصبحت بروتستانتية وضمها إلى البابا والفاتيكان من جديد. ومعلوم أن البابا كان يعتبر أتباع المذهب البروتستانتي بمثابة الهراطقة الخارجين على العقيدة القويمة للدين المسيحي. بمعنى آخر فإنه كان يكفرهم ويصب عليهم لعناته اللاهوتية. ولم يكن يعترف بالإصلاح الديني الذي جاء به لوثر ثم «كالفن» من بعده. ومعلوم أيضاً أن لوثر مدشن حركة الإصلاح الديني في ألمانيا وكل أوروبا يريد تدمير البابوية وكل ما تمثله من قمع فكري وسياسي وديني متراكم على مدار التاريخ. وبالتالي فالنفوس كانت مشحونة على بعضها البعض قبل أن تندلع الحرب المذهبية الكبرى بين الطرفين. وقد حصلت آخر محاولة للمصالحة في مدينة براغ عندما وصل إليها وفد كاثوليكي للتفاوض. وبعد مناقشات كثيرة احتدت الأمور وتصاعدت اللهجة بين الطرفين. وعندئذ اشتبكا ببعضهما البعض وقام البروتستانتيون برمي الوفد الكاثوليكي من نافذة القصر الذي جرت فيه المناقشات، فقتلوا على الفور. وهذا أكبر دليل على مدى خطورة الحزازات المذهبية. فالعداء داخل الدين نفسه لا يقل خطورة عن العداء بين دينين مختلفين إن لم تزد. وكانت تلك الحادثة أكبر إهانة لجماعة البابا والطائفة كلها. وشكلت الشرارة الأولى لاندلاع الحرب عام 1618. ولكن لم يكن أحد يتوقع أن تستمر الحرب 30 سنة متواصلة وتؤدي إلى قتل عشرات الملايين في مختلف الأقطار الأوروبية.
في ذلك الوقت كانت أوروبا الوسطى والشرقية ذات أغلبية بروتستانتية نسبية. وأما اسكندنافيا؛ أي السويد والدنمارك والنرويج، فكانت ذات أغلبية بروتستانتية ساحقة إن لم تكن كاملة. وأما ألمانيا فكانت مقسومة إلى قسمين متعادلين تقريباً، ولذلك فإن الحرب فيها كانت هائجة وأدت إلى قتل عدد كبير من السكان، وتدمير المحاصيل الزراعية، وبالتالي حصول الفقر الأسود والمجاعات والأهوال.
أما بلدان أوروبا الجنوبية: أي فرنسا، وإيطاليا، وإسبانيا، والبرتغال، فكانت ذات أغلبية كاثوليكية ساحقة. هذا يعني باختصار شديد أن شمال أوروبا كان بروتستانتيا في معظمه، وجنوبها كاثوليكيا في معظمه. وراح كل طرف يدعم أبناء طائفته في الدول الأخرى. وحصل تهجير للسكان من منطقة إلى أخرى. فالمنطقة ذات الأغلبية الكاثوليكية هجمت على أقليتها البروتستانتية وذبحت من استطاعت ذبحه منها، وأجبرت الآخرين على الفرار والالتجاء إلى البلدان، أو المناطق ذات الأغلبية البروتستانتية، والعكس صحيح أيضاً.
وهكذا حصلت عمليات تطهير طائفي أو مذهبي في مختلف المناطق المختلطة. وعلى إثر التهجير، والتهجير المضاد، حصل انسجام مذهبي في المناطق والبلدان. فجنوب أوروبا مثلا كاد يخلو من البروتستانتيين تماما، وشمالها كاد يخلو من الكاثوليكيين. وفيما بعد رفع ملك فرنسا الشهير لويس الرابع عشر الشعار التالي: «إيمان واحد. ملك واحد. قانون واحد». والمقصود بذلك أن فرنسا لا تتسع إلا لمذهب واحد هو مذهب الأغلبية الكاثوليكية. وبالتالي فما على الآخرين إلا اعتناقه فوراً أو الرحيل عن البلاد، أو القتل والذبح والإبادة. وهذا هو منطق «الدواعش» عندنا حاليا. فنحن نمر بالمرحلة نفسها ولكن بعد 4 قرون من حصولها في أوروبا.
وعلى هذا النحو تم تفريغ المملكة الفرنسية من أقليتها البروتستانتية التي هربت إلى بلدان أخرى كهولندا، أو ألمانيا، أو حتى السويد، وبعضهم عبر البحر المحيط ووصل إلى كندا. ولا تزال العائلات البروتستانتية هناك تحافظ على أسمائها الفرنسية حتى بعد 300 سنة على هجرتها. هذا وقد مرت حرب الثلاثين عاماً الطائفية الشهيرة بـ4 مراحل أساسية: أولاً المرحلة التشيكية (1618 - 1625)، وثانياً المرحلة الدنماركية (1625 - 1629)، وثالثاً المرحلة السويدية (1630 - 1635)، ورابعاً المرحلة الفرنسية (1635 - 1648). ثم بعدئذ هدأت الحرب أو انطفأ أوارها بعد أن ظل مشتعلا 30 سنة، وبعد أن أنهك البشر، ودمر الشجر والحجر... وقد قدر بعض المؤرخين خسائر هذه الحرب الجهنمية بملايين البشر. ويقال إن بعض المناطق في ألمانيا فقدت نصف سكانها. بل هناك منطقة كبيرة فقدت ثلثي سكانها أثناء هذه الحرب الطائفية المرعبة، وكل الأوبئة والمجاعات الناتجة عنها. وعلى أي حال فقد قتل 40 في المائة من سكان الأرياف، و30 في المائة من سكان المدن. وهي أخطر حرب عرفتها ألمانيا وعموم أوروبا قبل الحربين العالميتين الأولى والثانية.
والشيء الغريب العجيب هو أن كلا الطرفين كانا يكفران بعضهما البعض على الرغم من انتمائهما الدين نفسه (أي المسيحية)، وإلى الكتاب نفسه (أي الإنجيل)، وإلى النبي المؤسس نفسه (أي المسيح)، ولكنهما كانا يختلفان على تفسير كل ذلك. وقد أعادت هذه الحرب ألمانيا عشرات السنوات إلى الوراء؛ من حيث التنمية والقدرة الاقتصادية، وأما فرنسا والسويد وإسبانيا فقد خرجت منهكة ماليا من الحرب دون أن تخسر عددا كبيرا من السكان.
ومن نتائج الحرب الأساسية أن الدنمارك فقدت مكانتها كدولة كبرى في أوروبا، وأصبحت دولة صغيرة ولا تزال. وأما السويد فقد استفادت من الحرب؛ لأنها أصبحت مهيمنة على بحر البلطيق وأوروبا الشمالية. وقد ربحت عدة مدن مهمة وعدة مناطق وضمتها إليها. ولكن أكبر رابح من هذه الحرب كان فرنسا دون أدنى شك. فقد ضمت إليها عدة مناطق، من بينها منطقة الألزاس وعاصمتها مدينة ستراسبرغ التي يوجد فيها البرلمان الأوروبي حالياً.
وبعدئذ أصبحت فرنسا في ظل الملك لويس الرابع عشر أكبر قوة عظمى في أوروبا. وأما إسبانيا فقد دخلت في مرحلة انحطاط تدريجي متواصل لم تقم منه إلا مؤخراً. ثم انتهت حرب الثلاثين عاماً بعقد معاهدة «وستفاليا» الشهيرة، وأدت هذه المعاهدة إلى تشكيل الدولة القومية في أوروبا لأول مرة. وهي الدولة التي لا تزال سائدة حتى الآن، بمعنى أن العامل القومي أصبح مهما كالعامل الديني الطائفي بل تفوق عليه لاحقاً في القرن التاسع عشر بعد أن تطورت الشعوب الأوروبية وتنورت. عندئذ أصبح الانتماء إلى القومية الألمانية أو اللغة الألمانية أهم بكثير من الانتماء إلى المذهب الكاثوليكي أو المذهب البروتستانتي. وعندئذ أصبح توحيد ألمانيا ممكناً بعد أن خفّت العصبيات الطائفية أو المذهبية فيها إلى حد كبير.
ولكن ينبغي ألا ننسى أنه قبل ذلك كانت حركة التنوير الفلسفي قد انتصرت تماماً وقضت على الطائفية كلياً تقريباً. ومعلوم أن فلاسفة الأنوار شنوا هجوما صاعقا على رجال الدين المسيحيين وتفسيرهم الطائفي الظلامي للدين. فلولا هذا التفسير «الداعشي» للدين إذا جاز التعبير لما ذبح الناس بعضهم بعضاً على الهوية الطائفية، ولما كانت تلك المذابح الجماعية التي أودت بحياة الملايين طيلة 30 سنة متواصلة بل وطيلة 3 قرون. وبالتالي فالتنوير الأوروبي كان عبارة عن تصفية حسابات تاريخية مع «اللاهوت الطائفي الظلامي للمسيحية». ولولا ذلك لظلت أوروبا تتخبط حتى الآن في انقساماتها الطائفية والمذهبية. ولما نجحت في تشكيل مجتمعات مدنية صلبة ودول وطنية راسخة كالدولة الفرنسية والألمانية والإنجليزية، حيث اختفت الطائفية كلياً بين الكاثوليكيين والبروتستانتيين بعد أن كانوا قد ذبحوا بعضهم بعضا طيلة قرون... وعندئذ انتصرت العصبية الحديثة الواسعة على العصبية القديمة الضيقة، أو الانتماء الوطني على الانتماء الطائفي. ولكن ذلك لم يحصل قبل تفكيك الفكر الطائفي وبلورة تفسير جديد للدين المسيحي. وهذا ما لا يفهمه المثقفون العرب حالياً أو لا يريدون أن يفهموه. لماذا؟ لأنه يتطلب منهم تصفية الحسابات التاريخية مع الذات التراثية العميقة. وهو شيء يخشونه كل الخشية ولا يتجرأون حتى على مجرد التفكير فيه. وما داموا مصرين على موقفهم هذا فلن تُحل الانقسامات الرهيبة التي تعاني منها مجتمعاتنا حالياً ولن يتوقف نزيف الدم. ولن تتشكل دول وطنية حقيقية ومجتمعات مدنية متعايشة ومتحابة بعد أن تجاوزت المرحلة الطائفية وقطعت رأس الأفعى الداعشية. بمعنى آخر فإن حل هذه المشاكل مرهون بانتصار التنوير العربي ذاته: أي بلورة تفسير جديد للتراث يكون مختلفاً كلياً عن التفسير العتيق الموروث منذ مئات السنين. وهو تفسير تكفيري «قروسطي» يغذي العصبيات الطائفية، ويؤبدها تأبيداً، من خلال تعليم ديني متخلف لا يليق حتى بالعصور الوسطى!



«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
TT

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة من خلال حديث مطول أدلى به لمحرر المذكرات ومؤلف الكتاب الصحافي سيد محمود سلام. ورغم أن حديث الذكريات هنا يشمل محطات مختلفة، فإن الكتاب يركز بشكل خاص على مرحلة النشأة والطفولة وما اكتنفها من اكتشاف الفنان في سنوات التكوين الأولى لعالم الأدب وخصوصية مدينته بورسعيد، مسقط رأسه.

ويشير محمود ياسين إلى أن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر، وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها. ويرى أنه كان طفلاً محظوظاً لأنه نشأ في أسرة تعد الثقافة جزءاً مهماً من تكوين أبنائها، وكان ترتيبه السادس بين أشقائه العشرة، وقد تأثر في طفولته بشقيقه الأكبر فاروق: «إذ فتح عيني على شيء اسمه الكتاب بمعناه الواسع. كان يتسلم الكتب ويذهب إلى المدرسة، لكن فاروق كانت له في البيت مكتبة خاصة عبارة عن خزانة كبيرة في الحائط صُممت على الطراز الفرنسي تضع فيها الوالدة الفخار وقطع الخزف الصيني وكؤوس الزجاج وأشياءها الخاصة، فصنع منها مكتبة بعرض الحائط بعد أن أقنعها بذلك حيث كانوا يقطنون في فيلا من دورين تابعة لشركة قناة السويس التي كان يعمل بها والده، وعاشوا فيها ما يزيد على 25 عاماً».

ظل فاروق يشتري الكتب باستمرار مثل سلسلة «اقرأ» التي كانت تصدر ملخصات لعيون الأدب العربي والعالمي والسير الذاتية مثل السيرة الذاتية لطه حسين ودوستويفسكي ومكسيم غوركي وأنطون تشيخوف، فضلاً عن عيون الأدب الفرنسي مثل مؤلفات غي دي موباسان. كانت السلسلة تصدر كتيبات لكل كتّاب ومفكّري العالم، فالتراث الإنساني كله أنتجته سلسلة «اقرأ»، وقد جمعه فاروق في مكتبته وأيضاً سلسلة أخرى بعنوان «كتابي» جمعها أيضاً في المكتبة.

قرأ محمود ياسين في صغره معظم دواوين الشعراء العرب وعبقريات العقاد في مكتبة شقيقه، فضلاً عن كتب سلسلة «الكتاب الذهبي» التي تعرّف فيها على محمد عبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي. كما كان الشقيق الأكبر فاروق شغوفاً باقتناء الكتب والمطبوعات الثقافية مثل مجلة «الهلال» حتى إنه يشتري الكتب بمصروفه الشخصي المحدود. ولم يكن الطفل محمود يشغل نفسه بشراء الكتب، لكن يده بدأت تمتد إلى مكتبة شقيقه، فغضب بشدة من استعارته كتبه؛ وذلك خوفاً من ألا تلقى الاحترام ذاته الذي تلقاه عنده تلك المكتبة التي كوّنها واشتراها من مصروفه. لكن عندما اطمأن لشقيقه، بدأ يشجعه مع بعض النصائح خوفاً على هذه الكتب. وبدأ الشقيق الأصغر في متابعة المسرحيات المترجمة بشكل خاص، لا سيما أعمال وليام شكسبير وهو ما أثار دهشة وإعجاب فاروق حين رأى شقيقه لا يفوّت نصاً للكاتب العالمي، سواء في سلسلة «كتابي» أو نظيرتها «اقرأ».

ويشير محمود ياسين إلى أن أبناء بورسعيد يتشابهون في ملامحهم وتكوينهم؛ لأن هذه المدينة تترك بصماتها على أبنائها، فهي بلد مفتوح على الدنيا ويُطل على أوروبا، فهناك شاطئ بحر وفي الأفق عالم آخر يجب أن تحلم به. إنها مدينة وسط جزر من المياه، فتأثر بهذه الخصوصية الجغرافية وما أكسبته لسكانها من حس حضاري لافت.

يقول محمود ياسين في مذكراته إن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها.

امتزجت شخصية محمود ياسين بالبحر المتوسط الذي تطل عليه مدينته، فهو مثله تراه شديد الهدوء تارة، شديد الصخب تارة أخرى. يقول: «إن أخلاقي كأخلاق البحر وطبيعتي تشبهه، فأنا في شهري سبتمبر وأكتوبر أكون هادئاً هدوءاً غريباً وعندما تنظر إليّ تشاهد ما في أعماقي، وإذا تحدثت إليّ يمكنك أن تكتشف كل شيء. أما الشخص الصاخب العصبي فهو أيضاً أنا ولكن في شهر يناير، وكذلك البحر بـ(نواته) وأمواجه المتلاطمة. لا أحب شهر يناير، قد يكون لأنه بداية عام لا أعلم ما يخبئه، وحين راقبت نفسي وجدت أنني في مواسم أكون هادئاً وأخرى أكون صاخباً وهذا هو حال البحر».

كانت حياة الصبي محمود ياسين قبل التمثيل غير مستقرة، كأنه يبحث عن شيء يسعده. كان يراقب شقيقه فاروق، الممثل العظيم بقصور الثقافة، وتعلم منه كيف يحب الريحاني. يشاهده فيشعر بأنه يمتلك عالم التمثيل بين عينيه، نظراته، تأمله، صوته حتى وهو يغني بصوتٍ أجش تستسيغ غناءه من هذه الحالة التي لاحظها وتأثر بها. أحبَّ التمثيل وشعر بأنه الشيء الذي يبحث عنه، إنه عالمه المفقود، به ستكتمل حياته.

اللافت أن التمثيل منذ البدايات الأولى بالنسبة لمحمود ياسين «حالة»، إنه بمثابة «عفريت» يتجسد في الشخص المحب له، فكان يسعد بالمشاهد التي يمثلها في نادٍ يسمى «نادي المريخ» ببورسعيد وهو طفل. وكوّن هو وزملاؤه فرقة مسرحية، مع عباس أحمد الذي عُرف بأشهر مخرجي الثقافة الجماهيرية، وله باع طويل وأثر في حياته كصديق ورفيق رحلة كفاح، هو والسيد طليب، وكانا أقرب صديقين له، سواء على مستوى هواية التمثيل أو الحياة.

ويروي كيف كان يقدم مسرحية على خشبة مسرح صنعوه بأنفسهم من مناضد وكراسي متراصة، وفي قاعة تسع 100 شخص، فلمح والده، وكانت المرة الأولى التي يمثل فيها ويشاهده أبوه، وإذا به يبتسم له ابتسامة هادئة، اعتبرها أول تصريح رسمي منه بموافقته على دخوله هذا المجال. ويذكر أيضاً أن من بين العمال الذين تأثر بهم محمود عزمي، مهندس الديكور العبقري، الذي لم يحصل على أي شهادات دراسية ولم يلتحق بالتعليم، لكنه كان يهوى الرسم ويصمّم ديكورات أي نصوص سواء عربية أو عالمية ببراعة مدهشة.