«هنا تكونت من كل شيء، من الرق والعتق، من الماء والملح، من الذل والحرية، من الشمس والتراب، من الجوع والظمأ، من الارتواء والشبع، من نظافة بنغازي وقذارتها، من جفائها وحنانها، من دمعها ودلالها».
تختصر هذه العبارة المقتبسة من رواية «زرايب العبيد»، - دار الساقي - للروائية الليبية نجوى بن شتوان المقيمة في إيطاليا، الآلام المختبئة في ثنايا شخوص الرواية المرسومة من خلال التركيز على التناقضات. وفي هذه العبارة أيضاً وصف لشخصية عتيقة تظهر في مستهل وختام العمل الروائي كابنة ناتجة عن علاقة حب بين سيد وجارية. وقد رشحت الرواية ضمن القائمة القصيرة لجائزة «البوكر» للرواية العربية لعام 2017، كما حصدت صاحبتها عدداً من الجوائز سابقاً، منها جائزة الرواية العربية في «الخرطوم عاصمة للثقافة العربية لعام 2005»، إضافة إلى جائزة مهرجان الشارقة للإبداع العربي في دورته السادسة في عام 2002، ولكن هذه المرة عن مسرحيتها «المعطف».
هذه الرواية التي تستشف عبر طيات عنوانها «زرايب العبيد» فحوى النص الذي تحتبس شخصياته في مكان يسوده الهوان والوضاعة، من السهل اختفاؤه «وكأننا ولدنا داخل فقاعة من ماء»، تنجح في تكوين نسيج يحوي مجتمعاً طبقياً يعاني في فلكه الشخوص ويتعرضون لمواقف صعبة تشكل نقلة نوعية للجميع وانتقالاً متوتراً بين الحرية والقيد، الحب والكره، وعكس العلاقات بين الجارية ومالكها والرجل والمرأة. فالعلاقة بين كل من محمد وتعويضة تقترب إلى أقصى حدها من التطرف، ومن ثم تكاد تتلاشى بسبب ظروف قسرية، فيبتدئ محمد بالتعجب من نفسه نتيجة افتتانه ورغبته في التعرف على عالم تعويضة ذات البشرة الداكنة ورائحة جلدها المختلفة التي تترك عبقها في المكان، ليناقض ذلك إعجابه المقتصر دائماً على النساء ذوات البشرة البيضاء فحسب. يتطور ذلك حتى يبلغ عشقاً بمرحلة أشبه بتلك التي يصلها «الهائم بما فيها من غياب عالم علوي لا يتاح إلا للصفوة المختارة: عالم ما فوق الاعتيادي»، يوصف بأنه «تتجلى فيه الحواس وتشف الرؤى».
سلطة المكان الذي اختارته نجوى جزءاً تصورياً للجانب المعتم من بنغازي في حقبة قديمة، داخل منطقة يحفها القنوط والسوداوية ولا يثق سكانها بشيء عدا الأشياء السيئة، لعظم قدرتها على التحقق. وفي هذا التوصيف تشبيه لوضع قاطنيها من العبيد كأنهم يعاملون كالحيوانات، وليعكس ذلك مدى دناءة المكان وقذارته.
وتظل تفاصيل هذا المكان متجلية في الرواية من بدايتها وحتى نهايتها بإمعان في التوصيف في مدى وضاعته واتساخه حتى تفوح من بعض أماكنه الروائح النتنة، فيما تمتلئ أجساد أطفاله بالدود والقمل والقذارة، وحتى الصابون لا يشاهد في هذا المكان، بل يظل يحلم الآخرون به ويسمعون وصفاً له ويتداولونه في الخفاء، ونرى فيه إحدى الفتيات تحاول سرقة مرآة تعكس محياها لتتعرف على ملامح وجهها الذي يفترض عدم التعرف عليه. إنه إلغاء تام لإنسانية سكان الزرايب وأنوثة نسائه.
يقابل ذلك حاجة الأسر البنغازية لعمل هؤلاء بالطهي وغسل الملابس، كأنهم وحدهم القادرون على تنظيف أجسادهم وثيابهم في الوقت الذي يحدجون فيه سكان الزرايب بنظرات محملة بالازدراء لألوانهم وهيئاتهم المختلفة عنهم.
هذا المكان على الرغم من التغيرات التي حلت بالبلاد عبر أحداث الرواية ومحاولة القضاء عليه لإقامة معالم جديدة متطورة، فإنه يظل قابعاً في أعماقهم: «ماتت الزرايب وعاشت فينا بشكل آخر».
الرواية مزدانة بلغة جميلة تعكس ذلك الوجع والقلوب المثخنة بالضيم والهلاك، مع إسقاط لبعض الأغاني والمقولات باللهجة المحكية التي تسبغ على الأحداث سحراً وألماً أعمق يعزز من قسوة التوصيفات الكثيرة التي تنم عن رمزية بليغة وتعلق بالذاكرة بمدى تأثيرها، كعملية الإجهاض الجماعي الذي تتعرض له خادمات واهنات داخل البخار، حيث يخضعن لشم بعض الأعشاب المبخرة حتى ينفجر وابل الدم من أسفل. وإن ظهرت بعض الإسقاطات لعبارات كان من الأفضل الاستعاضة عنها بأسلوب غير مباشر.
وعلى الرغم من أن القراءة الأولى لهذا العمل الروائي تظهر تلك الهوة العميقة بين الطبقات المجتمعية، فإن الأحداث توضح التقاطع الجلي بين الشخصيات، وكلها ضحية قلة الحيلة والهوان: «لا أحد حرّ، صدقني، لا يوجد إنسان حر، فقط يختلف المسجونون وتتباين السجون. والرجل الذي يظهر في أحداث الرواية قوياً يمتلك حرية للقيام بأي شيء بتمثيله القوة والسلطة والتحكم بحيوات الآخرين، لا رجل يبكي في هذه المدينة المليئة بالفقر والمرض والرثاء».
إلا أنه في النهاية مقيد كالآخرين: «من حقي أن أبكي وإن كنت رجلاً في عالم قليل الرأفة، أنّث الدموع واحتكر شعور الفرح للذكورة، من حقي أن أبكي متى كنت حزيناً وفقط». وحتى الأسياد يشعرون بهوان الحب وسط مجتمع يتشكك في إمكانية ذلك دون وجود سحر أو أعمال شيطانية مسببة لمثل هذا الحدث الذي يصعب تفسيره وتختصره عبارة بسيطة معبرة في الرواية: «من علامات المحبة أن تحب ما تحبه دون أن تحاول الإجابة على: لماذا أحببته؟».
رواية «زرايب العبيد»... سطوة القذارة والهوان
دخلت القائمة القصيرة لجائزة «بوكر» العربية
رواية «زرايب العبيد»... سطوة القذارة والهوان
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة