مهما كانت مرجعيتك العرقيّة أو الدينية أو الثقافيّة، فإن قراءة تاريخ الأندلسيين - الذين يُطلِقُ عليهم الإسبان المعاصرون تسمية الموريسكيين أي المور الصغار - وحرب التطهير التي شنها ملوك إسبانيا ضد الإسبان المسلمين من سقوط غرناطة - آخر ممالك المسلمين في الأندلس - عام 1492 إلى الترحيل المأساوي النهائي لنحو نصف المليون منهم عام 1614 تصيب القلب بغصة لا يمكن أن يشفى منها أبداً، وتمثّل حلقة من أفظع حروب التطهير العرقيّة - الدينيّة التي نفذتها دول ضد أقليّات من مواطنيها، ليس آخرها نكبة 1948 في فلسطين المحتلة.
«حروب التطهير» هذه يمكن أن تتكرر في عصرنا الحالي، وها هو المؤرخ البريطاني ماثيو كار يحذر العالم، في خاتمة كتابه «دماء وإيمان» الذي صدرت طبعته الجديدة أخيراً في لندن، من أن موجة الغضب المتصاعد في غير ما بلد عبر الغرب على ضفتي الأطلسي مستهدفةً الأجانب وخصوصاً المسلمين منهم، ستنتهي لأن تأخذنا إلى أجواء «هولوكوست» جديد ضد الأقليّات، في استعادة مؤلمة لما وصفه أحد الكتّاب الأوروبيين في القرن السابع عشر بأنه «الحل الإسباني النهائي لمسألة لا حل لها».
لقد شهدت أحداث تلك الفترة المؤلمة من تاريخ أوروبا اهتماماً بدا استثنائياً بين المؤرخين في العقود الأخيرة، لكنه بقي على الأغلب حبيس أبراج الأكاديميات ولم ينتقل إلى إطار الثقافة الشعبيّة، ولذا فكتاب كار محاولة جريئة لنقل التجربة إلى الجمهور الأوروبي المعاصر دون اتخاذ موقف محدد مع أي من الطرفين، ومن خلال التركيز على تقديم روايات ونصوص متنوعة لأفراد عاشوا آلام تلك المرحلة وكتبوا انطباعاتهم وشهاداتهم، علَّنا في أيام «البريكست»، وترمب، والشوفينية المتصاعدة يوماً فيوماً، نتعلم شيئًا يمنع البشريّة من تكرار إيقاع الألم بالآخر - المختلف - لمجرد الاشتباه في اختلافه.
يبدأ كار تاريخه من لحظة الأفول النهائي لممالك المسلمين في الأندلس. كانت غرناطة وقتها تمثل للنخبة المسيحيّة الحاكمة - وعلى الرغم من توقيعها على اتفاقيات سلام وتعايش مع الممالك الإسبانية في قشتالة والأراغون - نقطة ضعف استراتيجية كان لا بد من استئصالها، إذ كانت لها منافذ على البحر، وجيش لا بأس به وقد ينتهي بها الأمر إلى فتح أبوابها للأتراك العثمانيين الذين بدا نجمهم يلمع في جنوب أوروبا.
شن تحالف الملكيْن إيزابيلا وفيرديناند حرباً صليبية استمرت نحو 10 أعوام ضد غرناطة انتهت بسقوطها النهائي عام 1492. كانت تلك النقطة من مسار التاريخ مُغرقة برمزيتها بما أطلقته من نهايات وبدايات. ففي إحدى ليالي يناير (كانون الثاني) الباردة ذلك العام انتهت التجربة الأندلسيّة الفريدة - على مستوى البشريّة - لإمكان بزوغ مناخ ثقافي وعلمي فائق في إطار مجتمع متنوع سمته التسامح وقبول الآخر، إذ كانت تلك البقعة من الكوكب ولعدة قرون، وعلى رغم بعض الحروب الأهلية وصراعات الحدود والانقلابات الدمويّة، كأنها جنّة تعايش بين مدن - دول وطوائف وإثنيات وأنجزت كتباً وعلوماً وثقافة وفنوناً وموسيقى مذهلة، أقلّه مقارنة بمحيطها الأوروبي المائل إلى التعصب والتوحش والظلاميّة. أما بالنسبة للإسبان الكاثوليك فقد كانت تلك لحظةَ توحيدِ شبه الجزيرة الإيبيريّة واستعادتها من (الغزاة) المسلمين، وانطلاق الإمبراطوريّة الإسبانيّة التي استعمرت ما سُمي بالعالم الجديد.
بين هذه النهايات والبدايات، كانت هناك بداية أخرى أشبه ما تكون بنهاية؛ إنها مأساة مواطني الأندلس - مسلمين ويهوداً وحتى مسيحيين غير كاثوليك - الذين سقطت دولتهم الأخيرة، وتحولوا في يوم وليلة إلى أقليّة ورعايا غير مرغوب بهم من قبل الكاثوليك المنتصرين.
قرر الملوك الإسبان أن الديانة الوحيدة التي سيسمح بها في البلاد هي الكثلكة، وكل من لا يريد التحول عن دينه المختلف فتنبغي عليه مغادرة الأراضي الإسبانيّة من غير رجعة. وهكذا عُمّد ملايين المسلمين الذين رغبوا بالبقاء في بلادهم ككاثوليك، وطُرد اليهود الإسبان وبعض المسلمين بجلافة بعد أن أُجبروا على بيع ممتلكاتهم بقيم رمزيّة ودفع تكاليف ترحيلهم من البلاد.
لكن ذلك لم يحلّ مشكلة النقاء العرقي التي وظفتها الطبقة الحاكمة لضمان استمرار سيطرتها الغاشمة على الإمبراطوريّة وكانت زادتها الكنوز المسروقة من القارة الأميركيّة صلفاً فوق صلف، إذ إن كثيرًا من الإسبان المسلمين قبلوا التعميد تظاهراً، لكنهم في بيوتهم احتفظوا بدينهم، بل وتآمروا لشن ثورات وانتفاضات عدة ضد الحكم الجديد قمعت جميعها بعنف غير مسبوق، وأطلقت تجربة محاكم التفتيش سيئة الذكر التي كانت تصدر أحكاماً شديدة القسوة على كل من يُشك بحسن تحوله إلى الكثلكة بأقل الأشياء حتى لو كان ذلك من خلال الاستحمام - الذي كان عادة مستهجنة عند المنتصرين. بدا بعدها أن الفريقين قد وصلا إلى نقطة اللاعودة، وبدأت دوائر الحكم الإسبانيّة تسعى للبحث عن حلول أكثر جذريّة للتخلص من أقليتها الموريسكية، فكان قرار ترحيل ما يقارب المائة ألف منهم من مدنهم إلى عمق الأراضي الإسبانيّة في الشمال. لم يعد الإسبان هنا يفرقون بين موريسكيين خانعين كما رعاياهم في قشتالة وأراغون وبين الموريسكيين المتمردين شديدي الأنفة من الغرناطيين. الجميع كانوا بالنسبة للكاثوليك المنتصرين بمثابة مجرمين ولصوص وقطاع طرق ينبغي تنظيف البلاد منهم. وهكذا أرسل آلاف الموريسكيين إلى حتفهم عبر البحر باتجاه مستعمرات إسبانيا الجديدة، وابتدعت خلال عدة عقود أساليب فظّة للتخلص منهم ودفعهم للهجرة، إلى أن تبلور القرار النهائي بطردهم من البلاد عام 1609، إذ تم تجميع ما يقارب نصف المليون من السكان الموريسكيين بالعنف وأرسلوا إلى الموانئ لترحيلهم نحو شمال أفريقيا.
يصوّر كار مشاهد تدمي القلوب عن العذابات التي أُخضع لها هؤلاء المهجرون من بلادهم، إذ قضى آلاف منهم حتى قبل أن تحملهم السفن، وتفرقت العائلات، وانتهى كثير من الأطفال المسلمين إلى ترك أهلهم بالرضا أو بالعنف كي تنقذ أرواحهم بالتحول إلى الكاثوليكية، وحتى الذين نجوا من أعواء الترحيل المذلّ ونزلوا على شواطئ أفريقيا تلقفتهم عصابات لصوص شمال أفريقيا التي وجدت فيهم لقمة سائغة. وقد شاهد كار لوحات فنيّة من تلك الفترة - يحتفظ بها الآن في مجموعات خاصة - تصور انتصارات الكاثوليك على الموريسكيين الذين قاوموا محاولات اجتثاثهم من أرضهم في معركة الريف الفالانسي الأخيرة، وإحداها تُصور الجُرف الذي ألقت عشرات النساء المسلمات بأنفسهن وأطفالهن منه إلى الموت لتجنب الترحيل القسري.
اللافت في سيرة الألم هذه أمران أساسيان يثيران الرعب من إمكان استعادة المشهد القاسي راهناً؛ أولهما أن الحكام الكاثوليك لإسبانيا افتعلوا عداوات غير مبررة ضد الموريسكيين لتجييش شعوبهم، على الرغم من أن ذلك كان بالضرورة ضد مصالح البلاد الاقتصادية - حتى لو وضعنا المسألة الأخلاقيّة جانبًا - فالموريسكيون كانوا نتاج مجتمع متحضر أبدع في الحرف والصناعات والزراعة، وهكذا كان فقدانهم نزيفاً اقتصادياً أنهك الإمبراطوريّة الإسبانية، واعتبره المؤرخون أحد عوامل سقوطها لاحقاً. فالتعصب الأعمى لا شك يسمحُ للنخبة المهيمنة بأن تقود الشعوب إلى العمل حتى ضد مصالحها. أما الأمر الآخر فهو وثائق تلك المرحلة - التي اطلع عليها كار - وتظهر أن تياراً عريضاً من كوادر الدولة الإسبانيّة وقتها كانوا مصدومين من فظاظة قرارات السلطة وغير متعاطفين معها بالمطلق لمعرفتهم بحقائق الأمور على الأرض. ومع ذلك فهم كانوا ينتهون دوماً إلى تنفيذ تلك القرارات ضد رعاياهم وجيرانهم وأصدقائهم. أي أن تنفيذ برامج القتل والترحيل والتطهير العرقي التي تستهدف الآخر المستباح يتم من قبل أناس عاديين، غير فاسدين ربما وغير متحاملين يمكنهم - دون التعارض مع أي من مبادئهم الأخلاقيّة - أن يشتركوا وبكل إخلاص في تنفيذ تعليمات السلطة مهما بلغت بشاعتها وانعدام إنسانيتها.
«دماء وإيمان» صرخة في وجه أولئك الذين يريدون أن يحولوا بعنصريتهم المقيتة اليوم مستقبل البشريّة إلى مساحة مظلمة كما كانت إسبانيا قبل 400 عام من اليوم.
أيّ دروس في زمان «بريكست»؟
400 عام على طرد الأندلسيين المسلمين من بلادهم
أيّ دروس في زمان «بريكست»؟
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة