غدت كلمتا «داعش»» و «الإرهاب» من أكثر المفردات - والهواجس تكرارا في اللغات والوعي العالمي، عبر نشاطها في بؤر توحشها أو عملياتها في سائر أنحاء وعواصم العالم، وقد وصفت الأمم المتحدة في قرار مجلس الأمن رقم 2249 لسنة 2015 الإرهاب الراهن بأنه «خطر لم يسبق له مثيل لتهديد الأمن والسلم الدوليين بسبب عقيدته المتطرفة العنيفة، وأعماله الإرهابية واعتداءاته المنهجية السافرة المتواصلة والواسعة النطاق». من هذا الحضور الصاخب والمدوي لـ«الإرهاب» تحدث تغيرات وتحولات في سلم القيم والأولويات السياسية والفكرية والثقافية، لدى الدول والمجتمعات والنخب، تمثل في مجموعها تحديا «للحداثة» ونكوصا لها والوعي السابق على الخطر الإرهابي، فتتراجع مطالب إصلاحية وإنسانية لصالح تقدم مطلب «الأمن»، وتتراجع أولويات الإصلاح السياسي والاجتماعي، الذي يختفي شرطه في الاستقرار والتعايش والسلم الأهلي، بغرق الجماعات والأفراد في مخاوف الإرهاب والطائفية وهواجس الفوبيا والفوبيا المضادة، لتصعد مكانها أولوية هوية الحفاظ على المجتمع والنظام نفسه.
ليست وحدها الهواجس والحذر والخوف العام، الرسمي وغير الرسمي، وإجراءات مكافحة الإرهاب ما ينتجه مباشرة، ولكن من آثاره غير المباشرة التي لا تقل خطرا أيضا أنه ينتج خطابات مضادة تمثل حرجا وصدا للحداثة والقيم الإنسانية والحقوقية والمواطنية، ولطموح العالم نحو المستقبل، والإيمان بخطية التاريخ والتقدم، ليعود القهقري، إلى الماوراء باحثا عن جذوات الصراع والكراهية والتمييز في ماضيه ومستعينا بها، وليس آخر تجلياتها خطابات اليمينية والشعبوية والإثنية والانفصالية المتطرفة الصاعدة شرقا وغربا على السواء.
ربما أكثر هذه الآثار غير المباشرة وضوحا، هو صعود «الإسلاموفوبيا» نتيجة وأثرا طبيعيا لصعود الإرهاب وأخطاره، وتزيد حوادثها بشكل واضح بعد كل حادث إرهابي، وارتفعت معدلاتها وأعداد ضحاياها في العامين الأخيرين عن سابقهما بشكل واضح.
من الآثار السلبية غير المرئية التي ينتجها صعود الإرهاب وخطره، التراجع الليبرالي على مستوى السياسات والإجراءات المكافحة له التي تقيد حياة الأفراد وحرياتهم وعلاقات الشعوب وحرية التنقل والهجرة، ولكن أيضا على مستوى القيم السائدة والمطالب ذات الأولوية في الجدل السياسي والفكري في الدول والمجتمعات، فعربيا وإسلاميا تراجعت بشكل واضح أولوية الحل للصراع العربي - الإسرائيلي، كما تراجعت مع صحوته الأخيرة على المستويين الوطني والإقليمي، كل مطالب الإصلاح السياسي والمؤسسي والحريات بعموم، وكذلك غلبة الاستقطاب العام، سياسيا وفكريا وطائفيا، في المجتمعات التي ينشط فيها أو تلك التي يهددها من قريب أو بعيد.ولسنا نتحدث هنا عن «الحالة واللحظة الداعشية الراهنة» فقط، بل هي حالة مستمرة ومتواترة منذ صحوة آيديولوجيات الهوية الانغلاقية في عشرينات القرن الماضي وقبلها، أفكارا وجماعات، واستمرت متتابعة غلوائها حتى أحدثت إرهاب الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، وغدت تهدد في أيامنا مختلف عواصم العالم وأعرقها حداثة وتهدد قيم حداثتها وطموحات حداثتنا معا، كما سنوضح فيما يلي:
أولا: التطرف وأزمة حداثتنا المستمرة: ليس من المبالغة القول إن الحداثة والتنمية في العالم العربي تجربة ومخاض أمل لم يكتمل، ولم يعط فرصته كاملة؛ فقد أرهقتها وأعاقتها، بمختلف تنوعاتها وأشكالها، الصحوة والسدود الآيديولوجية والأصولية، منذ وقت مبكر، حتى في وجه هذه الحداثة الإصلاحي والتوفيقي الذي يجمع بين الأصالة والمعاصرة، ولا تزال قواميس الانغلاق وعمليات التطرف العنيفي قادرة على إحراج الحداثة وصدها وحرف المسار عن مطلوباتها وغاياتها، والانحراف بسؤال الحاضر والمستقبل نحو الماضي، وسؤال الوطن نحو أسئلة العقيدة والشريعة، ومن سؤال التقدم وتجاوز التخلف إلى سؤال الصراع الخارجي والداخلي على المرجعية وضد التغريب، ومن سؤال الدولة والهويات الوطنية لسؤال الخلافة والحاكمية، والمؤامرة العالمية والعداء المؤبد.
خرجت أفكار الانغلاق ابتداء من خطاب التقليد الذي توجس خيفة من كل شيء، من التعليم المدني ومن حقوق المرأة ومن مراجعة التراث، ومن جهود الترجمة والنقد العلمي والفكري، ورأى في كل ذلك غزوا فكريا وتغريبيا تجب مكافحته، منذ عهد مدرسة الإصلاحية الإسلامية بقيادة جمال الدين الأفغاني (توفي سنة 1887) ومحمد عبده (توفي سنة 1905) وغيرهما، ثم تحول في مواجهة تيار التحديث إصلاحيا ومدنيا ووطنيا إلى جماعات نشطة وشعبية بعد سقوط الخلافة العثمانية سنة 1924، التي كانت باكورتها جماعة الإخوان المسلمين، التي أعلن مؤسسها أن أولويته القضاء على الحزبية والتعددية، وقاد تيارا شعبيا تم توظيفه أحيانا من قبل القصر في مواجهة كل تيارات التنوير والعقلنة والتقدم وتشويهها، ثم خرجت من عباءته تيارات أكثر راديكالية صارت تتهمه نفسه بالخيانة والعمالة، وترى في جماعته خروجا وحصادا مرا لم يخلص لتراث المسلمين والسلف، كما كتب يوما أيمن الظواهري في نقد جماعة الإخوان. ونجح هذا المد الانغلاقي، وبخاصة بعد صدامه الشرس مع الحكم الناصري والأنظمة القومية والبعثية في المنطقة، في التبرير للأخيرة التي أعلنت «تحرير الأرض وفلسطين أولوية لها» أن تقيد وتئد التجربة الديمقراطية قبل قيامها، وأن تمارس توفيقا مسطحا بين الدين والقومية، وبين السلطة السياسية والسلطة الدينية، وهو ما استمر ردحا طويلا حتى استطاعت جماعات التطرف والتشدد أن تمارس عملياتها الكبرى في اغتيال السادات، ثم الجهاد الأفغاني، ثم بروز القاعدة وأخواتها وصولا لـ«داعش»، وتحوله إلى فاعل إقليمي ودولي غير رسمي مؤثر، ولا يمكن تجاوز خطره.
هكذا كان صعود جماعات عودة الخلافة أو الإسلام السياسي في أواخر عشرينات القرن الماضي إعاقة للنهضة، حيث جمدت مسار المأسسة والتحديث، في غيبة حلمها بـ«خلافة العثمانيين» التي سقطت، ووضعت كل محاولات الإصلاح الفكري والسياسي والاجتماعي في خانة الاتهامات بالعمالة والتغريب حينها، وهو ما حرف الدول والمؤسسة عن سباق التاريخ والمستقبل لصراعات التاريخ والماضي والمكوث فيها، فتم إرهاب دعاة الإصلاح وتوقيف جهوده ودعواته في آن واحد، وتوقف بعضهم، وانسحب بعضهم الآخر.
وقد دأبت التيارات والأنظمة الشمولية والانغلاقية، في حقبة صعود الآيديولوجيات القومية، على نفي التعددية لصالح مقولتها وشعارها بأنه «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» في العدو المحتل و«إسرائيل تحديدا» لكن مع صعود الإرهاب وتصدره المواجهة بصفته خطرا أكبر، تراجع مطلب التحرير نفسه، والجهد من أجله، وصار يمثل للكثير من الأنظمة الهاجس نفسه، حيث صار «الاستقرار» ومكافحة الإرهاب والتطرف العنيف الأولوية الأولى لدى السلطة والمجتمع والنخب على اختلافها، وتراجعت معه الأولويات السياسية السابقة خارجيا أو داخليا.\كان تغير سلم الأولويات السياسية واضحا، فلم يعد الإلحاح في منطقتنا خلال السنوات الست الأخيرة، على حل القضية الفلسطينية أو تسوية الصراع العربي الإسرائيلي، أولوية جامعة كما كانت، بل متأخرة مع تحدي الإرهاب الصاعد الذي باتت معه حواضر عربية عريقة أخرى في خطر هوية ووجود بسببه.
كما صارت النخب الديمقراطية والحداثية نفسها في حرج شديد وموضع اتهام أشد حين تدعو إلى ما تؤمن به من استئناف الحداثة والحضارة والتنوير العربي، أمام أنظمة متحفزة لمواجهة خطره المستفحل واستباق خلاياه النائمة، ويمكن أن يهاجمها الإرهاب متى حانت له الفرصة، وصار المطلب الأمني والأماني هو المطلب الأول والملح لها ولمجتمعاتها، دون المطالب الأعلى والضرورية أيضا في حداثة المجتمع والإدارة والمستقبل.
لم يعد للمطلب الديمقراطي أو المواطني أو التنموي شرعيته وأولويته السابقة التي عرفناها أثناء الانتفاضات الشعبية التي عرفت بالربيع العربي سنة 2011 وشعاراتها، بل صار لدى البعض من القطاعات حنين لعودة ما قبلها مما كان أكثر استقرارا مما بعدها، أو بعد سقوط حكم جماعة الإخوان سنة 2013 بحكم صحوة الإرهاب الداعشي غير المسبوقة في التاريخ، كما وكيفا، بما توافر له من ملاذات آمنة وبؤر تمكين، وأحد عشر فرعا منتشرة في المنطقة، وسياقات مناسبة لنموه وجذب المقاتلين الأجانب له من مختلف أنحاء العالم، وتأجيج طائفي يقوده نظام الولي الفقيه وجهاديوه نصرة لنظام بشار الأسد الذي نجح في عسكرة ثورته وتطويفها، وصار البحث عن حل سياسي عالقا ومرهونا دائما عند عتبة كليهما، الاستبداد الطائفي من جهة والتطرف الطائفي المضاد له من جهة أخرى.لم تعد المعركة هي الصراع مع إسرائيل، كما كان في خمسينات القرن الماضي وستيناته، بل انفرد الإرهاب بالمعركة، وبالأثر والتأثير منذ بدايات القرن الحادي والعشرين، وتجذر خطره بعد الانتفاضات العربية سنة 2011، التي وأدها أيضا وأفشل توافقها، لتصير المعركة معه عالميا وإقليميا ووطنيا أولوية لا تسبقه أولوية لدى الدول والمجتمعات على السواء باستثناءات قليلة بالطبع.
ثانيا: التطرف والحداثة الغربية أيضا: منذ انتصار الحداثة الغربية وأنوارها في القرن السادس عشر، لم تتوقع أن تواجه في افتتاح القرن الحادي والعشرين، منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر سنة 2001 حتى عمليات الدهس في الشوارع للمدنيين، كما حدث في نيس الفرنسية العام الماضي، أو في لندن خلال مارس (آذار) الماضي؛ تهديدا لقيمها كذلك التحدي الإرهابي الماثل أمامها الآن.
وبينما لم تنجح بعض انحرافات هذه الحداثة نفسها كـ«النازية» و«القومية المتشددة» في اختراقها وانهزمت سريعا أمامها، تجد هذه الحداثة مشروعا من خارجها ومن خارج ثقافتها وأطرها يعلن التحدي، ويستطيع المباغتة لأمنها وأمانها من جديد، ويشكل خطرا عنيفا على هويتها ومواطنيها، وبخاصة من المهاجرين والجاليات المسلمة.
مثل الإرهاب الجديد، ونشاط الذئاب المنفردة تحديا لحداثة الغرب وانحرافا شعبويا ببعض مؤسساتها، مثلته قوانين أشكروفت بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، كما مثلته تصريحات وحملة الرئيس الأميركي ترمب قبل تنصيبه ضد المسلمين، التي تجاوب معها 40 في المائة من المواطنين الأميركيين بعد حادث أورلاندو، حسب استطلاع رأي لمركز «جالوب» قبل شهور، كما زادت موجات الإسلاموفوبيا والخوف من اللاجئين والتوجه نحو تقييد الحريات والاحترازات الأمنية الشديدة، مما يمثل تحديا قيميا جديدا يسائل الحداثة، وقد يحرفها لتكيفات مع التحدي الجديد غير المسبوق لها، يتقدم فيها مطلب الأمن وضرورته على مطلب الحرية والفردية الذي كان محور ارتكازها.
كما ارتفعت جرائم الكراهية ضد المسلمين في الولايات المتحدة بنسبة 67 في المائة من عام 2014 إلى عام 2015، وكذلك واجه اللاجئون في أوروبا رد فعل مماثلا؛ حيث أشار استطلاع للرأي إلى أن 59 في المائة من الأوروبيين يخشون من وجود اللاجئين في بلدانهم، ونفذ المتطرفون الأوروبيون خلال الأشهر الأربعة الأولى من عام 2016 نحو 45 هجوما على مخيمات اللاجئين في ألمانيا، وأشعل المتظاهرون من اليمين المتطرف النار مراراً في أماكن الصلاة بمخيمات اللاجئين في شمال إيطاليا، وتبدو فرص اليمين الفرنسي جيدة وغيره من أحزاب اليمين في الغرب.