مثقفون سعوديون يتساءلون: هل أصبحت الثقافة مجرد ترف؟

الطفرة الإبداعية في السعودية لا تصنع لوحدها ثقافة

مع صفحة الخليج
مع صفحة الخليج
TT

مثقفون سعوديون يتساءلون: هل أصبحت الثقافة مجرد ترف؟

مع صفحة الخليج
مع صفحة الخليج

هناك حراك ثقافي نشط وحيوي تعيشه السعودية، يتنامى كل عام، ويتمظهر في حجم المنتجات الثقافية المتعددة من مؤلفات وشعر وأدب ومشاركة واسعة عبر وسائل التواصل الاجتماعي. مع ذلك يظل المثقفون يوجهون النقد إلى واقعهم الثقافي. فهم تارة يعدون أن هناك (فجوة) بين الحالة الثقافية التي يعيشونها، وواقعهم «المنغمس إلى حدٍ ما» في الماضوية والقوالب القديمة. ويقول بعضهم بأنه لا يجد انعكاسا للزخم الثقافي على صعيد علاقة الفرد بمحيطه ومجتمعه، حيث يتوسل بالتقاليد القبلية لحسم علاقاته مع الآخرين ورسم تصوراته تجاههم، بينما يرى أن الثقافة هي فعل مجتمعي، وهي حاجة لتطوير السلوك ودفعه نحو مزيد من الحضارية والتنمية والإنتاج.
هنا تحقيق حول هذه المحاور يشترك فيه عدد من الكتاب والمثقفين السعوديين:

* الكناني: ثقافة مجتمعية

* يقول عبد الله الكناني، المسؤول في وزارة الثقافة والإعلام: «إذا كانت الجهات المعنية بإنتاج الثقافة، قادرة على صنع وتحويل المنتج الثقافي إلى مخزون مجتمعي، يُمارس حقيقة على أرض الواقع العملي، فإن ذلك سيجعل من المجتمع شريكا فاعلا ومساهما رئيسا في التنمية الثقافية».
ويشير الكناني، الذي عمل لفترة في رئاسة الأندية الأدبية، إلى أن «صناعة الثقافة مسؤولية تستدعي الانتباه». وهو يرى أن المؤسسات الثقافية سواء كانت تلك التي ترعاها الحكومة أو التي تتبع مبادرات خاصة يتعدى دورها الترويج لوعي ثقافي، ليصل إلى «إنتاج حضاري وقيمي وسلوك تنموي فاعل ومؤثر، يشارك فيه أفراد المجتمع ومؤسساته».
ولذلك، فإن هذه المؤسسات تتحمل مسؤولية «التغيير الذي يحدث في الذهنية المجتمعية، ذلك لأنها في نهاية المطاف، تنتقل من خانة الأخذ إلى خانة العطاء أو الإنتاج»، فالثقافة، كما يضيف، ركيزة أساسيه لبلوغ الوعي المعرفي في مجتمع يريد مواكبة حركة التطور، ومنتج أصيل في الحضارة، والأساس لسلوك حضاري ناهض بوصفها فكرا تنويريا وإنسانيا».

* الفضيل: ثقافة الضمور

* في حين يتساءل الكاتب الدكتور زيد الفضيل، عن أي ثقافة نبحث، وما هو التأثير الواقعي لمنتجاتنا الثقافية على أرض الواقع، وهو يشير إلى أنه رغم أننا كمجتمع، نمارس الفعل الثقافي أسوة بكل شعوب الأرض وبذات الحماس، فإن ثمة فجوة هائلة بين ما نحمل من ثقافة وآداب، وما ينعكس على واقعنا من سلوك.
يقول: «لقد غاب المنتج الثقافي كمعيار نهضوي لصناعة الازدهار، وغاب عن بال المعنيين بصناعة الثقافة عامة، ومخططي التعليم بصورة خاصة، برغم الحاجة الماسة لذلك». إن المعنيين بصناعة الثقافة – برأي الفضيل - لم يستهدفوا تعميق المعرفة في أذهان الجمهور، ناهيك عن عدم اهتمامهم بتعميق السؤال الثقافي في وجدانهم الفكري والإبداعي. هو يرى أن الواقع الثقافي الحالي يعطي تفسيرا إلى حد ما، لحالة الضمور التي تعيشها الثقافة اليوم، مع قلة اهتمام كثير من أفراد المجتمع بمواكبة مسيرتها، وتتبع إنتاجها المتنوّع.
ويخلص الفضيل إلى أن «بلوغ أي نهضة ثقافية يستلزم أن يتوفر في ثنايا مجتمعها حد أدنى من الدافعية الذاتية على الصعيد المؤسسي بشقيه الحكومي والأهلي، جنبا إلى جنب، ويدا بيد، على اعتبار ما يجب أن يكون بينهما من حالة تكامل واسع النطاق».
لكن هذا التكامل المطلوب، حسب رأيه، مفقود في مجتمعنا الثقافي بوجه عام لعدم وجود التشريعات القانونية الواضحة لتأسيس مراكز ثقافية أهلية، سيكون من شأنها المساهمة في تعزيز الحضور الثقافي في ثنايا وجدان مجتمعنا، من خلال تقديم مختلف العروض الفنية كالمسرح والفنون
الفلكلورية المتنوعة، علاوة على الإنتاج الفكري والأدبي».

* الحربي: أين دور المثقف؟

لكن، أي دور يتحمله المثقف، الذي يجيد توجيه اللوم للمؤسسات، وللجمهور أحيانا، من دون أن يمارس النقد الذاتي؟ يقول الشاعر أحمد الحربي بأن هناك غيابا واضحا للمثقف في ممارسة دوره التنويري في مجتمعه، وأن «الطفرة الإبداعية في السعودية، لا تصنع لوحدها ثقافة يستفيد منها المجتمع بمختلف أطيافه وفئاته واهتماماته لكونها محصورة في فئة المبدعين ولم تصبح مكونا من مكونات المجتمع الثقافية».
يشتكي الحربي كذلك مما يسميه بـ«النسقية الثقافية التي خيمت على المجتمع السعودي خاصة والعربي عامة، وهي لم تخرج عن جلباب الماضي».
وهذا الواقع الذي تجاهل صناعة ثقافة مزدهرة ومتفاعلة مع محيطها، كما يضيف، جعل المجتمعات تركن إلى إنجازات وأمجاد الماضي دون تنميتها وتطويرها لتواكب متطلبات مستجدات العصر الحديثة، الأمر الذي انتهى بها لأن تكون معوقا للازدهار لا محفزا له».
ويدعو الحربي إلى ضرورة العمل على الانفتاح على الثقافات المختلفة دون تحقير منجزات الماضي، فـ«اختلاف الثقافات الإنسانية مصدر إثراء ومحفز كبير»، مستعيرا قولا أطلقه الدكتور إبراهيم البليهي، وهو أن «المجتمعات تتناسل ثقافيا مثلما تتناسل بيولوجيا» ويستمر هذا التناسل الثقافي مهيمنا على المجتمعات، فالأفراد في المجتمعات المتقدمة لم يولدوا بقابليات أفضل من قابليات الأفراد في المجتمعات المتخلفة وإنما الخلل في القوالب الثقافية.



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!