لا يزال الروائي السعودي عبد العزيز صالح الصقعبي، مشدوداً إلى عالم المسرح؛ كتابة ولغة وأسلوباً وفنّاً، حتى أعماله الروائية المبكرة كُتبت ضمن هاجسه القصصي والمسرحي، فجاءت الرواية كما في «حالة كذب»، و«رائحة الفحم»، تجمع بين نسقين، لكنها تتوارى خلف النسق الشعري للنص، دون أن يؤثر ذلك على النص ويجعله هلامياً. بدأ الصقعبي كتابة الرواية مبكراً، في وقت لم تأخذ فيه الرواية المحلية موقعها في المشهد الثقافي، ولذلك خسرت تلك الأعمال زخمها الذي تستحق، إضافة إلى شخصية الصقعبي العازفة عن الأضواء. مؤخراً حصل نصّه المسرحي «القرية تخلع عباءتها»، الصادر عن «نادي تبوك الأدبي» و«دار الانتشار العربي»، على «جائزة وزارة الثقافة والإعلام للكتاب» لهذا العام (مع آخرين)؛ وبهذه المناسبة، وبمناسبة معرض الرياض الدولي للكتاب، التقت «الشرق الأوسط» عبد العزيز الصقعبي، وأجرت معه الحوار التالي:
المسرح أولاً
> فوز نصّك المسرحي «القرية تخلع عباءتها»، بـ«جائزة وزارة الثقافة والإعلام للكتاب» هذا العام، يسلط الضوء على تجربتك في الكتابة المسرحية، وهي تجربة ثرية أنتجت عدداً من النصوص التي تحولت إلى أعمال مسرحية، حدثنا عن هذه التجربة؟
- تجربتي في كتابة المسرح لم تبدأ بشكل تقليدي، على الرغم من أني متابع ومحب للمسرح، بل من خلال عمل مختلف؛ لذا حققت الأسبقية في المملكة وربما في دول الخليج من خلال كتابة «مونودراما» مسرحية الشخص الواحد «صفعة في المرآة» التي قام بالدور الوحيد فيها الفنان راشد الشمراني وأخرجها عبد العزيز الرشيد عام 1983. هذه المسرحية نفذت بعد ذلك في الجزائر والمغرب من قبل الفنان الراحل بكر الشدي تمثيلاً، وعبد الرحمن الرقراق إخراجاً، والجميل أن هذه المسرحية قدمت من قبل فنانين جزائريين ومغاربة في السنوات الماضية.
تجربتي المسرحية يطول الحديث عنها؛ إذ كتبت عددا من النصوص ونفذت لي مجموعة مسرحيات، منها مسرحية «واحد صفر» التي قام بالدور الوحيد فيها ناصر القصبي وأخرجها عامر الحمود. لم يتوقف الأمر عند ذلك، بل قمتُ بإعداد وإخراج مسرحية «اللعبة» عن مسرحية سعد الله ونوس «المقهى الزجاجي»، وبالنسبة لـ«القرية تخلع عباءتها»، فتتكون من ثلاث مسرحيات ليست مونودراما، وإحداها من مشاهد عدة.
> بعد مشوار طويل من الإبداع، جاء التكريم أخيراً... هل يردّ لك هذا الفوز الاعتبار بعد تجاهل المؤسسات لك كل هذا الوقت؟
- هذا مؤلم ليس لي فقط، بل لكثير من المبدعين. كثير ممن يشرفون على الشأن الثقافي لا يعرفون أن التكريم والجوائز من المحفزات المهمة للإبداع. المشكلة أن من يرغب في الحصول على جائزة، «كمثال»، يجب أن يكون مسوقاً لإبداعه، ومثلي ممن لا يسوق نفسه، ولا يسعى لحفلات التوقيع، يبقون في الظل. المشكلة أن كثيراً من القراء يبحثون عن الأعمال الفائزة أو كتب النجوم، وبالذات نجوم الإعلام الجديد.
> لديك نصوص شاركت في فعاليات مسرحية؛ سعودياً وخليجياً وعربياً، وبعضها تحول إلى أعمال تلفزيونية... لكن في الفترة الأخيرة لم نشهد لك حضوراً... هل للأمر علاقة بتراجع المسرح السعودي، أم إن الرواية كانت لها جاذبيتها بالنسبة إليك؟
- لا أنكر مطلقاً جاذبية الرواية، ولكن ما زلت متواصلا مع المسرح؛ ففي العام الماضي نُفذ لي في مدينة عنيزة «مركز صالح بن صالح الثقافي» مونودراما «ولادة متعسرة» من تمثيل عادل الضويحي وإخراج علي السعيد. مشكلتي أن أغلب ما أكتبه من أعمال مسرحية فيه كثير من النخبوية، وأغلب المسرحيين يبحثون عما هو جماهيري، إضافة إلى أنني لا أعرض أعمالي على أحد لينفذها، فأغلب أعمالي المسرحية متاح للجميع من خلال كتاب «صفعة في المرآة» ومسرحيات أخرى صادرة عن وزارة الثقافة والإعلام، وهي أشبه بالأعمال الكاملة، إضافة إلى المسرحيات الثلاث في كتاب «القرية تخلع عباءتها».
> بصفتك كاتباً مسرحياً، ومتابعاً هموم المسرح، كيف ترى حال المسرح السعودي حالياً، هل ثمة أمل في إنعاشه من جديد؟
- لدينا عدد كبير من المسرحيين، وأغلبهم مبدعون، بل هنالك عروض مسرحية نالت جوائز على مستوى الوطن العربي، وأقرب مثال مسرحية «تشابك» وما نالته في الشارقة، وقبل ذلك مسرحية «بعيداً عن السيطرة»؛ فالمتابع للمشهد المسرحي يشاهد عدداً كبيراً من كتاب المسرح من جميع مناطق المملكة، إضافة إلى المخرجين والممثلين... قائمة كبيرة وطويلة من المسرحيين، إضافة إلى عدد من الفرق المسرحية، ولكن كل هذا الكم الكبير من دون مسارح لتنفيذ الأعمال، من دون معهد لصقل المواهب، من دون جهاز ينظم ويشرف ويدعم الفعل المسرحي. المسرح؛ أبو الفنون، يحتاج إلى أن تقف معه مؤسسات الدولة المعنية بالشأن الثقافي والفني، من ضمنها وزارة الثقافة والإعلام، وهيئة السياحة، وهيئة الترفيه، لماذا لا تكون هناك هيئة عامة للمسرح؟ صدقوني العرض المسرحي، إضافة إلى ما يقدمه من ترفيه ومتعة، هو أيضاً وسيلة للتوعية، وممثل مهم للوطن في الخارج.
> هل أعطاك المسرح مثلما أعطيته... هل تشعر بأنه خذلك؟
- لأكن صادقاً... لم أخلص للمسرح. أنا أكتب، والكتابة قدري، ولكن غير متفرغ للمسرح. هنالك مهرجانات وعروض كثيرة لا أستطيع حضورها بسبب الظروف الحياتية، والعمل. ليست لدي القدرة على التواصل مع كثير من المسرحيين لتنفيذ أعمال كتبتها. أذكر أنه عندما أعددت وأخرجت مسرحية «اللعبة» التي نفذت في جمعية الطائف للثقافة والفنون، أجمع كل من حضر العرض على ولادة مخرج، وفعلا طلب مني بعد ذلك إخراج بعض المسرحيات؛ اعتذرت، وتوجهت للرواية، وانشغلت بعد ذلك بعالم المكتبات والمعلومات.
> تتجاذب هذا النص «القرية تخلع عباءتها»، مشاعر التردد بين الإقدام والإحجام، لكنه لا يمنح بطله فرصة للتفكير، حيث «فوهة البئر اتسعت كثيراً... لو تحركتُ من هنا سأسقطُ حتماً... أمرٌ مُرعِبٌ... بئرٌ ليس لها قرار... ها هُو الموت أراهُ بعيني»، عمّ يُعبّر هذا التردد في رأيك؟
- هُم ثلاثة؛ كل واحد حدد موقعه، لم يتفقوا، كل واحد أراد أن يكون وحيداً، فكان الموت مصيره، تعددت الأسباب والموت واحد، سقوط في البئر، أو تحت صخرة، أو تبتلعه الرمال، جميعهم يسعى نحو وهم، قد يكون فيه بعض من الحقيقة، ولكن كل واحد منهم لن يصل إلى الحقيقة وحيداً بالتردد أو الجرأة أو الخوف، سيبقى الزمن شاهداً على كل خطوة، والمكان «القرية» لها حكاياتها الخاصة.
> بالمناسبة، لديك تجربة تجمع بين نسقي القصة والمسرحية، كما في رواية «رائحة الفحم»، كأنك مسكون بهاجس الميلودراما حين تكتب؟
- أغلب من تحدث عن رواية «رائحة الفحم» قال إن المسرح مؤثر في النص، وأنا أقول: أنا أعيش عالم السرد. كتبت القصة والرواية والمسرحية والسيناريو، بينها تشابه كثير، لأنها من أسرة واحدة، ولكن تبقى حرفية الكاتب، الذي يشعرك بأن في الرواية طيف مسرح، وأن في المسرحية طيف رواية، دون أن يؤثر ذلك على النص ويجعله هلامياً، أنا لا أحرص على تداخل الأجناس، ولكن، أحرص على النص بأن يكون منتمياً فعلياً بصورة كاملة إلى جنسه.
> حين نعود إلى روايتك ذائعة الصيت «اليوم الأخير لبائع الحمام»، بوصفها نصّاً يرتكز على سيرة المدينة، ويكشف أسرارها ويفك ألغازها، هل يمكن لهذه التجربة أن تتكرر بنحو أوسع... لنص أوسع؟
- صدرت لي منذ ثلاث سنوات رواية «مقامات النساء». نفدت طبعتها الأولى وصدرت بطبعة ثانية في معرض الكتاب العام الماضي، وهي رواية مختلفة، عن دار «جداول»، وهي مختلفة تماماً عن رواياتي السابقة الأربع «رائحة الفحم» و«حالة كذب» و«طائف الأنس»، إضافة إلى «اليوم الأخير لبائع الحمام». الجميل أن هذه الروايات الخمس درسها بشكل موسع الدكتور ساري الزهراني في بحثه الذي حصل بموجبه على شهادة الدكتوراه، وأنا أحرص ألا أكرر التجربة، بل أبحث عما هو متجاوز ومختلف، ولدي أكثر من مشروع روائي.
> ما تأثير النقد على تجربتك الإبداعية، وعلى عموم المشهد الإبداعي في السعودية، هل يستفيد الكاتب الروائي من الأعمال النقدية؟
- للأسف، لا توجد دراسات نقدية تناولت المنجز الروائي. الغريب بالنسبة لي أن هنالك من النقاد والمبدعين العرب من تناول بعض أعمالي القصصية والروائية، ونشر أغلبها في دوريات عربية كمجلة «الرواية» المصرية، إضافة إلى العدد قبل الأخير من مجلة «الفيصل» وغيرهما. أنا لا أحب أن أطرق أبواب النقاد، وعيبي أنني لا أسوّق أو أرسل كتبي إلى الآخرين؛ لذا قد أكون غائباً عن أجندة النقاد.
وبالنسبة للفائدة من الأعمال النقدية، المشهد الثقافي في المملكة يحتاج إلى مجموعة من الدارسين والنقاد لغربلة النتاج الإبداعي، وأتوقع أنه لن يصمد إلا القليل الذي يستحق أن يقرأ.
> رغم تعلقك بفرضية أن النقد سينصفك، فإنه خذلك؛ بل ظل مشغولاً بأعمال أقل من تجربتك... ماذا عن علاقتك بالنقاد؟
- علاقتي مع الجميع جيدة، ولكن أرى أنه من المهم لكل من طرح نفسه بصفته ناقدا، أن يكون متابعاً جيداً، ومتواصلا مع من أخلص للكتابة، الأمر ليس صعباً، فمن المهم أن تكون للناقد القدرة على فرز الجيد من الرديء، وبتصفح سريع يتضح ذلك؛ لأني لدي قناعة بأن العمل الإبداعي له روح خاصة، وللأسف كثير من الروايات المحلية والعربية والعالمية المترجمة بلا روح، وهذا لا يشعر به إلا مَن علاقته بالرواية «كقارئ» جيدة، وإلا كيف يتواصل أحد منا مع كائن ميت؟!
> هناك من يرى أن عزوفك عن الأضواء وهدوءك، أضرّا بتجربتك الروائية؛ إذ جعلاك بعيداً عن الانتشار، كأنك أيضاً رضيت بأن تبقى على هامش المشهد الثقافي؟
- منذ أواخر الثمانينات تفرغت للعمل بمكتبة الملك فهد الوطنية، وانسقت وراء عالم المكتبات والمعلومات، عملاً ودراسة، وهذا للأسف أبعدني عن المشهد الثقافي، وجئتُ متأخراً، لكن بهدوء، وأنا فعلا لا أحب المنابر، وتزعجني الأضواء، أتوارى خلف ما أقدمه من أعمال، وأتشبثُ بعمود أسبوعي في جريدة «الرياض»، ربما لا أحد يصدق أن أغلب أعمالي نفدت من الأسواق مثل «رائحة الفحم» و«اليوم الأخير لبائع الحمام» وقبل ذلك جميع أعمالي القصصية، وبالذات الأولى، مثل «لا ليلك ليلي ولا أنت أنا» و«الحكواتي يفقد صوته»، ولم أبحث عن ناشر أو أسعى لطباعتها مرة ثانية إلا بمبادرة من الناشر، كما في «مقامات النساء».
من أعماله
أصدر الصقعبي كثيرا من النصوص المسرحية، وبعضها تحول إلى أعمال تم عرضها محلياً وعربياً، وله كذلك كثير من المجموعات القصصية. من نتاجاته: «لا ليلك ليلي ولا أنت أنا»، و«صفعة في المرآة»، و«الحكواتي يفقد صوته»، و«يوقد الليل أصواتهم ويملأ أسفارهم بالتعب»، و«إنت النار وأنا الفراشة»، و«أحاديث مسائية»، و«البهو»، و«صفعة في المرآة»، و«واحد صفر»، ومسرحية «اللعبة» عن مسرحية سعد الله ونوس «المقهى الزجاجي»، و«واحد اثنان ثلاثة»، و«البديل»، كما أصدر عدداً من الروايات: «رائحة الفحم»، و«حالة كذب»، و«اليوم الأخير لبائع الحمام»، و«مقامات النساء».