مع دخول عصر العولمة ورفع الحواجز الاقتصادية ما بين البلدان الغنية يشهد العالم تناقضات غير عادية منها زيادة حجم ثروات الأغنياء وفقر الفقراء أيضاً، وهذا ينطبق على ألمانيا الغنية التي تعتمد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية النظام الاقتصادي القائم على حرية السوق والتكافل الاجتماعي.
ويرفض النظام الاقتصادي الألماني الشكل الرأسمالي المُطلَق كما يرفض الاشتراكية الثورية حيث يجمع بين القبول بالملكية الخاصة لوسائل الإنتاج والشركات الخاصة، مع ضوابط حكومية تعمل على تحقيق منافسة عادلة وتقليل من التضخم وتخفيض معدلات البطالة، ووضع معايير جيدة لظروف العمل وتوفير الخدمات الاجتماعية.
واليوم ماذا حل بهذا النظام في ألمانيا، هل هو زال وأصبح نظامها رأسمالياً مطلقاً أعطى الحرية التامة لرأسمال من أجل وضع الضوابط والقوانين التي تناسبه؟
إجابة هذا السؤال الصعب ممكنة عبر متابعة الأرقام والبيانات الاقتصادية.
في ثمانينات القرن الماضي كانت ألمانيا تكاد تعرف الفقر وظاهرة الساكنين في الأنفاق أو البيوت المخصصة للمتشردين، واليوم أصبحت صورهم جزءاً من معالم المدن الكبيرة مثل هامبورغ وفرانكفورت، وبالأخص برلين التي تُعتَبَر عاصمة الثقافة والطبقة المتوسطة العريضة.
ولقد حذَّرَت جمعيات اجتماعية كثيرة من عواقب عدم معالجة تفاقم الفقر والعوز، فنسبته ارتفعت عام 2015 إلى 15.7 في المائة (أي 13.4 مليون شخص، من إجمالي 82 مليون نسمة، عدد سكان ألمانيا) وعلى كل واحد من خمسة اليوم (أي 16.1 مليون) أن يقلق لأن الفقر يهدده لأسباب كثيرة، منها التسريح من العمل. وتعريف الفقر في ألمانيا هو أن يكون دخل الشخص أقل من 11.53 يورو يومياً، مع العلم أنه طرأ في السنوات الثلاثة الماضية ارتفاع على أسعار المواد الغذائية الأساسية والكهرباء والماء والمواصلات وبدل الإيجارات بنسب متفاوتة.
والمصادفة الغريبة أنه وبعد نشر التقرير السنوي عن الفقر في ألمانيا، أعلنت الحكومة الاتحادية عن تسجيل فائض كبير في الميزانية العامة للأعوام الثلاثة الماضية على التوالي، أي عام 2014 و2015 و2016، وتبحث اليوم عن سبل لصرفه.
فحسب بيانات وزارة المال، حقَّق النمو الاقتصادية الألماني وحجم الضرائب التي سددتها الحكومات المحلية والبلديات والشركات والمصانع لهذه الأعوام فائضاً مالياً سجَّل رقماً قياسياً، مما جعل إيرادات الحكومة ترتفع وإنفاقها أيضاً.
كما انعكس خفض أسعار الفائدة المصرفية القياسي إيجاباً، مما أدى إلى تراجع بالمليارات لمصاريف الحكومة الاتحادية والحكومات المحلية، فيما حققت البلديات والضمانات الاجتماعية توازناً ملحوظاً.
ولقد وصل حجم الفائض المالي عام 2014 إلى 8.6 مليار يورو وتجاوز عام 2015 الـ20.9 مليار يورو، لكنه تراجَعَ بشكل طفيف عام 2016 ليبلغ 19.2 مليار يورو، مما يشكل 0.6 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي.
ويتوقع خبراء الاقتصاد تسجيل ألمانيا فائضاً مالياً جديداً، في العام الحالي (2017) أيضاً، مما يجعلها قائدة لبلدان الاتحاد الأوروبي المسجلة لفوائض مالية.
لكن اللافت أن حكومة التآلف، المُشكلة من أحزاب المسيحي الديمقراطي والمسيحي البافاري والحزب الاشتراكي الديمقراطي، كما المعارضة، لا تضع الخطط الصحيحة لصرف هذا المليارات، كل طرف له تصورات مختلفة. ففي الوقت الذي يطالب فيه نواب المعارضة بتخفيض الضرائب عن كاهل المواطن ورفع الميزانية لتحسين أوضاع 6.2 مليون طفل في المدارس ودور الحضانة، خصوصاً فيما يتعلق بالوجبات التي تُقدم لهم، أو وضع برامج لترميم مباني بعض المدارس وتأهيلها وتحسين مستوى التعليم، لا سيما لمتوسطي الحال والفقراء، يُفضل آخرون تخصيص مبالغ كافية من أجل حماية البيئة وبناء مساكن شعبية أو تخفيض نسبة الضرائب على الحكومات المحلية لكي تتمكن من القيام بكل هذه الأمور بدلاً من الحكومة الاتحادية.
وتختلف الآراء في أوساط الحكومة أيضاً، فوزير المال الاتحادي فولفغانغ شويبله من الحزب المسيحي الديمقراطي يريد استخدام 6.2 مليار يورو من فائض الميزانية من أجل التعجيل في تسديد ديون الحكومة الاتحادية، بينما يقول الحزب الاشتراكي الديمقراطي بدلاً من ذلك يجب تخصيص مبالغ كبيرة للاستثمارات، ولا أحد من الأحزاب الحاكمة يتحدث عن تخصيص أموال لرفع المعونات الاجتماعية وبناء المزيد من المساكن الشعبية لذوي الدخل المتدني، فالفقر في تزايد ملحوظ، مما يجعل تحذيرات بعض خبراء الاجتماعي التي أطلقوها قبل خمس سنوات تقترب من أرض الواقع، حيث يتوقعون أن تتجه ألمانيا اقتصادياً واجتماعياً، نحو النموذج الأميركي، أي طبقة فقيرة واسعة ومجتمع نخبوي، وشبه اختفاء للطبقة المتوسطة التي تُعتَبَر عماد التكوين الاجتماعي والاقتصادي.
* مناطق وجود الفقراء
أكثر الفئات تهديداً بالفقر هم المصابون بأمراض مستعصية على العلاج، والمتقاعدون، والأمهات مع أطفال دون عائل، والمدمنون على المخدرات والخمر العاطلون عن العمل، ومن سُرِّحوا لأسباب مختلفة منها نقل المصانع التي كانوا يعملون لديها إلى بلد تتميز باليد العاملة الرخيصة، وتتضمن قائمة هذه البلاد أوروبا الشرقية وآسيا وأفريقيا وأميركا الجنوبية.
والأمر الصعب أنه وفي هذا البلد الذي يشكو من انخفاض معدل المواليد، يبلغ عدد الأطفال دون الـ14 عاماً، الذين يعانون من الفقر، 2.4 مليون طفل (من إجمالي 12.9 مليون طفل في ألمانيا)، والأطفال الأكثر معاناة هم الذين يعيشون في كنف والدَيْن عاطلَيْن عن العمل، أو أحدهما، أو يتلقى أحدهما تعويضات عن فَقْد عمله.
لكن الوضع ليس أفضل بكثير عندما يكون العمل متوفراً للوالدين، إذ يظل الأجر المنخفض وغلاء المعيشة سببين لضيق العيش، لذا تشهد ألمانيا منذ فترة إضرابات عمالية ومطالبات برفع الأجور لمواجهة الغلاء المعيشي الذي تشعر به أيضاً الطبقة المتوسطة.
والولايات الألمانية الأكثر معاناة من الفقر هي برلين، ونسبة الفقر تصل إلى 21.4 في المائة، وبريمن 24.6 في المائة، وماكلنبورغ فوربومرن 23.6 في المائة، وبراندبورغ الشرقية 17.7 في المائة، وساكس انهالت 18 في المائة، بينما ظلت ولاية بافاريا محافِظَة على مستوى معيشة المواطن عند مستوى مرتفع بعض الشيء، وتصل نسبة الفقر فيها إلى 11.3 في المائة فقط، وفي بادن فورتنبيرغ الصناعية تصل إلى 11.4 في المائة.
ويشير تقرير لمنظمة «أوكس فام» الدولية إلى أن الهوة في ألمانيا الصناعية الغنية بين الأغنياء والفقراء تتسع باستمرار بدل من أن تضيق، رغم قوة اقتصادها، والتوقعات للأعوام المقبلة لا تتسم بالتفاؤل، خصوصاً إذا لم يتخذ المسؤولون إجراءات وقرارات على أصعدة مختلفة من أجل تضييق هذه الهوة.
فالأمر لا ينعكس سلباً فقط على تماسك المجتمع بل وعلى قوة ألمانيا الاقتصادية أيضاً، وبالتالي فإن له انعكاساً قوياً على الأحوال المعيشية التي لم يعد بالإمكان إخفاء مدى تضرُّرِها، بالأخص المشاهد في بعض شوارع المدن الكبيرة مثل برلين وفرانكفورت وهامبورغ، ففي فصل الشتاء تتحول كثير من أنفاق المترو إلى أماكن لمبيت مئات المشردين، والمآوي التي توفرها البلديات والجمعيات الخيرية والإنسانية بالكاد تكفي ساكنيها، فعددهم ازداد من 300 ألف عام 2010 إلى 400 ألف عام 2016 من بينهم نحو 30 ألف طفل، ومن المتوقع وصول العدد عام 2018 إلى 540 ألفاً، وفي برلين وحدها هناك أكثر من 10 آلاف من دون سكن ويقضون الليلة في مساكن خاصة وقرابة 6000 شخص ينامون في الشوارع أو في الأنفاق، ويكونون عُرضة للاعتداءات.
* البطالة السبب الرئيسي
وتشير إحصائيات حكومية إلى أنه من كل عشرة مستخدمين وعمال وموظفين غير حكوميين في ألمانيا، هناك واحد يعمل بصورة مؤقتة ومُعرض للتسريح بعد تغيير قوانين العمل وحماية المستخدم، وكل واحد من أربعة أشخاص في سن بين الـ20 والـ25 يتلقى أجراً ضئيلاً يكاد يكفي لتسديد بدل إيجار الشقة والمتطلبات الحياتية الأساسية، ولم تنجح كل محاولات القضاء على البطالة لأسباب كثيرة، منها تراجُع عدد أماكن العمل وإحلال الآلة، أو نقل الإنتاج للخارج، إذ إن جزءاً كبيراً من قطاع صناعة الملابس والأنسجة، الذي كان يعمل به مئات الآلاف من العمال انتقل إلى بلدان مثل تونس والمغرب وإثيوبيا والهند والصين.
ورغم الحديث الرسمي عن أن عدد المتعطلين أقل من 4 ملايين، فإن هذا الرقم يخفي وراءه رقماً آخر، وهو أكثر من مليونَي شخص بين متدرِّب مهني كان يعمل في مهن مؤقتة وعاطل عن العمل يخضعون لدورات تأهيلية، ويحصل هؤلاء على نسبة لا تتعدى الـ70 في المائة من آخر أجر لهم.
والفئة الأكثر تضرُّراً من البطالة هي النساء اللواتي يعشن لوحدهن أو مع أطفالهن، فهن غير قادرات على التخطيط لحياتهن بسبب العوز والتقشف. وفي المحصلة، فإن هذا يتطابق مع ما وَرَد في دراسة أجرتها مؤسسة «إيروسات» التي تتحدث عن وجود ما يقارب 13.5 مليون مواطن في ألمانيا يعيشون تحت حد الفقر.
هناك فئة أخرى مُعرضة للفقر والعوز أيضاً، هي فئة المتقاعدين الذين كانوا يتقاضون مداخيل متدنية أو لم يعملوا السنوات القانونية كاملة، 40 عاماً، فبعضهم لا يتجاوز معاشَ تقاعُدِه الشهري الـ200 يورو، فيحصل على مساعدات اجتماعية تصل للفرد الواحد إلى 600 يورو شهرياً. كما تختلف بشكل ملموس معاشات المتقاعدين الذين عملوا الفترة المطلوبة في الأقاليم الشرقية قبل وبعد الوحدة الألمانية عن المتقاعدين في الأقاليم الغربية وأقرَّت الحكومة أخيراً قانوناً للمساواة، لكنه يدخل حيز التنفيذ عام 2025.
ولقد أدى التفاوت في المداخيل إلى ضعف القوة الشرائية للعاطلين والمتقاعدين، مما آثر بالتالي على الناتج الاقتصادي العام، وحسب تقرير للمعهد الألماني للبحوث الاقتصادية، أنه لولا هذا التفاوت المتنامي لكان الناتج القومي الألماني زاد في الأعوام الخمسة الماضية 40 مليار يورو (37.4 مليار دولار).
* الأغنياء تزداد ثرواتهم
وفقاً لبيانات مكتب الإحصائيات الاتحادي، كان أغنى عشرة في المائة من العوائل الألمانية يملكون عام 2013، 51.9 في المائة من صافي الأصول، ويتربع أغنياء ألمانيا على قائمة أغنياء العالم التي تنشرها مجلة «فوربس» الأميركية، فعدد أصحاب المليارات في العالم عام 2016 وصل إلى 1810 أشخاص، منهم 120 ألمانيًا، ويفضل معظمهم عدم الظهور في وسائل الإعلام، كما الحال مع أغنياء الولايات المتحدة بل يفضلون البقاء في الظل، لذا لا يعرف بهم كثيرون.
وفي المرتبة الأولى، يتربع كل من بياتي هايستر مع ابنها كارل البرتش، وتُقدَّر ثروتهما بـ25.9 مليار دولار، ويملكان محلات «الدي» للمواد الغذائية منخفضة الأسعار. وينافسه في المركز الثاني، ديتر شفارت، مالك محلات «ليدل» للمواد الغذائية، وتبلغ ثروته 15.5 مليار دولار، ويُعدّ صاحب مصانع البراغي والمسامير رانهولد فورت من أصحاب المليارات «متوسطي الحال»، حيث تُقدر ثروته بأكثر من 8 مليارات دولار، ويملك اليوم 400 مصنع مختلف الحجم في كل ألمانيا، ويشغل لديه أكثر من 16 ألف عامل وعاملة.
ومعظم هؤلاء الأغنياء يستوردون أو يصنعون بضائعهم في بلدان نامية، بالأخص آسيا، إلا أن العاملين لديهم لا يتمتعون بضمانات عمل جيدة، مثلاً عدم التسريح من دون أسباب جوهرية.
ولأن هذه المصانع التي يملكها أشخاص تشغل نسبة 60 في المائة من العاملين والمستخدمين في ألمانيا اتهمت نقابات عمالية الحكومة بالخضوع لتأثيرهم عند اتخاذ قرارات تتعلق بسوق العمل، وفي هذا الصدد أشارت دراسة وضعها الباحث الاقتصادي في سوق العمل الألماني ارمين شيفر إلى أن المواطنين ذوي المدخول المنخفض يتنازلون عن المشاركة حتى في الانتخابات العامة، فخبراتهم أكدت لهم أن القرارات التي يتخذها السياسيون والحكومة لا تراعي شؤونهم.
الفقر والغنى ينموان في ألمانيا
التفاوت في الدخول كبد الناتج القومي الألماني 37.4 مليار دولار في الأعوام الخمسة الماضية
الفقر والغنى ينموان في ألمانيا
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة