الفقر والغنى ينموان في ألمانيا

التفاوت في الدخول كبد الناتج القومي الألماني 37.4 مليار دولار في الأعوام الخمسة الماضية

يتربع أغنياء ألمانيا على قائمة أغنياء العالم التي تنشرها مجلة «فوربس» الأميركية (أ.ب)
يتربع أغنياء ألمانيا على قائمة أغنياء العالم التي تنشرها مجلة «فوربس» الأميركية (أ.ب)
TT

الفقر والغنى ينموان في ألمانيا

يتربع أغنياء ألمانيا على قائمة أغنياء العالم التي تنشرها مجلة «فوربس» الأميركية (أ.ب)
يتربع أغنياء ألمانيا على قائمة أغنياء العالم التي تنشرها مجلة «فوربس» الأميركية (أ.ب)

مع دخول عصر العولمة ورفع الحواجز الاقتصادية ما بين البلدان الغنية يشهد العالم تناقضات غير عادية منها زيادة حجم ثروات الأغنياء وفقر الفقراء أيضاً، وهذا ينطبق على ألمانيا الغنية التي تعتمد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية النظام الاقتصادي القائم على حرية السوق والتكافل الاجتماعي.
ويرفض النظام الاقتصادي الألماني الشكل الرأسمالي المُطلَق كما يرفض الاشتراكية الثورية حيث يجمع بين القبول بالملكية الخاصة لوسائل الإنتاج والشركات الخاصة، مع ضوابط حكومية تعمل على تحقيق منافسة عادلة وتقليل من التضخم وتخفيض معدلات البطالة، ووضع معايير جيدة لظروف العمل وتوفير الخدمات الاجتماعية.
واليوم ماذا حل بهذا النظام في ألمانيا، هل هو زال وأصبح نظامها رأسمالياً مطلقاً أعطى الحرية التامة لرأسمال من أجل وضع الضوابط والقوانين التي تناسبه؟
إجابة هذا السؤال الصعب ممكنة عبر متابعة الأرقام والبيانات الاقتصادية.
في ثمانينات القرن الماضي كانت ألمانيا تكاد تعرف الفقر وظاهرة الساكنين في الأنفاق أو البيوت المخصصة للمتشردين، واليوم أصبحت صورهم جزءاً من معالم المدن الكبيرة مثل هامبورغ وفرانكفورت، وبالأخص برلين التي تُعتَبَر عاصمة الثقافة والطبقة المتوسطة العريضة.
ولقد حذَّرَت جمعيات اجتماعية كثيرة من عواقب عدم معالجة تفاقم الفقر والعوز، فنسبته ارتفعت عام 2015 إلى 15.7 في المائة (أي 13.4 مليون شخص، من إجمالي 82 مليون نسمة، عدد سكان ألمانيا) وعلى كل واحد من خمسة اليوم (أي 16.1 مليون) أن يقلق لأن الفقر يهدده لأسباب كثيرة، منها التسريح من العمل. وتعريف الفقر في ألمانيا هو أن يكون دخل الشخص أقل من 11.53 يورو يومياً، مع العلم أنه طرأ في السنوات الثلاثة الماضية ارتفاع على أسعار المواد الغذائية الأساسية والكهرباء والماء والمواصلات وبدل الإيجارات بنسب متفاوتة.
والمصادفة الغريبة أنه وبعد نشر التقرير السنوي عن الفقر في ألمانيا، أعلنت الحكومة الاتحادية عن تسجيل فائض كبير في الميزانية العامة للأعوام الثلاثة الماضية على التوالي، أي عام 2014 و2015 و2016، وتبحث اليوم عن سبل لصرفه.
فحسب بيانات وزارة المال، حقَّق النمو الاقتصادية الألماني وحجم الضرائب التي سددتها الحكومات المحلية والبلديات والشركات والمصانع لهذه الأعوام فائضاً مالياً سجَّل رقماً قياسياً، مما جعل إيرادات الحكومة ترتفع وإنفاقها أيضاً.
كما انعكس خفض أسعار الفائدة المصرفية القياسي إيجاباً، مما أدى إلى تراجع بالمليارات لمصاريف الحكومة الاتحادية والحكومات المحلية، فيما حققت البلديات والضمانات الاجتماعية توازناً ملحوظاً.
ولقد وصل حجم الفائض المالي عام 2014 إلى 8.6 مليار يورو وتجاوز عام 2015 الـ20.9 مليار يورو، لكنه تراجَعَ بشكل طفيف عام 2016 ليبلغ 19.2 مليار يورو، مما يشكل 0.6 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي.
ويتوقع خبراء الاقتصاد تسجيل ألمانيا فائضاً مالياً جديداً، في العام الحالي (2017) أيضاً، مما يجعلها قائدة لبلدان الاتحاد الأوروبي المسجلة لفوائض مالية.
لكن اللافت أن حكومة التآلف، المُشكلة من أحزاب المسيحي الديمقراطي والمسيحي البافاري والحزب الاشتراكي الديمقراطي، كما المعارضة، لا تضع الخطط الصحيحة لصرف هذا المليارات، كل طرف له تصورات مختلفة. ففي الوقت الذي يطالب فيه نواب المعارضة بتخفيض الضرائب عن كاهل المواطن ورفع الميزانية لتحسين أوضاع 6.2 مليون طفل في المدارس ودور الحضانة، خصوصاً فيما يتعلق بالوجبات التي تُقدم لهم، أو وضع برامج لترميم مباني بعض المدارس وتأهيلها وتحسين مستوى التعليم، لا سيما لمتوسطي الحال والفقراء، يُفضل آخرون تخصيص مبالغ كافية من أجل حماية البيئة وبناء مساكن شعبية أو تخفيض نسبة الضرائب على الحكومات المحلية لكي تتمكن من القيام بكل هذه الأمور بدلاً من الحكومة الاتحادية.
وتختلف الآراء في أوساط الحكومة أيضاً، فوزير المال الاتحادي فولفغانغ شويبله من الحزب المسيحي الديمقراطي يريد استخدام 6.2 مليار يورو من فائض الميزانية من أجل التعجيل في تسديد ديون الحكومة الاتحادية، بينما يقول الحزب الاشتراكي الديمقراطي بدلاً من ذلك يجب تخصيص مبالغ كبيرة للاستثمارات، ولا أحد من الأحزاب الحاكمة يتحدث عن تخصيص أموال لرفع المعونات الاجتماعية وبناء المزيد من المساكن الشعبية لذوي الدخل المتدني، فالفقر في تزايد ملحوظ، مما يجعل تحذيرات بعض خبراء الاجتماعي التي أطلقوها قبل خمس سنوات تقترب من أرض الواقع، حيث يتوقعون أن تتجه ألمانيا اقتصادياً واجتماعياً، نحو النموذج الأميركي، أي طبقة فقيرة واسعة ومجتمع نخبوي، وشبه اختفاء للطبقة المتوسطة التي تُعتَبَر عماد التكوين الاجتماعي والاقتصادي.
* مناطق وجود الفقراء
أكثر الفئات تهديداً بالفقر هم المصابون بأمراض مستعصية على العلاج، والمتقاعدون، والأمهات مع أطفال دون عائل، والمدمنون على المخدرات والخمر العاطلون عن العمل، ومن سُرِّحوا لأسباب مختلفة منها نقل المصانع التي كانوا يعملون لديها إلى بلد تتميز باليد العاملة الرخيصة، وتتضمن قائمة هذه البلاد أوروبا الشرقية وآسيا وأفريقيا وأميركا الجنوبية.
والأمر الصعب أنه وفي هذا البلد الذي يشكو من انخفاض معدل المواليد، يبلغ عدد الأطفال دون الـ14 عاماً، الذين يعانون من الفقر، 2.4 مليون طفل (من إجمالي 12.9 مليون طفل في ألمانيا)، والأطفال الأكثر معاناة هم الذين يعيشون في كنف والدَيْن عاطلَيْن عن العمل، أو أحدهما، أو يتلقى أحدهما تعويضات عن فَقْد عمله.
لكن الوضع ليس أفضل بكثير عندما يكون العمل متوفراً للوالدين، إذ يظل الأجر المنخفض وغلاء المعيشة سببين لضيق العيش، لذا تشهد ألمانيا منذ فترة إضرابات عمالية ومطالبات برفع الأجور لمواجهة الغلاء المعيشي الذي تشعر به أيضاً الطبقة المتوسطة.
والولايات الألمانية الأكثر معاناة من الفقر هي برلين، ونسبة الفقر تصل إلى 21.4 في المائة، وبريمن 24.6 في المائة، وماكلنبورغ فوربومرن 23.6 في المائة، وبراندبورغ الشرقية 17.7 في المائة، وساكس انهالت 18 في المائة، بينما ظلت ولاية بافاريا محافِظَة على مستوى معيشة المواطن عند مستوى مرتفع بعض الشيء، وتصل نسبة الفقر فيها إلى 11.3 في المائة فقط، وفي بادن فورتنبيرغ الصناعية تصل إلى 11.4 في المائة.
ويشير تقرير لمنظمة «أوكس فام» الدولية إلى أن الهوة في ألمانيا الصناعية الغنية بين الأغنياء والفقراء تتسع باستمرار بدل من أن تضيق، رغم قوة اقتصادها، والتوقعات للأعوام المقبلة لا تتسم بالتفاؤل، خصوصاً إذا لم يتخذ المسؤولون إجراءات وقرارات على أصعدة مختلفة من أجل تضييق هذه الهوة.
فالأمر لا ينعكس سلباً فقط على تماسك المجتمع بل وعلى قوة ألمانيا الاقتصادية أيضاً، وبالتالي فإن له انعكاساً قوياً على الأحوال المعيشية التي لم يعد بالإمكان إخفاء مدى تضرُّرِها، بالأخص المشاهد في بعض شوارع المدن الكبيرة مثل برلين وفرانكفورت وهامبورغ، ففي فصل الشتاء تتحول كثير من أنفاق المترو إلى أماكن لمبيت مئات المشردين، والمآوي التي توفرها البلديات والجمعيات الخيرية والإنسانية بالكاد تكفي ساكنيها، فعددهم ازداد من 300 ألف عام 2010 إلى 400 ألف عام 2016 من بينهم نحو 30 ألف طفل، ومن المتوقع وصول العدد عام 2018 إلى 540 ألفاً، وفي برلين وحدها هناك أكثر من 10 آلاف من دون سكن ويقضون الليلة في مساكن خاصة وقرابة 6000 شخص ينامون في الشوارع أو في الأنفاق، ويكونون عُرضة للاعتداءات.
* البطالة السبب الرئيسي
وتشير إحصائيات حكومية إلى أنه من كل عشرة مستخدمين وعمال وموظفين غير حكوميين في ألمانيا، هناك واحد يعمل بصورة مؤقتة ومُعرض للتسريح بعد تغيير قوانين العمل وحماية المستخدم، وكل واحد من أربعة أشخاص في سن بين الـ20 والـ25 يتلقى أجراً ضئيلاً يكاد يكفي لتسديد بدل إيجار الشقة والمتطلبات الحياتية الأساسية، ولم تنجح كل محاولات القضاء على البطالة لأسباب كثيرة، منها تراجُع عدد أماكن العمل وإحلال الآلة، أو نقل الإنتاج للخارج، إذ إن جزءاً كبيراً من قطاع صناعة الملابس والأنسجة، الذي كان يعمل به مئات الآلاف من العمال انتقل إلى بلدان مثل تونس والمغرب وإثيوبيا والهند والصين.
ورغم الحديث الرسمي عن أن عدد المتعطلين أقل من 4 ملايين، فإن هذا الرقم يخفي وراءه رقماً آخر، وهو أكثر من مليونَي شخص بين متدرِّب مهني كان يعمل في مهن مؤقتة وعاطل عن العمل يخضعون لدورات تأهيلية، ويحصل هؤلاء على نسبة لا تتعدى الـ70 في المائة من آخر أجر لهم.
والفئة الأكثر تضرُّراً من البطالة هي النساء اللواتي يعشن لوحدهن أو مع أطفالهن، فهن غير قادرات على التخطيط لحياتهن بسبب العوز والتقشف. وفي المحصلة، فإن هذا يتطابق مع ما وَرَد في دراسة أجرتها مؤسسة «إيروسات» التي تتحدث عن وجود ما يقارب 13.5 مليون مواطن في ألمانيا يعيشون تحت حد الفقر.
هناك فئة أخرى مُعرضة للفقر والعوز أيضاً، هي فئة المتقاعدين الذين كانوا يتقاضون مداخيل متدنية أو لم يعملوا السنوات القانونية كاملة، 40 عاماً، فبعضهم لا يتجاوز معاشَ تقاعُدِه الشهري الـ200 يورو، فيحصل على مساعدات اجتماعية تصل للفرد الواحد إلى 600 يورو شهرياً. كما تختلف بشكل ملموس معاشات المتقاعدين الذين عملوا الفترة المطلوبة في الأقاليم الشرقية قبل وبعد الوحدة الألمانية عن المتقاعدين في الأقاليم الغربية وأقرَّت الحكومة أخيراً قانوناً للمساواة، لكنه يدخل حيز التنفيذ عام 2025.
ولقد أدى التفاوت في المداخيل إلى ضعف القوة الشرائية للعاطلين والمتقاعدين، مما آثر بالتالي على الناتج الاقتصادي العام، وحسب تقرير للمعهد الألماني للبحوث الاقتصادية، أنه لولا هذا التفاوت المتنامي لكان الناتج القومي الألماني زاد في الأعوام الخمسة الماضية 40 مليار يورو (37.4 مليار دولار).
* الأغنياء تزداد ثرواتهم
وفقاً لبيانات مكتب الإحصائيات الاتحادي، كان أغنى عشرة في المائة من العوائل الألمانية يملكون عام 2013، 51.9 في المائة من صافي الأصول، ويتربع أغنياء ألمانيا على قائمة أغنياء العالم التي تنشرها مجلة «فوربس» الأميركية، فعدد أصحاب المليارات في العالم عام 2016 وصل إلى 1810 أشخاص، منهم 120 ألمانيًا، ويفضل معظمهم عدم الظهور في وسائل الإعلام، كما الحال مع أغنياء الولايات المتحدة بل يفضلون البقاء في الظل، لذا لا يعرف بهم كثيرون.
وفي المرتبة الأولى، يتربع كل من بياتي هايستر مع ابنها كارل البرتش، وتُقدَّر ثروتهما بـ25.9 مليار دولار، ويملكان محلات «الدي» للمواد الغذائية منخفضة الأسعار. وينافسه في المركز الثاني، ديتر شفارت، مالك محلات «ليدل» للمواد الغذائية، وتبلغ ثروته 15.5 مليار دولار، ويُعدّ صاحب مصانع البراغي والمسامير رانهولد فورت من أصحاب المليارات «متوسطي الحال»، حيث تُقدر ثروته بأكثر من 8 مليارات دولار، ويملك اليوم 400 مصنع مختلف الحجم في كل ألمانيا، ويشغل لديه أكثر من 16 ألف عامل وعاملة.
ومعظم هؤلاء الأغنياء يستوردون أو يصنعون بضائعهم في بلدان نامية، بالأخص آسيا، إلا أن العاملين لديهم لا يتمتعون بضمانات عمل جيدة، مثلاً عدم التسريح من دون أسباب جوهرية.
ولأن هذه المصانع التي يملكها أشخاص تشغل نسبة 60 في المائة من العاملين والمستخدمين في ألمانيا اتهمت نقابات عمالية الحكومة بالخضوع لتأثيرهم عند اتخاذ قرارات تتعلق بسوق العمل، وفي هذا الصدد أشارت دراسة وضعها الباحث الاقتصادي في سوق العمل الألماني ارمين شيفر إلى أن المواطنين ذوي المدخول المنخفض يتنازلون عن المشاركة حتى في الانتخابات العامة، فخبراتهم أكدت لهم أن القرارات التي يتخذها السياسيون والحكومة لا تراعي شؤونهم.



هل تصبح فرنسا «اليونان الجديدة» في منطقة اليورو؟

أشخاص يسيرون بالقرب من برج إيفل في باريس (رويترز)
أشخاص يسيرون بالقرب من برج إيفل في باريس (رويترز)
TT

هل تصبح فرنسا «اليونان الجديدة» في منطقة اليورو؟

أشخاص يسيرون بالقرب من برج إيفل في باريس (رويترز)
أشخاص يسيرون بالقرب من برج إيفل في باريس (رويترز)

تواجه فرنسا في الوقت الراهن تحديات اقتصادية وسياسية معقدة، تتمثل في ارتفاع معدلات الدين العام وتزايد عدم الاستقرار السياسي، مما يهدد استقرارها الداخلي ويثير القلق بشأن انعكاسات هذه الأوضاع على منطقة اليورو بشكل عام. تأتي هذه الأزمات في وقت بالغ الأهمية، حيث يمر الاتحاد الأوروبي بفترة تحول حاسمة بعد تبعات الأزمة المالية العالمية، مما يطرح تساؤلات حقيقية حول قدرة الدول الأعضاء على مواجهة الأزمات الاقتصادية المقبلة. في خضم هذه التطورات، تظل فرنسا محط الأنظار، إذ يتعرض نظامها السياسي للشلل بينما يتصاعد العجز المالي. فهل ستتمكن باريس من تجنب مصير الدول التي شهدت أزمات مالية مدمرة؟ وما الدروس التي يمكن لفرنسا الاستفادة منها لضمان استدامة الاستقرار الاقتصادي في المستقبل؟

تتجاوز ديون فرنسا اليوم 110 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وبلغت تكلفة اقتراضها مؤخراً مستويات تفوق تلك التي سجلتها اليونان. ويوم الجمعة، توقعت «موديز» أن تكون المالية العامة لفرنسا أضعف بشكل ملموس خلال السنوات الثلاث المقبلة، مقارنة بالسيناريو الأساسي الذي وضعته في أكتوبر (تشرين الأول) 2024. هذه المعطيات أثارت مخاوف متزايدة من أن تكون هذه الأوضاع الشرارة التي قد تؤدي إلى أزمة جديدة في منطقة اليورو. ومع ذلك، عند مقارنة حالة الاتحاد الأوروبي في ذروة الأزمة المالية العالمية، حين كان يواجه خطر التفكك الكامل، مع الوضع الراهن، تتضح الفروق الجوهرية، حيث يظهر الوضع الحالي قدرة الاتحاد على الصمود بشكل أكبر بكثير، مما يعكس قوة أكثر استقراراً وصلابة في مواجهة التحديات الاقتصادية، وفق «رويترز».

وبعد انهيار حكومتها الهشة في أوائل ديسمبر (كانون الأول)، توجد فرنسا حالياً في دائرة الضوء. فقد أدت الانتخابات البرلمانية المبكرة التي أجريت في يوليو (تموز) إلى انقسام الجمعية الوطنية، مما أدى إلى تعميق الأزمة السياسية في البلاد. وفي مسعى لتشكيل حكومة قادرة على استعادة الاستقرار، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون السياسي المخضرم ميشيل بارنييه رئيساً للوزراء بعد الانتخابات، على أمل بناء إدارة مستدامة. لكن التوترات بين الحكومة والبرلمان اندلعت عندما دعا بارنييه إلى خفض الموازنة للحد من العجز المتوقع، والذي قد يصل إلى 6.1 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي هذا العام. وقد أدى هذا إلى تجمع أعضاء البرلمان من مختلف الأطياف السياسية لرفض الموازنة، وكان التصويت بحجب الثقة الذي أدى إلى إقالة بارنييه هو الأول من نوعه منذ عام 1962.

وأثناء تطور هذه الأحداث، ارتفعت عوائد السندات الفرنسية لأجل عشر سنوات بشكل مؤقت إلى مستويات أعلى من نظيرتها اليونانية، مما أثار المخاوف من أن فرنسا قد تصبح «اليونان الجديدة». ومع ذلك، إذا تم النظر إلى ما حدث في اليونان في عام 2012، عندما وصلت عوائد سنداتها لأجل عشر سنوات إلى أكثر من 35 في المائة، يلاحظ أن الوضع اليوم مختلف بشكل جذري. ففي الوقت الراهن، تقل عوائد السندات اليونانية عن 3 في المائة، مما يعني أن العوائد الفرنسية قد ارتفعت بأقل من 60 نقطة أساس خلال العام الماضي لتصل إلى مستويات مماثلة.

ومن خلال تحليل التغييرات في عوائد السندات في منطقة اليورو خلال السنوات الأخيرة، يتضح أن اليونان قد نجحت في تحسين وضعها المالي بشكل ملحوظ، في حين أن فرنسا شهدت تدهوراً طفيفاً نسبياً.

قصة التحول: اليونان

بعد أن اجتاحت الأزمة المالية العالمية أوروبا في أواخر العقد الأول من الألفية، تعرضت اليونان لمحنة مالية شديدة، حيث تكشفت حقيقة الوضع المالي للبلاد، وارتفعت تكاليف ديونها بشكل كبير. وفي إطار استجابة لهذه الأزمة، حصلت اليونان على حزم إنقاذ من الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي مقابل تنفيذ حزمة من الإجراءات التقشفية القاسية. ونتيجة لذلك، دخلت اليونان في ركود اقتصادي طويل دام لعقد من الزمن، بينما تعرضت لعدة فترات من عدم الاستقرار السياسي.

لكن الحكومة الحالية التي تنتمي إلى التيار الوسطي - اليميني نجحت في استعادة بعض الاستقرار الاقتصادي، حيث تمكنت من تحقيق فائض أولي في الموازنة، وهو ما مكنها من تقليص عبء الديون الضخم. كما شهد الاقتصاد اليوناني نمواً بنسبة 2 في المائة العام الماضي، وهو ما يعد تحسناً ملموساً.

ورغم أن فرنسا قد تحتاج إلى جرعة من العلاج المالي ذاته، فإنها تبدأ من نقطة انطلاق أقوى بكثير من اليونان. فاقتصاد فرنسا أكثر تطوراً وتنوعاً، ويبلغ حجمه أكثر من عشرة أضعاف الاقتصاد اليوناني. كما أكدت وكالة «ستاندرد آند بورز غلوبال ريتنغ» قبل أسبوعين تصنيف فرنسا الائتماني، مع التوقعات بأن تواصل البلاد جهودها في تقليص العجز في الموازنة. وأشارت الوكالة إلى أن «فرنسا تظل اقتصاداً متوازناً، منفتحاً، غنياً، ومتنوعاً، مع تجمع محلي عميق من المدخرات الخاصة»، وهو ما يعزز موقفها المالي.

الأمر الأكثر أهمية هنا هو أنه حتى في حال قرر المستثمرون الدوليون سحب أموالهم - وهو ما لا يوجد أي مؤشر على حدوثه - فإن فرنسا تملك إمداداً كبيراً من الأموال المحلية، يُمكِّنها من سد الفجوة المالية المتزايدة.

فعل كل ما يلزم

على الرغم من أن منطقة اليورو لا تزال تشهد تطوراً غير مكتمل، فإنه من المهم الإشارة إلى كيفية تعزيز النظام المصرفي في المنطقة منذ الأزمة المالية العالمية. كما ينبغي تذكر كيف أثبت البنك المركزي الأوروبي مراراً استعداده وقدرته على اتخاذ الإجراءات اللازمة لمنع الأزمات المالية في المنطقة. إلا أن ذلك لا يعني أن صانعي السياسات في باريس أو العواصم الأوروبية الأخرى يشعرون بتفاؤل مطلق بشأن التوقعات الاقتصادية للاتحاد.

ففي العديد من الجوانب، تبدو التحديات الاقتصادية التي تواجه فرنسا أقل حدة، مقارنة بتلك التي تواجهها ألمانيا، التي تعرضت حكومتها هي الأخرى لهزة قوية مؤخراً. ويعاني أكبر اقتصاد في منطقة اليورو من تداعيات سنوات طويلة من نقص الاستثمارات، حيث يواجه قطاعها الصناعي القوي سابقاً صعوبات حقيقية في التعافي. كما أن منطقة اليورو، التي شهدت تباطؤاً ملحوظاً في نمو إنتاجيتها، مقارنة بالولايات المتحدة على مدار السنوات الماضية، تواجه الآن تهديدات كبيرة بسبب الرسوم الجمركية التي قد تفرضها إدارة الرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترمب.

لكن هذه التهديدات التجارية قد تكون هي التي تدفع الاتحاد الأوروبي إلى اتخاذ خطوة كبيرة أخرى في تطوره الاقتصادي. فالتاريخ يثبت أن الاتحاد يتخذ خطوات حاسمة عندما يُدفع إلى الزاوية. وفي وقت سابق، قدم ماريو دراغي، الرئيس السابق للبنك المركزي الأوروبي، خطة لإصلاحات اقتصادية طال انتظارها، داعياً إلى استثمار إضافي قدره 800 مليار يورو سنوياً من قبل الاتحاد الأوروبي.

وقد لاقت هذه الخطة دعماً واسعاً من المفوضية الأوروبية والبنك المركزي الأوروبي، حتى أن رئيس البنك المركزي الألماني، المعروف بتوجهاته المتشددة، دعا إلى تخفيف القيود على الإنفاق في ألمانيا. وإذا أسفرت الانتخابات في ألمانيا وفرنسا عن حكومات أقوى العام المقبل، فقد يُتذكر عام 2025 ليس بوصفه بداية لأزمة جديدة في منطقة اليورو، بل بوصفه عاماً شهدت فيه المنطقة اتخاذ خطوة كبيرة نحو تحقيق النمو الاقتصادي المستدام.