أعاد تنظيم «ولاية سيناء» الإرهابي المتطرف في مصر قبل أيام، سيناريو قديما أقدم عليه في سبتمبر (أيلول) عام 2012 عندما تم تهجير عشرات الأسر القبطية، إثر هجوم ملثمين على محال وبيوت يملكها أقباط، وتوزيع منشور تحذيري حينها يُمهل أقباط رفح 48 ساعة للرحيل عنها.
وخلال الأيام القليلة الفائتة نزحت عشرات الأسر القبطية، التي كانت تسكن مدينة العريش بشمال شبه جزيرة سيناء، ولا يزال مد النزوح مستمراً. وكان التنظيم قد استهدف أخيراً الكثير من أسر الأقباط، وهو فتح نار غضب جديدة لدى الأقباط وعموم المصريين، من اعتداءات الغاية منها تهديد وحدة مصر.
لم يكن أحد يتصور أن الفيديو الأخير الذي بثه تنظيم «ولاية سيناء» مطلع فبراير (شباط) الحالي، وعرض ما قال إنها الرسالة الأخيرة للانتحاري المسؤول عن تفجير الكنيسة البطرسية في العاصمة المصرية القاهرة في ديسمبر (كانون الأول) الماضي سيدخل حيز التنفيذ بالفعل.
يومذاك، بعد التفجير الذي راح ضحيته العشرات، توعد التنظيم، الموالي لـ«داعش»، في ذلك الفيديو المسيحيين المصريين بـ«الثأر» من مسيحي مصر، مهدداً إياهم بالذبح والحرق، كما وزع منشورات تعرض عليهم الرحيل أو الموت.
اليوم يرى مراقبون مصريون أن تنظيم «ولاية سيناء» غير استراتيجيته من الهيمنة على الأرض في شبه جزيرة سيناء إلى فتح خط مواجهة مباشر مع المسيحيين، وأنه اتجه إلى قتل المدنيين كتغيير في عملياته الإرهابية. غير أن خبراء أمنيين يعتقدون أن «سبب استهداف التنظيم لأقباط سيناء حاليا راجع لتضييق الخناق على المسلحين من قبل الجيش والشرطة، ومحاولة التنظيم رفع الروح المعنوية ﻷفراده».
جدير بالذكر، أن تنظيم «ولاية سيناء» يعد واحداً من أقوى التنظيمات الراديكالية المتطرفة التي ظهرت في شبه جزيرة سيناء، ولقد بايع «أبو بكر البغدادي» زعيم تنظيم داعش الإرهابي خلال نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2014، وكان في السابق يُعرف بتنظيم «أنصار بيت المقدس»، إلا أنه غير اسمه رسمياً إلى «ولاية سيناء» عقب مبايعته «داعش»، لكن هذه التسمية رفضتها السلطات المصرية، فبات يعرف في الإعلام بـ«داعش سيناء».
ووفق إحصائيات رسمية، قتل 8 مسيحيين خلال فبراير الحالي في حوادث متفرقة استهدفتهم في شمال سيناء.. تم إحراق بعض الجثث وحرق منازل الضحايا. وكما سبقت الإشارة، شن التنظيم اعتداء خارج سيناء استهدف الكنيسة البطرسية الملحقة بكاتدرائية الأقباط الأرثوذكس في ضاحية العباسية بالعاصمة القاهرة خلال ديسمبر الماضي، وهو الهجوم الذي أوقع 28 قتيلا. وللعلم، تشير تقديرات غير رسمية إلى أن نسبة المسيحيين (الأقباط) تتراوح في مصر ما بين 10 و15 في المائة من عدد السكان، ويُقدر أن عدد الأقباط في العريش بنحو 1000 شخص، مع أن مراقبين يتخوفون من أنه بعد الأحداث الأخيرة لن يبقى مسيحي واحد هناك.
الأسابيع الثلاثة الماضية شهدت ارتفاعا في وتيرة استهداف الأقباط في العريش، وقتل 5 مسيحيين على الأقل، قبل أن يبث التنظيم إصداراً مصوراً أعلن فيه اعتزامه استهدافهم. وبعد بث الإصدار المصوّر قتل 3 أقباط وأحرقت منازلهم، ليرتفع العدد إلى 8 قتلى جراء موجة الاعتداءات.
وجاءت الجرائم المكثفة بحق الأقباط، بالتزامن مع إقدام ملثمين على توزيع منشورات منسوبة لتنظيم «ولاية سيناء» حوت تأكيداً للأهالي أن أعضاء التنظيم يسعون إلى «الثأر» لقتلى المواجهات المسلحة المشتعلة في المنطقة منذ 2013، التي انتقلت من مدينتي الشيخ زويد ورفح، أيضاً في شمال سيناء، لتتردد بقوة في العريش خلال الأشهر الماضية. وحقاً، تزامن ارتفاع وتيرة العمليات الإرهابية مع زيادة التضييق الأمني. وهو ما يفسره الأهالي بتسلل المسلحين إلى المدينة مع من تم تهجيرهم قسريًا من رفح في 2014.
وهنا، لا بد من الإشارة إلى أن قوات الجيش المصري تخوض مواجهات مع مسلحين متشددين بشمال سيناء منذ عزل الرئيس السابق محمد مرسي عام 2013، وقام تنظيم «ولاية سيناء» منذ عزل مرسي، المنتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين، عن السلطة باستهداف خطوط الغاز في شبه الجزيرة، فضلا عن استهداف العسكريين ورجال الأمن المصري والارتكازات والنقاط الأمنية. وأيضاً تبنى بعض العمليات في دلتا مصر على غرار تفجير مديرية أمن الدقهلية، والمحاولة الفاشلة لاغتيال وزير الداخلية المصري السابق اللواء محمد إبراهيم، إضافة إلى استهداف حافلة سياحية لعدد من الأجانب بالقرب من مدينة طابا (شرق سيناء)، واستهداف سياح في معبد الكرنك بالأقصر (الصعيد)، وغيرها من العمليات التي كان أشهرها أخيراً، استهداف طائرة الركاب الروسية فوق سيناء.
لكن استهداف الأقباط في سيناء يشكل نقلة نوعية في ممارسات هذا التنظيم؛ لأنه دفع الكثير من الأسر إلى الفرار؛ لأنها ما عادت تأمن على حياة أفرادها في سيناء.. «وأن القتل ينتظرهم في كل لحظة»، كما قالت سيدة قبطية.
من جهة ثانية، صرح ماجد منير، وهو قبطي من العريش، بأنه «رغم استهداف الأقباط في سيناء بشكل متقطع خلال السنين الماضية؛ شهد الأسبوع الماضي تطوراً مقلقاً، جعلهم مضطرين إلى الرحيل». وأردف «كان الاستهداف في البداية مقصورا على رجال الدين والتجار المسيحيين، ثم أخذ يشمل جميع من في المدينة، صغاراً وكباراً ومسنين».
أما المواطن القبطي م. ع. فأوضح أنه «هرب من المدينة بسبب الخوف والرعب من استهداف الأقباط في الفترة الأخيرة، وتحديدا بعد مقتل الأسرة المسيحية قبل أيام على أيدي العناصر التكفيرية هناك؛ ما أصابه بحالة من الرعب خوفا على حياة أسرته». وتابع: «الإرهابيون يستهدفون المسيحيين في العريش عن طريق طرق الأبواب ليلا، والادعاء بأنهم من الشرطة أو من خلال تفتيش سيارات النقل والأجرة، ومن ثم القبض على أي مسيحي».
وبلهجة انتقادية، شكت س. ع.، وهي إحدى النازحات عن العريش، قائلة إن «الدولة لا تسمع صراخنا، في العريش أو الإسماعيلية... وما قدمته الحكومة كان منح إجازة للموظفين والطلبة المسيحيين»، لافتة إلى «أن مدينتي رفح والشيخ زويد أصبحتا خاليتين من الأقباط، والعريش على الطريق».
في هذه الأثناء، أعلنت الكنيسة المصرية، أن «أكثر من 200 أسرة انتقلت من العريش إلى (مدينة) الإسماعيلية». ومع أن مصر كانت قد خلال العقدين الماضيين، حالات تهجير لأسر مسيحية محدودة، على خلفيات أحداث عنف طائفي ذي صبغة اجتماعية، فإن هذه هي المرة الأولى التي تشهد نزوحاً جماعياً لأسر مسيحية على خلفية عمليات إرهابية.
في المقابل، أوضح المستشار عمر مروان، وزير شؤون مجلس النواب (البرلمان) المصري، أن «وزارة التضامن الاجتماعي ستتحمل مصروفات التحاق الطلاب بالمدارس، وكذلك القيمة الإيجارية لمحل الإقامة الجديد للمسيحيين، وسيتم تزويد الأسر النازحة بمبلغ 1000 جنيه إعانة عاجلة، مع توفير وجبات غذائية لها». وأشار مروان إلى أن رئيس مجلس الوزراء شريف إسماعيل شدد على أن الإرهاب «لن ينال من عزيمة الشعب المصري وإصراره على مواجهة هذه الظاهرة الآثمة واجتثاثها من جذورها، وأن الدولة عازمة على مواصلة جهودها للقضاء على قوى الشر والتطرف».
وبالفعل، تتابع السلطات المصرية راهناً تداعيات ما يحصل، وشكل مجلس الوزراء غرفة عمليات في مجلس الوزراء تتولى متابعة تقديم الخدمات للأسر النازحة، وذلك بالتنسيق مع كل من محافظي الإسماعيلية والقليوبية والقاهرة وأسيوط الذين استقبلت محافظاتهم بعض الأسر المتضررة، فضلا عن التنسيق مع الكنيستين الإنجيلية والأرثوذكسية.
وأوضح يس طاهر، محافظ الإسماعيلية، في هذا الصدد أن «إجمالي الأسر المسيحية التي وصلت إلى الإسماعيلية حتى الآن بلغ نحو 76 أسرة، تم إسكانهم داخل نزل الشباب، وبيوت الشباب، ومساكن خاصة، وأخرى تابعة للكنيسة». وشدد على أن الإرهاب «لا دين له ولا وطن»، مؤكدا أن الإرهابيين «يسعون إلى إحداث الفتنة في مصر، لكن محاولتهم تبوء بالفشل، وتضافر المسلمين مع المسيحيين يعكس حجم التلاحم بين نسيج الأمة المصرية».
أما مجلس كنائس مصر فاعتبر ما حدث في العريش لمواطنين مصريين مسيحيين، من قتل واعتداء على الممتلكات، انتهاكا للدستور المصري، وتعدياً على أبسط حقوق المواطنة، وعلى هيبة الدولة وتشويه صورتها، وهدماً لإنجازاتها. وتطلع المجلس إلى عودة هؤلاء إلى بيوتهم وأعمالهم في أسرع وقت، وتدبير كل ما يلزم لإنهاء معاناتهم.