السنوار: عسكري «حماس» الذي أقصى السياسيين

إسرائيل وأميركا تعدانه «إرهابياً»... والحركة تقول إنه «صاحب فكاهة»

السنوار: عسكري «حماس» الذي أقصى السياسيين
TT

السنوار: عسكري «حماس» الذي أقصى السياسيين

السنوار: عسكري «حماس» الذي أقصى السياسيين

لم يتردد يحيى السنوار قبل نحو 3 عقود في خنق متعاونين مع إسرائيل بكلتا يديه، حتى الموت وعلى الأقل فإن اثنين منهم ماتا خنقا بكوفيته الخاصة، بعد انتهاء التحقيق الميداني معهم. وأثناء 22 سنة أمضاها في السجون الإسرائيلية، قبل أن يطلق سراحه ضمن صفقة تبادل مع إسرائيل، شكل السنوار صداعا شديدا لكل مشتبه به، بسبب ما وصف «بالهوس الأمني» الذي يسيطر عليه. وفي غزة التي عاد لها بعد غياب طويل، ظل الفتك بالمتورطين في قضايا لا تحتمل المساومات بالنسبة له، هوايته الخاصة، إذ أمر في السنوات القليلة الماضية بتصفية البعض، بينهم مسؤولون في حماس والقسام، لم يعرف فيما تورطوا بالضبط. لقد رسمت هذه القصص بالنسبة لكثيرين صورة كافية للذين عرفوا السنوار عن قرب أو سمعوا عنه لاحقا أسيرا ومحررا.
لم يحتج يحيى السنوار، القائد الجديد لحركة حماس في قطاع غزة، بفعل «سيرته» السياسية والأمنية أي وقت لبث الهيبة في غزة، بعدما تحرر من سجنه، إذ سبقته إلى هناك حتى عبر وسائل الإعلام الإسرائيلية التي انتقدت تحرير الحركي «الأكثر تطرفًا»، ووسائل الإعلام الفلسطينية التي بثت بشكل استثنائي أن «القيادي القسامي» يحيى السنوار شوهد فعلا في الحافلات، التي تقل الأسرى المحررين من السجون إلى غزة في عام 2011.
لقد حظي السنوار بتغطية استثنائية سبقت وصوله، وحظي كذلك بعناق طويل من كل قادة ومسؤولي حماس على بوابات غزة التي عانق ترابها طويلا، ثم توارى فورا عن الأنظار. ويذكر أنه منذ سنوات طويلة لم يظهر السنوار إلا نادرا. لم يتحدث إلى وسائل إعلام، واكتفى بما يبثه الآخرون عنه. واليوم بعدما أصبح على رأس حركة حماس في غزة، حافظ على نمط حياة محدد، بلا ظهور، بلا وسائل إعلام.
إنه باختصار رجل أمن وليس رجل سياسة.

سنمر مرهم!
قبل 11 سنة، عندما كان السنوار معتقلا في السجون الإسرائيلية، قال لمراسل القناة الإسرائيلية الثانية: «لن نعترف بإسرائيل، ولكننا مستعدون لقبول هدنة طويلة الأمد تحقق هدوءا وازدهارا في المنطقة، في هذا الجيل، على الأقل، وربما في الجيل القادم... مع ذلك، سنمر مر حياة الإسرائيليين أثناء المحادثات حول الهدنة، مثلما فعلنا في المقاومة والحرب». وتختصر هذه الجملة المقتضبة إلى حد كبير «عقلية» السنوار الذي أصبح مرة واحدة قائد حماس في غزة متجاوزا أسماء كبيرة للغاية.
وبسبب عقليته تلك يتوقع أعداؤه أنه سيملي خطا أكثر تشددا على الحركة، في الشأن الداخلي وفي طريقة حكم القطاع، ومع الآخرين، وهو انطباع عام لفرط ما هو راسخ حتى لدى الغزيين، حاولت حماس طمأنة الجميع بأن لديها مجلس شورى يقرر، وليس شخصا واحدا فقط على رأس الحركة.

أول عسكري يرأس الجسم السياسي
بشكل غير متوقع، تزعم السنوار حركة حماس في قطاع غزة بصفته أول عسكري على رأس الجسم السياسي، بعد أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي وإسماعيل هنية، وكلهم سياسيون، في مؤشر على قوة «كتائب القسام» التي طغت على السياسيين، وقوة السنوار التي طغت على «كتائب القسام». إلا أن طريق السنوار لم يكن صعبا نحو القمة. فبعد أن تحرر من السجون الإسرائيلية بقليل نجح في الوصول إلى ما يعرف بمكتب سياسيي حماس في غزة أي قيادة القطاع، كعضو في هذا المكتب. وكان السنوار ممثلا لـ«القسام» في القيادة السياسية، لكنه كان معروفا بين الناس وزير دفاع «القسام» الذي لا يكترث كثيرا بالمستوى السياسي حتى.
وبعد تحريره أصبح فورا لاعبا مهما ومؤثرا، ليس بسبب عضويته في قيادة غزة، وليس لأنه صار يقرر في شؤون كثيرة سياسية وأمنية - وكذلك فيما يخص التهدئة مع إسرائيل -، بل بسبب علاقته الخاصة والمميزة بقائد «القسام» محمد الضيف، الرجل الأكثر مهابة في حماس. وبسبب هذه العلاقة، إضافة إلى سيرته المعروفة، تسلم الأمن في «القسام»، وأصبح مسؤولا في عام 2015 عن الملف الأكثر حساسية وأمنا، في حماس ولدى الإسرائيليين، أي ملف الأسرى الإسرائيليين. وبالتالي، بات مسؤولا عن أي مفاوضات مع إسرائيل بهذا الشأن.

نشأته وهوسه بقتل العملاء
ولد يحيى إبراهيم حسن السنوار عام 1962 في مخيم خان يونس للاجئين بجنوب قطاع غزة، وتعود جذوره إلى مجدل - عسقلان.
عرف عنه منذ صغره الانضباط الشديد، ونزعته الدينية. وأنهى دراسته الثانوية في مدرسة خان يونس الثانوية للبنين، قبل أن يلتحق بالجامعة الإسلامية في غزة مطلع الثمانينات ويبرز واحدا من نشطاء العمل الإسلامي.
وأصبح مسؤولا للجنة الفنية، ومن ثم اللجنة الرياضية ونائبا لرئيس المجلس ورئيسا للمجلس. ومن ثم، أصبحت علاقته بالشيخ أحمد ياسين - الذي أسس حماس لاحقًا، واغتالته إسرائيل - قوية جدًا، واتفقا على تأسيس جهاز «مجد» الأمني الذي تخصّص في ملاحقة «المتعاونين» مع إسرائيل. وكان السنوار يشرف شخصيا على الملفات، وتولّى بنفسه قتل «عملاء».
ولقد اتهمته إسرائيل على الأقل بقتل 4 منهم وحكمت عليه عام 1988 بالسجن المؤيد 4 مرات. وأظهرت اعترافاته في التحقيقات في إسرائيل، التي كُشف عنها في موقع الأخبار الإسرائيلي «والاه» أنه قتل العملاء بنفسه. كذلك نقل عن السنوار قوله «ربطتُ عينيه بخرقة لئلا يرى إلى أين نسافر، أدخلت (رسمي) إلى قبر كبير داخل المقبرة... وعندها خنقته مستخدما كوفية كانت معي»... وتحدث السنوار أيضًا عن «معلومات» وصلت إليه عن «متعاونين» مع إسرائيل. وصلت معلومات كهذه عن «عدنان» من سكان غزة، وفورًا اختطفه السنوار ورجاله مهدديه بالسلاح، وبعدما اعترف «عدنان» بعلاقته مع الاستخبارات الإسرائيلية، قتله السنوار فورا.
اعتقل السنوار لأول مرة عام 1982 لمدة أربعة أشهر، وخرج ليعتقل بعد ذلك بأسابيع قليلة وحكم عليه مرة ثانية بالسجن 6 أشهر إداريًا في سجن الفارعة، وفي عام 1988 اعتقل مجددًا، ونقل للتحقيق، وحكم عليه بالسجن أربع مرات بالمؤبد و30 سنة. وتنقل أثناء اعتقاله عشرات المرات بين السجون، وقضى غالبية فترة الاعتقال في العزل الانفرادي. وذكرت تقارير إسرائيلية أن السنوار حاول كسر قيوده عدة مرات. وانتخب رئيسًا للهيئة القيادية العليا لأسرى حماس في سجون الاحتلال لدورتين متتاليتين، وقاد كثيرا من المفاوضات المباشرة مع إدارة السجون الإسرائيلية، وقاد إضرابات عن الطعام كذلك.

سجنه وسكتته الدماغية
بصفة السنوار ممثلا للأسرى التقى مع مسؤولين إسرائيليين ومن بينهم رئيس جهاز «الشاباك» السابق يوفال ديسكين. وكانت هناك رقابة مشددة على السنوار من قبل سلطات الأمن عندما كان مسجونا، وكانت الوحدات الخاصة في مصلحة السجون تفحص أغراضه كل أسبوع. كان يخطط سياسة حماس داخل السجون وله رأس مسموع في الخارج، ولقد شكل أيضا مصدر قلق كبير للعملاء داخل السجون.
وفي عام 2005، تعرّض السنوار لسكتة دماغية فمكث في مستشفى سوروكا بمدينة بئر السبع، عاصمة النقب، وعالجه الإسرائيليون، لاحقا تعلم اللغة العبرية وصار يتكلمها بطلاقة.

لحظة الحرية
عام 2011 وضع اسم يحيى السنوار في رأس قائمة حماس التي وضعتها مقابل الإفراج عن الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط بعد احتجازه في غزة 5 سنوات. ونقلت تقارير آنذاك أن السنوار عارض الصفقة بشكلها الحالي حتى مع وجود اسمه، إذ كان يطلب الإفراج عن كل معتقلي القسام من داخل السجون. وخرج السنوار، من ثم، إلى غزة محرّرا، وفورًا تولى مهامه المختلفة حتى أصبح قائد الحركة.
لكن كيف يرى الأصدقاء والأعداء قائد حماس الجديد؟

حماس: صاحب فكاهة
يقول الإسرائيليون عن السنوار إن حماس تخشاه، وركز الإعلام الإسرائيلي على حادثة قتل القيادي في القسام أبو المجد شتيوي، الذي كان معروفا بصفته مسؤولا كبيرا في «القسام»، واتهامات والدته للسنوار بقتل ابنها بسبب صراع نفوذ. وربما ساعدت هذه الحادثة على رسم صورة مخيفة لقائد حماس الغزي الجديد، إلى الحد الذي غرّد معه كثير من الناشطين الغزيين على مواقع التواصل الاجتماعي مبشرين بحرب جديدة بعد إعلان فوز السنوار.
لكن حماس الرسمية حاولت رسم صورة مغايرة له بعد فوزه؛ إذ قال صلاح البردويل، عضو قيادة غزة الجديدة: «اختيار يحيى السنوار قائدا لحركة حماس في غزة، جاء بعملية ديمقراطية انتخابية معقدة وهادئة، وبإرادة ووعي من عشرات الآلاف من كوادر الحركة». وأضاف البردويل في تصريحات لقناة «الأقصى» التابعة للحركة: «أن يأتي قائد بحجم يحيى السنوار هذا أمر تحدده قاعدة حماس ووفق القانون والنظام واللوائح المعمول بها. لكن لا ينبغي التركيز على شخصيته دون النظر إلى العملية الكبيرة التي تمت والمؤسسة التي اختارته ليكون قائدا لها».
وقلل البردويل من أهمية ما وصفه بـ«التخوّفات والهواجس التي حاول الإعلام الصهيوني ترويجها وانساق معها البعض، بعد انتخاب السنوار»، وقال: «إنها لا تغني عن حقيقة أن حماس ماضية في طريقها الشوري الديمقراطي ولا تفارق مبادئها ولا أهداف شعبها». ورسم صورة شخصية للسنوار قائلا: «إنه يؤمن بالوحدة الوطنية وبالعلاقات مع الفصائل وهو رجل مصالحة، وعربي يكن لمصر احتراما خاصا»، مضيفا: «هذا سيكون له انعكاسات كبيرة جدا، وسيرى الناس كيف يستحق السنوار أن يكون قائدا لحماس». وتابع: «إنه خلوق وإنسان وصاحب فكاهة، ولن يحدث تغيير سوى في نشاطه».

واشنطن: إرهابي دولي
لم تعقب الولايات المتحدة على فوز يحيى السنوار، لكن كان لها موقف مسبق منه، ففي سبتمبر (أيلول) من عام 2015 أعلنت وزارة الخارجية الأميركية، إدراجها إياه وعددا من قادة حماس على لائحتها السوداء حيث اتهمتهم بأنهم «إرهابيون دوليون». ويومذاك ضمت القائمة كلاً من صديقه المقرّب روحي مشتهى، وقائد «القسام» محمد الضيف، ووزير الداخلية السابق في حماس فتحي حماد، ومسؤول الجهاد الإسلامي رمضان شلح، ونائبه زياد النخالة.

الإسرائيليون: «شيخ القتلة» مندفع وخطير
قبل انتخاب السنوار اتهمه الإسرائيليون بأنه متشدد وعنيد. ويملي خطا أكثر تشددا على كل حماس، وبعد إعلان فوزه في الانتخابات مسؤولا للحركة في غزة، شنت وسائل إعلام إسرائيلية، حملة كبيرة ضده بوصفه «الأكثر تطرفا»، وتناولت كل تفصيلة ممكنة عنه، ونشرت حتى عن إلمامه باللغة العبرية، وكيف خضع لعملية خطيرة على أيدي أطباء إسرائيليين عندما كان في السجن، باعتبار الأطباء الإسرائيليين «أنقذوا حياته». وعزز وزير الطاقة يوفال شتاينتس المخاوف الإسرائيلية بأن السنوار سيقود المنطقة إلى حرب، بقوله إن المواجهة القادمة مع حركة حماس «هي مسألة وقت ليس إلا». وعد وزير الطاقة، انتخاب السنوار لقيادة حماس بأنه «خطر للغاية بسبب طابعه الاندفاعي»، مضيفا: «كلما تعزّزت مكانته ازداد الخطر الذي يشكله». وتابع: «إنه شخص قد يردّ بشكل هستيري نابع من أوهام جهادية».
وانضم رئيس لجنة الخارجية والأمن في الكنيست، آفي ديختر، للمتشائمين في إسرائيل، ودعا إلى تعزيز القدرات لتدمير البنية التحتية لحماس، بعد وصول السنوار. ووصفه ديختر بأنه «شيخ القتلة»، ثم قال بنبرة تهديد: «خسارة أننا لم نقتل يحيى السنوار، لكن اليوم هو ليس محصنًا».
وباختصار شديد، فإن الانطباع العام في دهاليز القرار الإسرائيلي عن القائد الحماسي، مبني على معرفتهم القريبة بالرجل أثناء التحقيق وعندما كان في السجون لمدة 22 سنة، وكذلك من مواقفه غير المهادنة.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.