لأن الأصوليات خطاب صراع، ومنظومة أحادية تحتكر الحق وتنفي الآخرية والاختلاف، فقد تجاهلت الأدبيات المتطرفة كثيرًا من الأبواب في التراث والتاريخ الديني، وألقت إياها كليةً في سلة الإهمال، أو اكتفت بانتقاء واقتطاف ما شاءت، موظفة إياه في مناسبات معينة، بنزعة ميكيافيلية تحركها إرادة التوظيف، وليست إرادة الفهم أو التعريف. ولكنها في اقتطافاتها واقتطاعاتها تصر على إقصاء كثير من المجالات والنصوص التي لا توافق منظومتها؛ بل تعارضها وقد تنقضها من أساسها.
يمكننا تحديد أربع سمات رئيسية لتعاطي المتطرفين مع التراث، هي كما يلي:
هنا نجد كيف يقف وعي التطرف عند وعي الحرب، وهو وعي أزمة، شرقا وغربا، فلا يتصور الآخر إلا في حرب دائمة ومستمرة مع الأنا، لا يعني التوقف سوى خضوع هذا الآخر للأنا، أو العكس، وفي هذا السياق تمثل الفتاوى المخزن والمكنز الذي يغرف منه هؤلاء فتاوى الدفع والحفز للمقاتلين انتقاما أو ثأرا وانتصارا.
في هذا الشأن، على الرغم من أن القرآن يحوي سورة مقدسة بعنوان «الإنسان» وتكررت الكلمة فيه خمسا وعشرين مرة ومفرداتها كذلك، كما احتوى سورة باسم «النساء» وأخرى باسم العذراء «مريم» وأثنى ثناءات أخرى على كثير من النساء مثل «الملكة بلقيس وامرأة فرعون» وخلد الآخر واستبشر بنصره في سورة «الروم»، فإن خطاب التطرف يتجاهل كل ذلك مصرا فقط على روافد الكراهية التي هي في الحقيقة ليست إلا طبيعة الاختلاف الديني والثقافي بين أي دين وأي ثقافة مغايرة، وليست أصولا تحرك رسالة الدين نفسه.
مع أن حديث الفرقة الناجية هدأ أواره بعد عصور الفتنة والحروب واستقرار الفرق التاريخي جغرافيا وكلاميا بعد القرن الثالث الهجري. ولم تعد الأغلبية المسلمة السنية تجد غضاضة مثلا في أن يحكمهم البويهيون أو التتر الشيعة فترة، كما لم يجد الشيعة العكس، وتبخر غلاة الخوارج ولم يبق إلا معتدلوهم ودولهم في الشمال الأفريقي أو شبه الجزيرة، نجد أن فقه وخطاب التطرف اختصر فرقه في جماعته فقط، واختصر جماعته في أميره، وسعى كل السعي لنزع الشرعية عن كل مخالفيه حتى من الجماعات الشبيهة.
لقد أهمل الأصوليون وجماعات التطرف العنيف مباحث في التراث كانت ألصق بهم وهي الأقرب لفضائهم، مثل كتب «الآداب السلطانية» و«السياسة الشرعية» و«الأحكام السلطانية» التي حملت وعيًا تاريخيًا بمسألة الحكم وتحولاته في الإسلام، ومع أن المشهور منها قليل، وهي كتب الماوردي والجويني وابن أبي يعلى وابن تيمية (رحمهم الله) فإن ثمة الكثير منها أيضًا. ولكن لم يتم استكشاف النظرة التاريخية الكامنة لدى كل من هؤلاء اكتفاء باستعلاء الحاكمية - التي لم ترد في نص تراثي - وصورة متخيلة ومثالية تغيب الواقع والتاريخ معا ولكن تحتكر حق إدارتهما وتصويره.
بل اتخذ بعض منظري التطرف موقفا عدائيا غريبا من بعض أبواب التراث مثل «فقه السيرة» وباب «أسباب النزول» في النص القرآني، وأذكر في ذلك ما أوصى عبد القادر بن عبد العزيز في مرحلته الأولى، في كتابه «الجامع»، الذي يعد دستور جماعة الجهاد المصرية و«القاعدة» وشبكتها فيما بعد، بعدم الإقبال على هذه الكتب، وخاصة ما يسمى «كتب فقه السيرة» لأنها تستخلص الدروس والعبر من تاريخ وسيرة الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام وتفهمه في إطار واقعه.
كذلك لم يقبل المتطرفون على شيء من كتابات ابن خلدون إلا اقتباسات مقتطفة من تعريفاته للخلافة، نقلها عن غيره، ولم يتناولوا بالمطلق سردياته الطويلة في فلسفة التاريخ أو العوامل الفاعلة فيها، وكيف تحرك تاريخ المسلمين وغيرهم.
ومما أهملته الأدبيات المتطرفة كل مباحث الكلام وخاصة مبحث «السعادة» و«إسعاد النفس الإنسانية» الذي مثل مركز تفكير مهم في مؤلفات الفكر الإسلامي في القرون الستة الأولى، تأثرا أحيانا بـ«يوتوبيا» أفلاطون، فكتب المعلم الثاني الفارابي «آراء أهل المدينة الفاضلة» وسائر المتكلمين والفقهاء المسلمين، ومن أشهرها كتاب أبو الحسن العامري النيسابوري (المتوفى سنة 332 هجرية) «السعادة والإسعاد في السيرة الإنسانية»، كما كتب أبو حيان التوحيدي «الإمتاع والمؤانسة»، بل تناولها فقهاء من أهل الحديث كابن قيم الجوزية في كتابيه «مفتاح دار السعادة» و«حادي الأرواح».
يغيب مفهوم التسامح والتعايش والمواطنة عن المتطرفين، رغم أنه كان حاضرا كل الحضور في تراث السلف، نظرا وخبرا، محمولا على أركان ومفاهيم راسخة كـ«الكرامة والإخوة الإنسانية» و«حق الاختلاف» وحقيقة الاعتراف قبولا وتكيفا وتعايشا مع المختلف. وتسطير ما يزيد على سبعين كتابا في أدب الاختلاف والمناظرة فقط في القرون الخمسة الأولى للهجرة، وبرز الآخر في مختلف مجالات هذا التاريخ وهذا التراث.
وحسبنا أن نذكر أسماء كالشاعر الأخطل التغلبي والقديس يوحنا الدمشقي (توفي 133 هجرية) وهو منصور بن سرجون، أحد المقدمين في ديوان بني أمية، وصاحب أول كتاب جدلي مسيحي مع الإسلامي وهو كتابه الشهير «المناظرة» أو «الهرطقات المائة». ولقد تأثر به الجعد بن درهم وجهم بن صفوان عبر أحد تلامذته بالخصوص.
وهنا لا نشير إلى الجدل وحقيقته التاريخية ولكن نشير إلى لفضاء الثقافي الذي تحمل جدلا بهذا الوزن وهذا المستوى من الحوار مع المقدس ومع شرعية السلطة الأموية من قبيل أحد القديسين الذي كان عارفا بتراث أرسطو معرفة عميقة، وخاصة البلاغة والمجاز والمنطق. وثارت بسبب جدالاته قضية كان لها حضورها الخطير والكبير في القرن الثاني والثالث الهجري هي قضية «خلق القرآن» وما عرف بـ«محنة الإمام أحمد بن حنبل».
كما نذكر في العصر العباسي ابن الرواندي الملحد وجدالاته المشهورة مع المسلمين والمسيحيين واليهود، أو يوسف بن عدي، المنطقي المسيحي الذي سطر ما سطره في الدفاع عن معتقده، أو طيموثاوس الجاثليق بطريرك الموصل، الذي كان مقربا من الخليفتين العباسيين الهادي والمهدي وهارون الرشيد، وله مع الأول مناظرة مشهورة يدافع فيها عن اعتقاده بكل الحجج العقلية والمنطقية. ولقد نشرتها إحدى جامعات لبنان في سبعينيات القرن الماضي، لا تخلو من طرافة ورحابة صدر واحترام للاختلاف والحق فيه والاعتراف به.
أيضا اشتهرت في العصر العباسي أسماء أسر من أديان أخرى مثل «بنو قرة» الذين كانوا ينتمون لدين الصابئة المندائية، وينسبون لحران التي كانت تعد منطقتهم، وتتبع إقليم أنطاكية - الإسكندرونة (التركي الآن)، وكان منهم العالم المشهور ثابت بن قرة، كما كان منهم سنان بن قرة، وتولى بعضهم الوزارة تنفيذا وتفويضا في العصر العباسي الأول، ولم يكن لدينهم دور في تمييز ضدهم من قبل السلطة الحاكمة أو المجتمع حينها.
كذلك أثمرت جهود الترجمة منذ أخريات العصر الأموي قليلا، ومرورا بالعصر العباسي عبر مترجمين من الثقافات الأخرى ومخلصين لها ومتفهمين لها، والترجمة في حقيقتها ودلالتها ليست إلا عبورا حضاريا وإنسانيا نحو الآخر، يحمل التقدير له والاعتراف به، ورسالة التثاقف معه والاستفادة منه. وبرز في تاريخها الإسلامي أسماء كثيرة ترجمة وتعريبا، وبرز فيها في العصر العباسي أسماء كإسحاق بن حنين، الذي وكل إليه الخليفة المأمون إنشاء «دار الحكمة» وكلفه بالسفر لجمع الكتب لها، وقبله يوحنا بن ماسويه، وبشر بن متى، وإسحاق بن بختيشوع وغيرهم كثر.
التسامح كان تعايشا في الحقيقة، شمل مختلف الملل والنحل في فترات مختلفة، وإن كانت ثمة شواذ شوارد عن القاعدة أحيانا، لكننا نذكر أنه كان السائد، ولا يصح محاكمة مثل السلطان صلاح الدين الأيوبي مثلا بموقفه من السهروردي الذي استلب بإشراقه ابنه الأكبر، ناسين تسامحه مع الفيلسوف ابن ميمون اليهودي الذي صعد نجمه في عهده تفسيرا وتعريبا للتوراة، وغيرها من المواقف التي شهد بها خصومه وأعداؤه في الحروب الصليبية ذاتها.
ومما يذكره مؤرخ منصف كآدم متز في سفره الضخم عن «الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري» (ص 85) عن مثل هذا التسامح والتعايش «أنه في القرن الرابع الهجري كان المجوس كثرا في جنوب فارس، وأنهم وفي سنة 369 هجرية وقعت فتنة عظيمة بينهم وبين المسلمين، من عامة شيراز، نهبت فيها دور المجوس وضربوا فسمع عضد الدولة البويهي الخبر فجمع كل من له أثر ومسؤولية فيه، وبالغ في تأديبهم وزجرهم». ويشير إلى أن الصابئة كان آخر عهد ازدهر أمرهم في عهد الخليفة الأمين العباسي، حيث عاد شأن الوثنية في حرّان - بلدهم الرئيس - وقيدت الثيران في جميع الشوارع مزينة بغالي الثياب، والورود والرياحين وبالأجراس على قرونها وسار خلفها الرجال بالمزامير، ولكن لم يشر متز أنهم ظلوا في عهد المأمون وفرضت عليهم الجزية شأن الأديان السماوية الأخرى. وكذلك شأن المجوس الذي تم القياس عليهم، منذ عهد عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، وظلوا موجودين في حرّان ربما حتى عصر ابن تيمية، وكذلك في بعض أجزاء العراق حتى يوم الناس هذا.
ولكن لم يكن العهد كله أمانا وأمانا وتعايشا، خاصة في عهود المستبدين الفاسدين، شأن الخليفة العباسي القاهر بالله - الذي خلع وسملت عيناه في النهاية وكان يتسول الناس في طرقات بغداد - المعروف بفساده واستبداده ووحشيته، منذ تولى الخلافة بعد قتل أخيه المقتدر بالله وأمه «شغب»، وكان من كمال استبداده ووحشيته أنه أراد قتل المجوس، وأخذ منهم مالا كثيرا عوضا عن ذلك.
ولقد صدر في منتصف القرن الرابع الهجري كتاب من الخليفة يوصي بصيانة الصابئين في حرّان والرقة وديار مضر، أمر فيه الخليفة بحراستهم، وأصدر الخليفة المأمون كتابا يعهد لأهل الذمة بحفظ دينهم ودورهم وحرية اعتقادهم وشعائرهم. وكان بعض الخلفاء عند انقطاع المطر يسير مواكب يتقدمها رؤساء الطوائف من النصارى واليهود دلالة على التسامح والشراكة وقربا إلى الله على ما يبدو.
وحياة الذمي عند أبي حنيفة وابن حنبل تكافئ حياة المسلم، ولوليه الأمر إن أراد عفا وإن أراد أخذ الدية. وكانوا يعاملون في مارستانات بغداد معاملة المسلمين عند طلب العلاج والدواء.
إن التطرف ليس نسبة صحيحة ومستقيمة للتراث، ولكنه انحراف فهم وتوظيف ذرائعي وميكيافلي يستهدف فقط انتصاراته، ومن هنا فلا عجب أن نجد أحد المنظرين المتشددين المحبوسين في فقه «الطائفة الناجية» يرى أن السلطان محمد الفاتح ليس هو الفاتح المبشر به فاتح القسطنطينية، لمجرد أنه ينتمي للمذهب الحنفي، أو نجده يرفض مفهوم «الحضارة» لا لشيء إلا لأنها تعني المدنية والتقدم للأمام، وهم يريدون العودة للخلف وليس للتاريخ والتراث.
قراءات حول التسامح الديني في الإسلام
التراث المنسي عند جماعات الإرهاب
قراءات حول التسامح الديني في الإسلام
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة