الحوار مع الشيف الفرنسي الشهير إريك بريفار هو متعة في حدّ ذاته، لما يحمل من خبرات لافتة في عالم المطبخ. فهذا الشيف الفرنسي الذي أدار مطبخ «Le cinq» في فندق جورج الخامس في باريس، ورغم كلّ النجاح الذي حقّقه خلال مشواره المهني يشعر أنه مدين بشهرته لجدّيه الفلاحين. فقد اكتسب في عمله الزراعي معهما في بلدة بورغينيون الفرنسية، أهم الدروس في عالم الطهي وتحضير الطعام.
ومن على شرفة مطعم «انديغو» في فندق لو غراي وسط بيروت، بدأت الحوار مع الشيف الفرنسي الذي كان يشارك في معرض «هوريكا» في العاصمة.
«هي الزيارة الأولى لي إلى بيروت وأستطيع القول إنها جذبتني بشكل كبير إلى حدّ جعلني لا أتراجع عن قرار افتتاح فرع لمدرستي الأكاديمية (le cordon bleu) فيها دون أي تردد». هكذا عبّر الشيف بريفار عن وقوعه في حبّ «ست الدنيا»، مشيرا إلى أن هذا المشروع سيكون تكملة لرؤية خاصة به في عالم الطهي، نشرها من خلال 40 مدرسة مشابهة في العالم أجمع، وكان أحدثها في البرازيل.
بدأ إريك بريفار مهنته وهو ما زال يافعا (في الرابعة عشرة من عمره)، وكانت أولى تجاربه في هذا المضمار من خلال غسل الطناجر وفركها في مطعم «لا زولا» الواقع قريبا من بلدته الأم (بورغينيون). وفي سن التاسعة عشرة حمل جعبته المتواضعة وقصد باريس حيث بدأ عمله الفعلي في المطبخ من خلال مطعم «رينتي» في مجمّع «كونكورد لافاييت». «لا أعلم لماذا جاءتني الفكرة لاغادر باريس بعدها في عام 1988 وأتوجّه إلى طوكيو. فهناك التقيت بنصفي الآخر وفتحت أمامي أبواب الشهرة بعد أن عملت في فندق (رويال بارك أوتيل)، وتطور الأمر لأصبح المشرف على التجمّع الفندقي (بلازو) فانتشرت صوري على جدران محطات القطار وفي كلّ مكان». اكتسب الشيف الفرنسي من خبرته اليابانية كلّ ما له علاقة بكيفية طهي الخضار الطازج مع الحفاظ على نكهته، وتعلّم بالتالي الخمسين طريقة المعروفة بها مطابخ اليابان فيما يخص تحضير الأعشاب البحرية (Algues). «لعلّ أسلوبي في الطبخ اكتسبته بالدرجة الأولى من خبرتي هناك، ومن أجواء المحافظة والتهذيب اللذين يطبعان أجواء هذا البلد عامة».
ويؤكّد بريفار أن خبرته هي مجموعة دروس تعلّمها من هنا وهناك، وقد يكون لقاؤه مع الشيف الفرنسي العالمي جويل روبيشون في مطعم «جامين» في باريس، خبطة العمر بعد أن اكتسب من العمل كمساعد له جملة من التقنيات الخاصة في تحضير البطاطا المهروسة وعملية الطهي على نار هادئة. «لقد كان بمثابة والدي الروحي فنقل إلى حسّ المطبخ المتطوّر قبل أوانه والتقنية الكبرى في الطهي». وماذا تعني بذلك؟ «أعني الجديّة في العمل والتطبيق الجيّد وحمل همّ التفاصيل الدقيقة وكيفية اختيار المكوّنات ولو في أطباق بسيطة. فالمكوّنات الجيدة تضاهي بأهميتها براعة شيف برأيي».
فخور إريك بريفار بما حققه في مجال الطهي، وهو الذي علق نجمتين على صدره من دليل ميشلان العالمي، وحصد جائزة «أفضل عامل فرنسي» سلّمها له الرئيس الفرنسي الأسبق فرنسوا ميتران. وفي عمله في فندق «لا بلازا اتينيه» الذي طلبه بالاسم، أبدع الشيف الفرنسي في ابتكاراته إلى حدّ جعله يحصل على نجمته الثانية من دليل ميشلان العالمي بعد أن أمضى فيه خمس سنوات متتالية خلفه بعدها فيه الشيف العالمي آلان دوكاس.
ولكن ماذا عن الخبرة التي اكتسبتها من عملك في فندق «جورج الخامس» في باريس؟ «هي قصة مختلفة تنطوي على الكثير من الابتكارات التي استحدثتها في المطبخ الفرنسي. ولعلّ أشهرها تلك التي استوحيتها من طبق الطيور الذي كانت تحضّره لنا جدّتي (pithiviers de chasse) والذي يتألف من لحم البط والحجل المحمّر في الفرن، لقد اشتهرت بهذا الطبق إلى حدّ دفع بالعالمي آلان دوكاس إلى تقليدي فيه مع إجراء بعض التغييرات عليه. ذكرياتي في هذا الفندق كثيرة وقد تركت العمل فيه منذ عام 2014».
ماذا يتطلّب برأيك العمل في فنادق كبرى كالتي اندرجت على لوائحها؟ «أن نكون ملمّين بالمطبخ عامة وبكل أنواعه العالمية ولا سيما الخاصة بأطباقه الكلاسيكية».
وهل ما زالت الأطباق الكلاسيكية تتصدّر المطبخ العالمي اليوم؟ «في استطاعتي القول إن الأطباق المبتكرة من قبل الشيف المسؤول عن المطبخ توازيها أهمية».
فالبعض كان يقصد فندق «جورج الخامس» لاكتشاف عالميته وتميزه في أطباقه، إلا أن البعض الآخر، كان حبّ التعرف إلى أطباقي يدفعه للقيام بذلك، وقد اعتمدت فيها على المكوّنات الطازجة وقلّة الدسم والكريمة القليلة». ويتذكّر الشيف الفرنسي حادثة جرت معه خلال عمله هناك: «في إحدى المرات دعا صاحب الفندق الأمير الوليد بن طلال أصدقاء له من كبار الشخصيات المعروفة وطلب منّي تحضير طبق الخروف مع الأرز المشهور في بلاده. واضطررت يومها أن أتعلّم أصول طهي هذا الطبق من نساء عربيات. أتذكّر أننا ذبحنا يومها أكثر من 20 خروفا وطهوناها مع البصل على الطريقة العربية الأصيلة مع البهارات الخاصة بها وهي الوحيدة التي أضفتها إلى الطبق على طريقتي».
وكيف تختصر اليوم مشوارك في عالم الطبخ؟ «لقد بدأت فيه من درجة الصفر فكنت أقطف الخضار الطازج مع جدّي، ثم دخلت المطبخ لأول مرة وأنا في الرابعة عشرة من عمري لأحضر طبق الكوسة مع الجبن. بعدها انتقلت إلى تحضير الحلويات وصرت أستمتع أكثر بجمع مكوّنات أطباقي من حديقة جدّي، وأساعدهما في صنع زيت الجوز وما شابهه. فكنت محظوظا في اكتساب هذه الثقافة الحقيقية من الطبيعة، حيث لا مواد صناعية ولا أسمدة سامة فيها. مع الأسف لقد أخذ اليوم تحضير الطعام منحى آخر من قبل الطهاة الذي يلهثون وراء كلّ ما هو مصطنع، فهم مع الأسف لا يستطيعون التمييز ومعرفة الفرق ما بين المكونات الطازجة الأصيلة والأخرى التي نمت بصورة مصطنعة في الخيم. اليوم أشدد على هذا الأمر في الصفوف التي أعطيها لطلاب مدرستنا (cordon bleu)».
ويتحدث إريك بريفار عن المطبخ اللبناني فيصفه بالصحّي والمتنوع والذي يمكن هضم أطباقه بسهولة: «أمر لفتني كثيرا في مطبخكم ألا وهو الكرم. فأنتم تطهون بحبّ وعندما تقدّمون الطبق لا تكتفون بصنف واحد بل أكثر، فتكون موائدكم غنيّة بأصناف منوعة، فالكرم في تحضير الطعام وفي تقديمه يشكّلان متعة بحدّ ذاتها.
وما رأيك بالمرأة الشيف؟ «في الماضي كنت أعتقد أن الرجل يتقدّم عليها، فلم أكن أصادف كثيرا منهنّ في المطابخ. وفيما بعد وخلال عملي في فندق جورج الخامس التقيت بعدد كبير منهن، فهن فعّالات وجدّيات ونظيفات وأكثر دقّة من الرجال، كما أنهنّ ناضجات وحاليا هناك مبدعات ونستمتع في العمل معهن، لأنهن أكثر هدوءا ويتمتعن بإحساس مرهف مما يؤثّر على أطباقهن بشكل مباشر».
وفي نهاية حديثنا أخبرني إريك بريفار عن ذكرياته مع أشهر النجوم في العالم أمثال فريق البيتلز ومايكل وكيرك دوغلاس. وقال: «لقد كان الراحل مايكل جاكسون مثلا يحب أن أصنع له حساء القرع، أما عائلة دوغلاس التي كانت تقصدني بعيد عروض (مهرجان كان السينمائي)، فكانت تطلب منّي تحضير كتف الخروف مع توابله (epaule d’agneau fondant aux epices) مع غراتان البندورة وثمر التين الطازج مع صلصة الليمون. وكان الرئيس الراحل رفيق الحريري يحبّ أيضا هذا الطبق، الذي يتم تحضيره على نار هادئة فيذوب في الفم». وذكر الشيف بريفار أيضا لقاءاته مع نجوم آخرين أمثال جاك نيكلسون وليزا مينيللي ونيكولاس كايج وناتالي بورتمان.
وختم: «هو أمر مسل، لأنهم كناية عن شخصيات معروفة جعلت كوكب الأرض بأجمعه يحلم بهم، وأنا في المقابل أشعرتهم وكأنهم يسكنون القمر من خلال مذاق أطباقي».
الشيف إريك بريفار: آلان دوكاس قلّد أشهر أطباقي
أشرف على مطابخ فندق «جورج الخامس» فتذوّق أطباقه أشهر النجوم
الشيف إريك بريفار: آلان دوكاس قلّد أشهر أطباقي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة