التحركات الأخيرة التي تقوم بها روسيا، مثل تلويحها بغصن الزيتون لحركة طالبان، واستضافتها حوارا ثلاثيا مع بكين وإسلام آباد في 27 ديسمبر (كانون الأول) الماضي بشأن مستقبل أفغانستان، في غياب أفغانستان والولايات المتحدة الأميركية والهند، منذ غزوها أفغانستان عام 1979؛ تشير إلى خطط جديدة من جانب موسكو للاضطلاع بدور الوسيط. وضمن هذا التوجه يستضيف الكرملين الأسبوع المقبل (15 الحالي) مؤتمرا آخر، من أجل مناقشة الجهود الرامية لتسوية الصراع الأفغاني، واحتواء «التأثير لإرهابي الممتد» لتنظيم داعش الذي يحاول أن يؤمن لنفسه موطئ قدم في الدولة الممزقة بفعل الحرب.
المثير للاهتمام هو أن التصريح المشترك الذي أعقب اللقاء الثلاثي في موسكو في ديسمبر يعبر عن دعم إجراء محادثات مع حركة طالبان الأفغانية، وتبني «نهج مرن لرفع العقوبات المفروضة من قبل الأمم المتحدة على شخصيات قيادية بعينها في الحركة، في إطار الجهود الرامية إلى دعم حوار السلام بين كابل وحركة طالبان»، وكذا عن قلق من تنامي نشاط تنظيم داعش في أفغانستان.
ومن غير المستغرب أن يرى الجيش الأميركي هذا الدعم الروسي المفاجئ لحركة طالبان كمحاولة لتقويض الجهود العسكرية لحلف شمال الأطلسي في أفغانستان. كذلك اتخذت الحكومة الأفغانية رد فعل سلبي قوي ضد المحاولات الروسية لتعزيز مصداقية طالبان.
الجنرال الأميركي جون نيكلسون، قائد القوات الأميركية في أفغانستان، انتقد كلا من روسيا وإيران وباكستان، علنًا خلال الشهر الماضي لـ«نفوذها الخبيث» في البلاد.
كذلك وجهت أفغانستان انتقادات إلى الاجتماع الثلاثي، لأنه لم يضم أي ممثل لكابل. وبعد رد فعل قوي واحتجاج من جانب الحكومة الأفغانية بسبب تهميشها، صرح سيرغي لافروف، وزير الخارجية الروسي، بدعوة أفغانستان رسميًا إلى جولة المحادثات الأسبوع المقبل، التي من المفترض أن يحضرها مسؤولون بارزون من الصين وإيران والهند وباكستان. وقال لافروف: «إذا كانت الولايات المتحدة الأميركية على استعداد للتعاون البنّاء مع القوى الإقليمية، فلمَ لا»، لكنه أضاف أن واشنطن «ينبغي أن تحدد ما الذي تخطط له في أفغانستان». وأكد دبلوماسي هندي بارز مشاركة الهند في الاجتماع الإقليمي المقبل في موسكو، قائلا إن «الهند راغبة في الانضمام إلى المجموعة شريطة حضور أفغانستان».
في مقابل التقرب من حركة طالبان، يرى الروس أن أفغانستان قد تصبح ملجأ آمنا لتنظيم داعش، يمكن أن يتم استخدامها كتهديد حقيقي وخطير للمنطقة الخلفية من روسيا. كذلك تشعر الصين بالقلق من التأثير المتنامي لخطر «داعش» في منطقة سنجان. وقد رأى الطرفان في باكستان محاورًا مهمًا ربما يكون قادرا على توجيه حركة طالبان على نحو يمثل قوة ضد تنظيم داعش.
وقال جي. بارثاسارتي، دبلوماسي هندي سابق: «عندما يتم النظر إلى الأمر من منظور الانخراط الروسي في سوريا، يصبح التهديد الذي يمثله تنظيم داعش حقيقيًا جدًا بالنسبة إلى موسكو. أضف إلى ذلك أن عودة المقاتلين الروس في تنظيم داعش من سوريا إلى بلادهم تمثل التهديد الذي تواجهه البلاد بشكل كبير، وتجعل موسكو تنظر إلى وصول (داعش) المحتمل إلى أفغانستان بقلق بالغ». وأضاف قائلا: «من الواضح أن موسكو تحاول إقامة منصة إقليمية للحيلولة دون امتداد تأثير تزعزع الاستقرار في أفغانستان».
يمكن استشفاف ذلك من الهجمات الإرهابية الأخيرة في أفغانستان، التي أسفر إحداها عن مقتل خمسة دبلوماسيين إماراتيين، لذا حثت روسيا الأطراف المتناحرة في أفغانستان، وبالأساس قادة حركة طالبان، على التخلي عن العنف، والاتجاه فورًا إلى تدشين حوار داخلي أفغاني.
قد تجد الهند نفسها منعزلة إقليميًا، في ظل تعاون روسيا، الدولة الحليفة القديمة، التي غيرت مؤخرًا سياستها تجاه جنوب آسيا بتقربها من باكستان، على غير رغبة الهند، ومع الصين، وباكستان، لإشراك طالبان. وعلق هارش بانت، من مؤسسة «أوبزيرفر ريسرش» بنيودلهي، قائلا: «ما من شك أن الحكومة الأفغانية بقيادة الرئيس أشرف غاني أضعف من أن تؤكد سلطتها في هذه العملية. وقد أرادت الولايات المتحدة ذات يوم التواصل مع حركة طالبان. رغم التهديد بالعزلة، تمسكت الهند بموقفها. تبدو الهند اليوم مرة أخرى في عزلة، وتأمل أن تصغي كل من واشنطن وكابل لنصيحتها بشأن أفغانستان، وأن تقوما بالتصدي للمحور الصيني - الباكستاني - الروسي، الذي يحاول استغلال الواقع الاستراتيجي الإقليمي لخدمة أهدافه قصيرة الأمد. مع ذلك الأمل ليس سياسة، ومن الممكن أن تضطر نيودلهي إلى مراجعة بعض افتراضاتها الأساسية الخاصة بالسياسة الأفغانية قريبًا.
وصرح في كيه سينغ، وزير الخارجية الهندي، لوسائل الإعلام، ردًا على سؤال بشأن المحادثات الثلاثية في موسكو: «لا نعتقد أن عقد اجتماعات بشأن أفغانستان فقط سوف يحل مشكلاتها، ففي النهاية يتعلق الأمر بتحقيق نتائج على أساس يؤمن به الشعب الأفغاني. تاريخ الهند في أفغانستان معروف، ويتحدث عن نفسه، ويوضح مدى قوة علاقتنا».
وتأتي دعوة موسكو بعد سلسلة من الاجتماعات بين مسؤولين بارزين من الجانبين الهندي والروسي استهدفت التخلص من الشوائب التي تسللت إلى العلاقة.
مستشار الأمن القومي أجيت دوفال زار مؤخرا موسكو من أجل إجراء محادثات مع نظيره الروسي، نيكولاي باتروشيف، وكذلك زار أوليغ سيرومولوتوف، نائب وزير الخارجية الروسي، نيودلهي لعقد محادثات خاصة بمكافحة الإرهاب. يقول محللون إنه سيكون من المثير للاهتمام رؤية كيف ستتصرف كل من الهند وباكستان وجهًا لوجه خلال اللقاء المقبل الخاص بأفغانستان في موسكو.
دائمًا ما كانت تتصدى باكستان للدور الهندي في الشؤون الأفغانية. وتعزى هذه المعارضة إلى مخاوف من استخدام أجهزة الاستخبارات الهندية الأراضي الأفغانية في زعزعة استقرار باكستان. على الجانب الآخر، اتهمت نيودلهي إسلام آباد بدعم حركة طالبان أفغانستان من أجل تحقيق مصالحها. بالنظر إلى تعارض الاهتمامات، وكذا التوتر الحالي الذي يشوب العلاقات، من غير الواضح كيف سيحدث تلاق في المواقف بين باكستان والهند فيما يتعلق بقضية أفغانستان، حيث دعت روسيا كلا البلدين للمشاركة في اجتماع الأسبوع المقبل. في الوقت الذي تفضل فيه كل من روسيا، والصين، وباكستان، وإيران، إجراء محادثات مباشرة مع حركة طالبان، تتردد الهند في دعم هذه الخطوة التي من شأنها أن تضفي شرعية على المتمردين.
وقال راجا موهان، مخطط استراتيجي للشؤون الخارجية: «ينبغي أن تتطور سياسة الهند فيما يتعلق بأفغانستان مع تغير الواقع. يجب أن تبدأ الهند في إعادة إنشاء اتصالاتها بالجماعات العرقية المتنوعة في أفغانستان. خلال الأوقات العصيبة يكون من الأفضل أن تحظى بالدعم على الأرض، لا أن تعتمد فقط على الخطابات القائمة على المبدأ، والتي يتم إلقاؤها في المؤتمرات الدولية الخاصة بأفغانستان... وسوف يحدد كيفية تعامل الهند مع هذا التحدي الحجم النهائي لنفوذ الهند في دولة الجوار».
يقول بعض المحللين إن الانخراط الروسي في أفغانستان ما هو إلا محاولة لتقويض الغرب، وتحدي المصالح الجيوسياسية الأميركية بوجه خاص. وكتب الخبير الهندي غولشان ساتشديفا يقول: «يتزامن التحرك الروسي الأفغاني مع خطوات أخرى اتخذها الكرملين في الشرق الأوسط وأوروبا، الذي استهدف تقويض النفوذ الأميركي. إذ تنظر روسيا إلى نفسها الآن كطليعة حركة التحدي العالمي للغرب. ويبدو أن أفغانستان تصبح جبهتها القادمة في محاولة لتقويض الغرب، وبوجه خاص المصالح الجيوسياسية الأميركية. بالنظر إلى حالة عدم اليقين التي تخيم على سياسة دونالد ترمب تجاه أفغانستان، تشعر روسيا أن اللحظة مواتية لتعزيز مكانتها في المنطقة».
المثير للاهتمام هو أن حميد كرزاي، الذي تولى رئاسة حكومة مدعومة من الولايات المتحدة في كابل لأكثر من 12 عامًا، يرى روسيا كقوة قادرة على تحقيق توازن في مواجهة الوجود الأميركي المهيمن في بلده. وقال كرزاي في مقابلة مع صحيفة «وول ستريت جورنال»: «الحقيقة هي أن الوجود الأميركي في أفغانستان لم يحقق لنا الأمن، بل تسبب في زيادة التطرف. يجب أن يكون هناك توازن قوى هنا الآن».
مع ذلك ما تفعله موسكو بإقامتها علاقات مفتوحة مع طالبان هو إقامة صداقة مع ورثة التمرد الذي ألحق بالاتحاد السوفياتي أكبر هزيمة مهينة له، وساعد في وصوله إلى مرحلة الانهيار. الجدير بالذكر أن المتمردين وكثيرا منهم أصوليون إسلاميون كانوا يحظون بدعم الولايات المتحدة، قد طردوا الجيش الأحمر من أفغانستان عام 1989، بعد تسع سنوات من الاحتلال السوفياتي للبلاد.
وصرح البيت الأبيض، خلال الأسبوع الماضي، بأن الرئيس ترمب منفتح على التعاون العسكري مع روسيا في قتال تنظيم داعش. وأوضح كرزاي أن تعهد ترمب بتحسين العلاقات مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أمر مشجع. وقال: «يسرني رؤيته هو وبوتين متفقين، وآمل أن يظل الاثنان أصدقاء، ويتعاونا معًا خصوصا فيما يتعلق بأفغانستان».
روسيا تعود إلى أفغانستان... في دور الوسيط
جبهتها القادمة لتقويض الغرب والمصالح الجيوسياسية الأميركية
روسيا تعود إلى أفغانستان... في دور الوسيط
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة