فيكتور هوغو... ضريبة العبقرية والمجد

أعلن العصيان على نابليون الثالث ونزل إلى الشارع لمقاومة الانقلاب

غلاف الكتاب  -  مشهد من فيلم مستوحى من رواية «البؤساء» التي كتبها هوغو في منفاه الذي استمر عشرين سنة
غلاف الكتاب - مشهد من فيلم مستوحى من رواية «البؤساء» التي كتبها هوغو في منفاه الذي استمر عشرين سنة
TT

فيكتور هوغو... ضريبة العبقرية والمجد

غلاف الكتاب  -  مشهد من فيلم مستوحى من رواية «البؤساء» التي كتبها هوغو في منفاه الذي استمر عشرين سنة
غلاف الكتاب - مشهد من فيلم مستوحى من رواية «البؤساء» التي كتبها هوغو في منفاه الذي استمر عشرين سنة

لا نكشف سرا خطيرا إذا ما قلنا إن فيكتور هوغو هو أشهر شخصية في تاريخ الآداب الفرنسية. فمن هو هذا الشخص الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، كما قيل قديما عن شاعرنا الأعظم المتنبي؟ ولد فيكتور هوغو عام 1802، أي في مطلع القرن التاسع عشر في مدينة بيزانسون الصغيرة الواقعة بالقرب من الحدود السويسرية. وقد زرت منزله آنذاك عندما حطت بي الرحال في تلك المدينة خريف عام 1976، أي فور وصولي إلى فرنسا تقريبا. وكان ذلك بغية تعلم اللغة الفرنسية قبل العودة إلى باريس لتحضير الدكتوراه في السوربون... سقيا لتلك الأيام التي انقرضت ولم ننقرض بعد... كلام فارغ... قالوا لنا بكل افتخار عندما مررنا في الشارع الأساسي وسط المدينة: هنا ولد فيكتور هوغو. فدهشنا. كنا نعتقد أنه ولد في باريس ككل العباقرة! هل يمكن لعبقري أن يولد خارج باريس؟ ولكنه ولد هناك بالصدفة في الواقع لأن والده ليوبولد هوغو كان أحد جنرالات نابليون بونابرت.
وككل العسكريين، فإنه جر عائلته معه على كل دروب فرنسا وأوروبا طبقًا لنزوات الإمبراطور الكبير وحروبه التي لا تنتهي إلا لكي تبدأ من جديد. فالعسكري ليس ملكا لنفسه وإنما لجيشه. ثم انفصلت أمه عن أبيه لاحقا بعد أن اختلفا على الأمور الحياتية والعائلية، وعادت الزوجة مع أطفالها إلى باريس من مدريد، حيث كان يقيم زوجها بصفته مسؤولاً كبيرًا هناك.
وكانت أمه حنونة جدًا وليبرالية؛ ولذلك تربّى فيكتور هوغو في أجواء سعيدة وحرة بفضل هذه الأم الاستثنائية التي لن ينساها أبدا. ومنذ عام 1816، أي عندما كان عمره أربعة عشر عامًا فقط راح فيكتور هوغو يهتم بالأدب شعرًا ونثرًا. وكشف عن نبوغ مبكر وسهولة مدهشة في قرض الشعر. وعندما أحس بكل هذه الطاقات المتفجرة في داخله قال جملته الشهيرة: إما أن أكون شاتوبريان أو اللاشيء! ومعلوم أن شاتوبريان كان أكبر أديب فرنسي في ذلك الوقت. وكان كاتبًا من الطراز الأول، والبعض يعتبره أكبر شاعر في النثر الفرنسي، أو أكبر ناثر في الشعر. وقد فاجأ فيكتور هوغو عائلته عندما قال لهم إنه سيصبح أهم من شاتوبريان أو في مستواه على الأقل. ولم يصدقه أحد. فقد بدا لهم طموحه جنونيا أو مبالغا فيه أكثر من اللزوم.
ولكن المستقبل لم يكذّب نبوءته. فقد استطاع أن يصل إلى مستوى شاتوبريان بل ويتخطاه من خلال أشعاره الخالدة ورواياته التي لا تقل خلودًا، وبخاصة: رواية «البؤساء». ومعلوم أنها ترجمت إلى جميع لغات العالم، وأخرجت سينمائيًا ومسرحيًا مئات المرات. لكن لنعد إلى فيكتور هوغو الشاب أو المراهق من حيث قطعناه. ففي عام 1817، أي في الخامسة عشرة، كاد أن ينال جائزة الأكاديمية الفرنسية بفضل فصاحته وبلاغته في الكتابة. وهكذا تفتحت مواهبه مبكرًا. وفي عام 1819 خطب فتاة تدعى آديل فوشيه، وكانت رفيقة طفولته؛ لأن عائلتها كانت تسكن بجوار عائلته. وفي العام التالي نال راتبًا سنويًا من ملك فرنسا لويس الثامن عشر بعد أن نشر إحدى قصائده التي أعجبت الملك. وهكذا أمَن حياته ومورد رزقه في سن مبكرة جدا، وأصبح أحد شعراء البلاط.
وبين عامي 1822 و1850 ابتدأ صعود فيكتور هوغو نحو المجد. ولكن هناك قصة مأساوية نادرًا ما ينتبه إليها أحد، ألا وهي: أن أخاه الشقيق كان يحب ذات الفتاة التي خطبها أخوه! وعندما تزوجها فيكتور هوغو أصيب أخوه بالصرع، ثم الجنون. ولذلك؛ فقد سجنوه في المصح العقلي حتى مات. والسؤال المطروح هنا هو التالي: هل أثرت هذه القصة العائلية، أو هذه الفجيعة بالأحرى، على شخصية فيكتور هوغو؟ ألم تجعله يشعر بالخطيئة والذنب؟ لا يبدو ذلك واردا. فشخصية شاعر فرنسا الأكبر تبدو قوية جدا. ولكن هناك سؤالا آخر يطرح نفسه: لو أنه تخلى عن محبوبته لأخيه الذي كان مولهًا بها، أما كان قد أنقذه من الجنون؟ لماذا ضرب عرض الحائط بمشاعر أخيه؟ لماذا قهره وتغلب عليه بهذا الشكل؟ أسئلة كثيرة لا نجد جوابًا شافيًا عليها. ولكن لن تكون هذه أول فجيعة عائلية في حياة الشاعر الكبير، وإنما ستليها فجائع وجروح أخرى كثيرة. وفي عام 1825 أسس فيكتور هوغو أول حلقة رومانتيكية في فرنسا. ومعلوم أن الرومانتيكية كانت قد ظهرت في ألمانيا أولا، ثم في إنجلترا قبل أن تنتقل إلى فرنسا. وراح يكتب المسرحيات والأشعار التي تمشي في هذا الاتجاه، وتبتعد عن المدرسة الكلاسيكية في الأدب والتعبير. وفي مقدمة مسرحيته التي اتخذت عنوان «كرومويل» كتب فيكتور هوغو أول بيان للأدب الرومانتيكي في اللغة الفرنسية.
وفي عام 1830، أي في الثامنة والعشرين من عمره، أصبح فيكتور هوغو الزعيم المتوج للحركة الأدبية الجديدة بعد أن حصلت معركة كبيرة أمام المسرح الفرنسي بين أتباع الكلاسيكية وأتباع الروماتيكية. وانتصر التيار الثاني الذي كان يمثل الشبيبة والتجديد وروح العصر وحركة التاريخ. وقد اشتهرت هذه المعركة في تاريخ الآداب الفرنسية باسم «معركة هيرناني»: أي المعركة التي دارت حول المسرحية التي كتبها فيكتور هوغو تحت هذا الاسم. وهكذا بدا هذا الشاعر وكأنه حامل لواء التجديد في وجه خصومه من المحافظين والرجعيين من الناحية الأدبية... وفي عام 1831، أي في التاسعة والعشرين من عمره، نشر فيكتور هوغو أول رواية تاريخية له باسم: نوتردام باريس، أي كاتدرائية باريس. وفي العام ذاته نشر أيضا مجموعة شعرية بعنوان «أوراق الخريف»، وهو عنوان روماتيكي بامتياز كان لامارتين قد استخدمه كثيرًا أيضا في أشعاره. وهو من مجايلي فيكتور هوغو، أو أكبر منه بقليل. ومعلوم أن سقوط أوراق الشجر في فصل الخريف يثير أحزان الشعراء ويلهبهم حماسة لكتابة القصائد الشجية. وبالتالي، فالخريف روماتيكي أكثر من بقية الفصول. وعندما منعت الرقابة إحدى مسرحياته عام 1832 غضب الشاعر كثيرًا وألقى خطابًا مهمًا عن حرية التعبير أمام جمهور غفير. وقد صفقوا له طويلاً. وكانت تلك بداية نضاله من أجل نيل حرية التعبير والتفكير في فرنسا. وسيكون الطريق إليها طويلاً. وفي عام 1833 حصل له لقاء مع امرأة تدعى: جولييت درويه. وستصبح عشيقته، بل وأقرب إليه من امرأته الشرعية. وقد رافقته طيلة حياته كلها ولعبت دورًا كبيرًا في حمايته والدفاع عنه والتأثير عليه. بل ونجّته من محاولة اغتيال شبه مؤكدة. وكانت في الأصل ممثلة على خشبة المسرح. ولكنها تخلت عن فنها ومهنتها وكل مشاريعها لكي تكرس نفسها له، وله وحده. فقد عرفت منذ البداية بأنه عبقري وأنه في حاجة إلى امرأة من نوعيتها لكي تتفتح عبقريته. وقد كتب لها آلاف الرسائل على مدار خمسين سنة من حياتهما المشتركة. ثم نشرت هذه الرسائل في مجلدات بعد موتهما.
وفي عام 1836 رشح فيكتور هوغو نفسه للأكاديمية الفرنسية، لكنها رفضته وفضّلت عليه كاتبًا يدعى «دوباتي»، ثم كاتبًا آخر يدعى «مينيه». فهل سمع أحد بهذين الاسمين يا ترى؟ هل يعنيان لكم شيئا؟ ولكننا نعلم أن الأكاديمية الفرنسية رفضت أيضًا شارل بودلير، وبلزاك، وفلوبير، وعشرات الكتاب الآخرين الذين أصبحوا مجد فرنسا الأدبي لاحقًا. وبالتالي، فلا ينبغي أن يحزن فيكتور هوغو كثيرًا لهذا الرفض. نقول ذلك وبخاصة أنها عادت وقبلته لاحقًا بعد أن فشل ثلاث مرات في الدخول إليها. لقد قبلته أخيرًا مع المحاولة الرابعة عام 1841. وفي عام 1848 دخل شاعر فرنسا الكبير معترك السياسة لأول مرة، حيث انتخبوه نائبا عن باريس. وألقى أول خطاب سياسي له في البرلمان الفرنسي، داعما ترشيح نابليون الثالث إلى رئاسة الجمهورية الفرنسية، وهو دعم سيندم عليه لاحقًا أشد الندم. ثم بعد ذلك بعام واحد حصل تحول خطير في حياة فيكتور هوغو؛ فقد انتقل فجأة من جهة السلطة إلى جهة المعارضة، أو من جهة اليمين البورجوازي إلى جهة اليسار العمالي. ففي السابق كان دائما مدللا من قبل السلطة، وكان يحظى بالرواتب الملكية والأوسمة والهدايا، أما الآن فقد انتقل إلى جهة الشعب بعد أن شاهد أحوال المصانع والعمال البؤساء في الشمال الفرنسي. لقد رأى الفقر المدقع لأول مرة بأم عينيه، فقر لا يحتمل ولا يطاق. وصعقه الأمر؛ لأنه لم يكن يعرف حقيقة الوضع قبل ذلك، كان يعيش في الأجواء المترفة والقصور. ولهذا السبب غيّر موقفه من زعيم اليمين الفرنسي نابليون الثالث، ابن أخ نابليون الحقيقي، ووقف في وجهه مصرحا بأنه طاغية، الشيء الذي اضطره إلى الهرب إلى بلجيكا لفترة قصيرة.
وهكذا أثبت فيكتور هوغو أنه ليس شاعرًا ذاتيا أو رومانتيكيا فقط، وإنما رجل سياسي منخرط في هموم عصره وقضاياه. إنه مفكر بقدر ما هو شاعر، ونظري بقدر ما هو عملي. بدءا من تلك اللحظة ستتشكل شخصية فيكتور هوغو التي نعرفها: أي شخصية رجل التنوير الأول في عصره، شخصية الرجل المدافع عن قضايا الشعب وضرورة تثقيفه وتعليمه ورفع مستواه. وهذا ما سيشكل عظمته لاحقا، حيث جمع المجد من كل أطرافه: أي مجد التجديد الأدبي والشعري، ومجد النضال السياسي والفكري، ومجد النضال من أجل الحريات الحديثة وحقوق الإنسان. ولهذا السبب احتل مكانة في تاريخ فرنسا لم يحتلها أي أديب آخر باستثناء فولتير وجان بول سارتر. وفي عام 1850 ألقى خطابًا شهيرًا في الجمعية الوطنية الفرنسية (أي البرلمان) عن حرية التعليم، وحرية الصحافة، وضرورة إعطاء حرية التصويت للشعب ككل، وليس فقط للأعيان والنخب القائدة والطبقة البورجوازية. وراح يدافع عن الشعب في كل مكان. وفي عام 1851 عندما عرف أن الديكتاتورية ستنتصر في فرنسا، وأنها ستتجسد في شخص نابليون الثالث الذي قام بانقلابه الشهير على النظام الجمهوري أعلن العصيان ونزل إلى الشارع لمقاومة الانقلاب. وكاد أن يُقتل في إحدى المرات لولا أن عشيقته جولييت دروو مع بعض الأصدقاء المخلصين كانوا يسهرون عليه فهرَّبوه سرًا إلى خارج البلاد؛ لكي لا يحصل له أي مكروه. وكان ذلك بواسطة جواز سفر مزور. وهكذا، ابتدأت حياة المنفى لفيكتور هوغو، وهي حياة ستستمر نحو العشرين سنة. وفي أثنائها كتب أجمل قصائده ومؤلفاته. وفيها أيضًا أنجز روايته الخالدة «البؤساء». وبالتالي فلم يكن منفاه عقيمًا ولا سلبيًا، على العكس.
ولكن بعد سقوط الإمبراطور الديكتاتور عاد فيكتور هوغو إلى فرنسا عودة الأبطال، حيث استُقبل بشكل جماهيري وشعبي في العاصمة الفرنسية. وكانت تلك بداية أسطورته. ولكن القدر الذي خلع عليه، كل هذه الأمجاد وجّه له ضربات موجعة أيضًا. فقد مات ابنه البكر في عز الشباب، ولحقه الابن الثاني. وهذا يعني أنه دفن ولديه حيا بدلا من أن يدفناه. وأصيبت ابنته الثانية بالجنون، وماتت ابنته الأولى غرقا وهي في التاسعة عشرة فقط. بل ومات زوجها الشاب معها لأنه حاول إنقاذها فلم يفلح. وكان ذلك مؤثرا جدا.
فقد كان بإمكانه أن يبقى على قيد الحياة ولا يخاطر بنفسه. ولكنه فضّل أن يموت معها على أن يبقى حيا بعدها. هذه القصة دمرت فيكتور هوغو، صعقته صعقا. وقد انعكس ذلك على أشعاره وكتاباته بكل قوة وراح يتفجع عليها تفجعا. وكل هذه الجراحات، أو ضربات القدر، ستنعكس على أشعاره وكتاباته اللاحقة. وبالتالي، فلم يكن سعيدا إلى الحد الذي نتصوره. صحيح أن فرنسا كلها صفقت له. صحيح أنه حظي بنجاح أدبي لم يسبق له مثيل. ولكنه دفع ثمن شهرته وأمجاده غاليًا.



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!