شهدت السياسة البريطانية هذا الأسبوع أبرز تطوّر هز أروقة ويستمنستر منذ زلزال 23 يونيو (حزيران) 2016 الذي صوت خلاله 17 مليون بريطاني لصالح خروج بلادهم من الاتحاد الأوروبي. وفي تجلّ واضح للقيم الديمقراطية البريطانية، رضخت حكومة تيريزا ماي المحافظة لقرار المحكمة العليا بالحصول على موافقة غرفتي البرلمان قبل تفعيل المادة 50 من معاهدة لشبونة التي تتيح لها التخلي عن عضويتها الأوروبية. وجاء قرار المحكمة العليا في لندن نتيجة استئناف الحكومة قرار محكمة جاء لصالح قضية رفعها مواطنون طالبوا بتكريس حق النواب في توجيه مفاوضات الخروج. ومن أبرز هؤلاء المواطنين جينا ميلر، التي أصبح البعض يعتبرها «بطلاً وطنيًا»، بينما يزعم البعض الآخر أنها تسعى لتعطيل إرادة الشعب وعرقلة عملية الخروج من الاتحاد الأوروبي.
جينا ميلر (51 سنة) مديرة استثمار وفاعلة في الأعمال الخيرية، اسمها الأصلي جينا ناديرا سينغ، وهي سيدة أعمال تتحدر من أصول هندية من مواليد غيانا بأميركا الجنوبية. ونشأت جينا في أسرة مرموقة محليًا، إذ كان أبوها دودناوث سينغ نائبا في البرلمان ونائبا عامًا ووزيرا للشؤون القانونية في غيانا بعد استقلالها عن التاج البريطاني.
في سن العشرة أرسلها والدها مع شقيقها للدراسة في بريطانيا والعيش في مدينة إيستبورن على الساحل الجنوبي لمحافظة ساسكس الشرقية بجنوب إنجلترا. وهناك تلقت تعليمها في مدرسة مويرا هاوس للفتيات بإيستبورن، قبل أن تدرس الحقوق مؤقتًا في بوليتكنيك شرق لندن (جامعة شرق لندن حاليًا). غير أنها قطعت دراستها وعادت إلى غيانا بناءً على رغبة ذويها. لكنها عادت فيما بعد إلى بريطانيا ودرست التسويق في جامعة لندن حيث تخرجت، ثم حصلت على درجة الماجستير منها.
وخلال مقابلة مع مجلة «فوغ» تتذكر ميلر عملها الأول في الفنادق المحلية في وظيفة خادمة الغرف أو في مهام التنظيف في بعض المطاعم. بينما كان شقيقها يعمل في توزيع الجرائد وغسيل الصحون في المطابخ لأنها لم يكن مسموحًا يومذاك للوالدين بإرسال الأموال إلى المملكة المتحدة. وقالت ميلر في المقابلة «في حين أننا افتقدنا والدينا كثيرا، وكان من الصعب المزج بين حياتنا المنزلية والفروض والواجبات المنزلية والمدرسة، فإن هذه الصعوبات هي السبب فيما وصلنا إليه اليوم».
وفي لقاء مع هيئة الإذاعة البريطانية الـ(بي بي سي) أشارت إلى جوانب من حياتها الشخصية، فقالت: إنها تزوجت لأول مرة – من أصل ثلاث زيجات – عند بلوغها العشرين من عمرها، وأنجبت ابنة (واحدة من 3 أولاد رزقت بهم) تعاني من صعوبات كبيرة في التعلم، كما قالت في لقاء صحافي آخر تناولت فيها حياتها الشخصية مع صحيفة «الميل» البريطانية، غير أنها تابعت القول: إن لدى ابنتها «ذكاء عاطفيًا مدهشًا»، وإنها مصدر الإلهام الرئيسي في حياتها.
العمل التجاري
انخرطت ميلر في العمل التجاري، عندما أسست أول شركة تسويق خاصة بها في بدايات عقد التسعينات، وما لبثت أن حصلت على الطلاق من زوجها، ثم تزوجت من المموّل جون ماغواير. ولكن زواجها بماغواير لم يستمر طويلاً فانفصلا في عام 2002، وكان ماغواير من أنصار اليمين الراديكالي في بريطانيا ومن أشد المعارضين للاتحاد الأوروبي. ثم جاء زواجها الثالث بآلان ميلر مدير أحد صناديق التحوّط، في عام 2005 وأنجبت منه طفلين.
واشتهرت ميلر بحملتها من أجل تحقيق الشفافية في صناديق الاستثمار وصناديق التقاعد. وفي عام 2009، شاركت في تأسيس شركة «إس سي إم» الاستثمارية الخاصة ودشنت مؤسسة «العدل والإنصاف»، التي كانت معروفة من قبل باسم جمعية ميلر الخيرية، وذلك بمشاركة من زوجها الأخير.
ووفق موقع المؤسسة، فإنها تعمل على دعم الجمعيات الخيرية الصغيرة من خلال توفير التمويل والدعم. وتشير سجلات لجنة الجمعيات الخيرية أن المؤسسة أنفقت مبلغ 135.982 جنيه إسترليني على الأعمال الخيرية في عام 2015. وبدأت ميلر أيضا في حملة جديدة عبر المؤسسة في عام 2012، وهي حملة ضد الاتهامات بسوء البيع والتمويلات المخفية في صناعة إدارة الصناديق في حي «السيتي» مقر المال والأعمال بلندن.
ووفقا للمقابلة الشخصية التي أجرتها مع صحيفة «الفايننشيال تايمز» في أبريل (نيسان) من العام الماضي، فإن هذه الحملة دفعت بعض شخصيات الصناعة إلى وصفها بـ«عنكبوت الأرملة السوداء» وهو من الحشرات السامة. وفي معرض حديثها حول تلك الحملة قالت: إنها سألت ثلاثة من الرجال في احتفالية خاصة بالصناعة لماذا كانوا يحدقون النظر إليها، كما قالت للصحيفة «فأجاب أحدهم قائلا لها إنها ليست إلا وصمة عار على الصناعة، وإن جهود الحملة التي خاضتها سوف تؤدي إلى انهيار حي المال بأكمله».
القضية ضد «بريكست»
وفي يوليو (تموز) من العام الماضي، أطلقت ميلر إلى جانب مصفّف الشعر الإسباني دير توزيتي دوس سانتوس ومنظمة «تحدي الناس» دعوى قضائية ضد الحكومة البريطانية المحافظة، لمطالبتها بالحصول على موافقة البرلمان قبل تفعيل الخروج من الاتحاد الأوروبي، باعتبار أن الاستفتاء ليس ملزمًا من الناحية القانونية. وفي إطار الإجراءات القانونية التي قادتها شركة «ميشكون دي رايا» القانونية المرموقة في لندن بحق الحكومة البريطانية لضمان طرح الخروج من الاتحاد الأوروبي على البرلمان قبل تنفيذه، قال إيفو إليك جبارة، المتحدث باسم المدعية الرئيسية في تصريحات سابقة لـ«الشرق الأوسط»، إن القضية طرحت على المحكمة العليا في لندن منتصف يوليو الماضي. وأقرت الأخيرة بمشروعية الدعوى، وحددت جلسة جديدة في المنتصف الثاني من أكتوبر (تشرين الأول).
وأوضح جبارة، وهو المتحدث الرسمي باسم جينا ميلر المدعية الرئيسية في القضية المرفوعة ضد الحكومة البريطانية، أنه تم رفع سبع دعاوى قضائية على الأقل، من طرف شركة «ميشكون دي رايا»، لإجبار الحكومة على قبول فكرة ترك القرار للبرلمان لتحديد ما إذا كانت بريطانيا ستُفعِل المادة 50 من معاهدة لشبونة أم لا، بدلا من ترك الأمر لرئيسة الوزراء. وعينت المحكمة ميلر، كمدعية رئيسية، لينطبق الحكم النهائي في القضية على الدعاوى الست الأخرى المشابهة.
وعن هدف القضية التي رفعتها ميلر، أوضح جبارة أن الأخيرة مواطنة بريطانية تسعى إلى ضمان تطبيق الديمقراطية والقانون، وإعطاء البرلمان جل صلاحياته المشروعة، مؤكدا أن الحكومة أفادت بعد الجلسة الأولى في المحكمة أنها تأخذ القضية بعين الاعتبار.
وفي حال لم تستجب الحكومة لمطالب ميلر ورفضت مصادقة البرلمان على المادة 50 قبل تفعيلها، قال جبارة إن المحكمة العليا في المملكة المتحدة ستنظر في القضية في شهر ديسمبر (كانون الأول) ومن ثم صدر قرار المحكمة في لندن لصالح المدعين، لتقدم الحكومة استئنافا لدى المحكمة العليا.
نكسة للحكومة
بعدها تعرضت حكومة تيريزا ماي إلى انتكاسة ثانية الثلاثاء الماضي، إذ صدر قرار المحكمة العليا قاطعا مؤكدا حق البرلمان بغرفتيه النظر في تفعيل المادة 50 والموافقة على المفاوضات مع بروكسل. وفي وثيقة من 96 صفحة، أعلن رئيس المحكمة العليا ديفيد نوبيرغر أنه «بغالبية 8 ضد 3 أصوات، قضت المحكمة العليا بأن الحكومة لا يمكنها تفعيل المادة 50 (من معاهدة لشبونة) دون قانون يصوت عليه البرلمان يسمح لها بذلك».
وعن تداعيات هذا القرار، قال روب موراي، المحامي في شركة «ميشكون دي رايا» لـ«الشرق الأوسط» هذا الأسبوع، إن البرلمان يتمتع بالسيادة، ويتمتع بالصلاحيات القانونية للتصويت ضد تفعيل المادة 50، وتابع: «إذا صوت البرلمان ضد مشروع قانون يتيح للحكومة تفعيل المادة 50، فإن التفعيل لن يتم، مما يعني أنها لن تستطيع الانخراط في مفاوضات للخروج من الاتحاد الأوروبي، وبريطانيا ستبقى جزءا منه».
وفي حين لا يتوقع المراقبون أن يعرقل البرلمان تفعيل عملية الخروج، فإنه سيتدخل حتمًا في سير المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي لضمان مصالح المواطنين في مختلف أنحاء البلاد. ولا ينتظر أن تواجه رئيسة الحكومة المحافظة صعوبة في دفع البرلمان إلى التصويت على بدء المفاوضات، إذ إن حزب العمال (أكبر أحزاب المعارضة) قد وعد بألا يعرقل ذلك. وأوضح موراي بهذا الصدد أن البرلمان قادر على مراقبة وفرض قيود على الحكومة، في إطار تسييرها للمفاوضات، إلا أن ماي ووزراءها يتوقعون من النواب ألا يعرقلوا خططها.
أما من جانب الحكومة، فقد كان رد الفعل المباشر تأكيدا على أن القرار لن يغير الجدول الذي أعلنت عنه رئيستها ماي بتفعيل إجراءات الخروج بحلول نهاية مارس (آذار) المقبل. وقال المتحدث باسم الحكومة، في بيان، إن «البريطانيين صوتوا للانسحاب من الاتحاد الأوروبي، والحكومة ستحقق لهم ذلك، من خلال تفعيل المادة 50 (من معاهدة لشبونة) قبل نهاية مارس، مثلما هو مقرر. وحكم اليوم (الثلاثاء الماضي) لن يغير شيئا من ذلك».
وخلال الأيام القليلة الماضية، مثل ديفيد ديفيس، الوزير المكلف بشؤون «بريكست» أمام النواب البريطانيين للإجابة عن أسئلتهم، مؤكًدا أن الحكومة ستقدم للبرلمان «في الأيام القريبة المقبلة» مشروع قانون «مبسط» لإطلاق عملية الخروج من الاتحاد الأوروبي، أو ما يعرف بـ«الورقة البيضاء». وفي حين واجه ديفيس أسئلة ساخنة من طرف النواب، أوضح أن الحكومة لن تكشف كل أوراقها «للحفاظ على موقف قوي خلال المفاوضات» مع الاتحاد الأوروبي.
وأضاف الوزير أمام النواب أن مشروع القانون «سيتم تبنيه في الوقت المناسب» لتفعيل المادة 50 من معاهدة الاتحاد الأوروبي قبل 30 مارس 2017، وتابع ديفيس أنه ينتظر من غرفتي البرلمان التصويت لصالح مشروع قانون تفعيل المادة 50، مشدًدا على أن قرار الخروج من الاتحاد الأوروبي اتخذ في 23 يونيو من العام الماضي، ولا رجعة فيه. كما أوضح أن مشروع قانون آخر سيقدم في الأشهر المقبلة لإلغاء القانون الذي وافق عليه البرلمان البريطاني عام 1972 بهدف الانضمام إلى اتحاد بروكسل.
وقال ديفيس «أنا على يقين بأنه لا أحد يسعى (لاستخدام مشروع القانون) لمحاولة المضي ضد إرادة البريطانيين أو تأخير العملية»، وأكد أنه «لا يمكن العودة إلى الوراء... إن عتبة اللاعودة تم اجتيازها في 23 يونيو الماضي».
على صعيد آخر، لم يكن قرار المحكمة العليا لصالح دعوى جينا ميلر مخيًبا لآمال حكومة ماي فحسب، إذ إنه لم يكن في صالح نيكولا ستورجن، رئيسة حكومة اسكوتلندا، كذلك، وهي التي صوتت منطقتها للبقاء في الاتحاد الأوروبي. إذ أجمع القضاة الـ11 في المحكمة على أنه من غير الضروري استشارة البرلمانات المحلية لاسكوتلندا وويلز وآيرلندا الشمالية. وأكدت ستورجن، التي لوحت في السابق بتقديم مشروع قرار لتنظيم استفتاء جديد لاستقلال اسكوتلندا، أنها ستقدم مذكرة تشريعية لتضمن «منح برلمان اسكوتلندا فرصة التصويت» لتفعيل المادة 50. وفي هذا السياق، أوضح المحامي روب موراي أن «سيادة» البرلمانات المحلية لاسكوتلندا وويلز وآيرلندا الشمالية لم تتأثر بقرار المحكمة العليا، إذ إن سلطاتها لا ترتقي إلى علاقات المملكة المتحدة الخارجية، بما فيها علاقتها بالاتحاد الأوروبي.