على وقع تراجعه في مدينة الموصل العراقية بدأ تنظيم داعش معركته «المصيرية» في دير الزور، كبرى مدن شرق سوريا، قبل نحو أسبوع في هجوم وصف بـ«الأعنف» منذ نحو سنة. وفي حين استطاع التنظيم الإرهابي التضييق على معاقل النظام السوري في دير الزور، ولا سيما على المطار العسكري، فإن خسارة هذه المنطقة التي يصفها «داعش» بـ«ولاية الخير» قد تترك آثارها السياسية على النظام قبل أيام قليلة من «مؤتمر آستانة»، وبعد أسابيع على ما اعتبره «انتصارًا» له في مدينة حلب.
رأت صحيفة «وول ستريت جورنال» اﻷميركية أن نجاح «داعش» خلال أيام في قطع خطوط إمداد النظام السوري في المنطقة الشرقية الغنية بالنفط في سوريا، وعزل المطار العسكري في مدينة دير الزور عن باقي أحياء المدينة، يمثل ضغطا جديدا على النظام و«إعادة الحياة» للتنظيم الذي يحتضر في أماكن أخرى في الوطن العربي. وهذه المعركة «المؤجلة» وضعت النظام الذي يوزّع «جهوده العسكرية» على أكثر من جبهة، أمام مأزق جديد ما جعله يطلب المساعدة من أهالي المنطقة، في وقت يعتمد التنظيم بشكل أساسي على إرسال انغماسيين في الهجمات التي يشنها من محاور عدة، وفق المرصد السوري لحقوق الإنسان.
* دخول «حزب الله»
في المقابل، استنفر حلفاء النظام في الساعات الأخيرة لمؤازرته في دير الزور، وسجّل دخول لافت لما يسمى «حزب الله» اللبناني على الخط في موازاة تكثيف القصف الروسي، لا سيّما بعدما بات التنظيم قاب قوسين من الدخول إلى المطار العسكري. وأفادت وكالة «آكي» الإيطالية بإرسال ما يسمى «حزب الله» «تعزيزات من محيط حلب ومن مناطق أخرى، إلى محيط المطار لتمنع سقوطه»، متحدثة عن «تقدم داعش في عدة أحياء، ومحاصرة بعضها، وقطع الطريق باتجاه المطار العسكري»، وبحسب الخبير العسكري اللبناني، العميد المتقاعد خليل الحلو، هناك احتمالات، عدّة تقف خلف هجوم «داعش» على دير الزور في هذه المرحلة. ويشرح الحلو لـ«الشرق الأوسط» خلال لقاء معه «هذه المنطقة استراتيجية بالنسبة إلى التنظيم، لكون الصحراء السورية الشرقية نقطة وسطية بين الموصل والرقة. وبالتالي قد يهدف إلى تحويلها لعاصمته البديلة بعد خسارة الموصل، وحيوية بالنسبة إلى النظام الذي يدير فيها القاعدة الجوية في المطار العسكري حيث يتواجد أيضا مراكز للحرس الجمهوري والدفاع الشعبي وميليشيات أخرى تقاتل إلى جانبه في دير الزور، من هنا يأتي استهداف التنظيم للمطار بالدرجة الأولى لقطع الإمدادات التي تتم عبره، وقد أدى القصف المكثف عليه إلى توقفه عن العمل».
من جهته، يصف الخبير الاستراتيجي الدكتور سامي نادر منطقة دير الزور بـ«الأساسية» في موقعها على الحدود العراقية، لا سيما أنّها لم تحسم لغاية الآن كمنطقة نفوذ. ويوضح نادر في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أنه «بالنسبة إلى إيران يبقى همّها الاستراتيجي الأول هو تأمين الحدود بين العراق وسوريا لتكون منطقة خاضعة لنفوذها، لكن في المقابل هذا الأمر يتضارب بالتأكيد مع مصالح روسيا الاستراتيجية ويصطدم أيضا برفض تركيا، وتحديدا لجهة إقامة (الهلال الشيعي) وهو ما قد يحول دون تحقيق أهداف طهران». ومن هنا يؤكد أن الأهم في هذا الأمر وأمام ما يعتبره انحسارا للتنظيم في المرحلة الأخيرة، يبقى ما هي الجهة التي ستتولى إخراج التنظيم من المناطق التي يسيطر عليها ومن ثم ملء الفراغ مكانه.
* الهجوم الأعنف
لقد تمكن التنظيم الذي بدأ السبت الماضي هجوما هو «الأعنف» على دير الزور منذ سنة، من فصل مناطق سيطرة قوات النظام في المدينة إلى جزأين وعزل المطار العسكري عن المدينة. ويعد المطار العسكري أيضا المتنفس الوحيد الذي كان متبقيا لقوات النظام وتحصل عبره على الإمدادات العسكرية والمستلزمات والمساعدات الغذائية. وأشار «المرصد السوري لحقوق الإنسان» إلى أنه بعد تمكّن «داعش» من عزل المطار العسكري عن المدينة، استقدم النظام تعزيزات عسكرية جوا إلى دير الزور ودعا سكان المدينة إلى المشاركة في القتال على الجبهات الرئيسية رغم أن بعضهم لم يخضع لأي تدريبات عسكرية.
ونتيجة المعارك العنيفة أعلن برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة عن إيقافه مؤقتًا إنزال مساعدات الإمدادات الحيوية جوًا إلى دير الزور، بعدما كان منذ أبريل (نيسان) 2016 يقوم بإلقاء مساعدات جوًا إلى السكان المحاصرين في المناطق تحت سيطرة النظام والذين يقدر عددهم بمائة ألف، وفق الأمم المتحدة.
من ناحية ثانية، وصف قائد عسكري رفيع المستوى من النظام لـ«وكالة الأنباء الألمانية» الوضع الميداني في مدينة دير الزور «بأنه صعب للغاية»، مشيرًا إلى أن «قوات الجيش السوري وقوات العشائر ما زالوا يقاتلون على محاور الاشتباك تحت تغطية نارية من الطائرات الحربية السورية والطيران الروسي». وأشار المصدر إلى صعوبة استخدام مطار دير الزور، وانطلاق الطائرات الحربية والمروحية لمساندة «القوات العاملة على الأرض بعد سيطرة التنظيم على جبل الثردة».
* تداعيات تحرير الموصل
ورغم استمرار المعارك في الموصل، يرى الحلو أن الوقائع العسكرية تشير إلى أن المدينة تتجه نحو السقوط لكن ليس خلال وقت قصير، إذ أنه لا يزال هناك مساحة كبيرة لإكمال السيطرة عليها، مضيفا: «وهذا الأمر لا يغيب طبعا عن داعش الذي لا يجد أمامه إلا دير الزور للجوء إليها عند انسحابه من العراق. وهي تفي بغرضه لجهة بعدها عن خطر الهجوم عليها من قبل قوات النظام السوري، وعن الموصل ونينوى من جهة العراق، في حين لا يسمح الواقع الجغرافي للأكراد بالهجوم عليه وإن كانوا لا يبعدون عنه أكثر من 60 كيلومترا».
وبينما يرى الخبير العسكري اللبناني أن فشل التنظيم في السيطرة على دير الزور سيعني تسريعا في العدّ العكسي لنهايته كـ«دولة» (مزعومة)، فإنه يؤكد أن سقوطها يعني نجاح «داعش» في حماية نفسه لفترة طويلة قد تمتد لسنتين، وهو ما سيكون خسارة معنوية كبيرة بالنسبة إلى النظام الذي لا يزال يتباهى بما اعتبره انتصارا في حلب، مضيفا: «وهذا أيضا سيؤدي إلى استفادة داعش من القوى العسكرية التابعة له في المنطقة على جبهات أخرى، ليعزّز بها مواقعه في الرقة والباب التي يواجه فيها أيضا معركة كبيرة».
وفي ظل غموض خطط الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب في سوريا، يرى الحلو أن التدخّل الأميركي، إذا اتخذ قرار بذلك، من شأنه أن يقلب الموازين، مضيفا: «لكن لغاية الآن الأمور لا تزال غامضة وتدخّل أميركا يحتاج في المقابل إلى ثمن سياسي». ومن جهته، يرى نادر، أنّ دير الزور ستكون المعركة المقبلة بعد الموصل، وإن كان التنظيم يحاول في هذه المرحلة الاستماتة للسيطرة عليها. ويضيف «لا بدّ من الانتظار أن توضّح الخطة الأميركية الجديدة في سوريا، وإن كان لافتا مشاركة طائرات التحالف في المعركة الأخيرة إلى جانب روسيا»، ويرى أن دير الزور هي آخر حلقة في الحرب على التنظيم، وتضاهي أهميتها أهمية الرقة وتشبه مدينة تلعفر العراقية المعبر الأساسي الذي كان يستخدمه «داعش» للتنقل بين سوريا والعراق.
* الوضع الحالي
يسيطر «داعش» منذ العام 2014 على أكثر من ستين في المائة من مدينة دير الزور ويحاصرها بشكل مطبق منذ مطلع العام 2015، لتصبح بذلك المدينة الوحيدة التي يحاصر فيها التنظيم قوات النظام. ولقد أفادت دراسة نشرتها يوم أول من أمس الخميس، مؤسسة «إي إتش إس ماركيت» البريطانية للأبحاث أن تنظيم داعش خسر في 2016 نحو ربع (23 في المائة) مساحة الأراضي التي كانت خاضعة لسيطرته في سوريا والعراق، في تراجع قالت: إنه قد يهدد «ترابطه». وقالت المؤسسة إنه في العام 2016 تراجعت مساحة «دولة الخلافة» المزعومة التي أعلنها التنظيم الإرهابي في هذين البلدين من 78 ألف كلم مربع إلى 60 ألفا و400 كلم مربع، أي ما يعادل تقريبا مساحة كوريا الشمالية. وكانت مساحة الأراضي الخاضعة لسيطرته تراجعت في 2015 بنسبة 14 في المائة (من 90 ألفا و800 كلم مربع إلى 78 ألف كلم مربع).
وقال المحلل في المؤسسة كولومب ستراك في الدراسة إن التنظيم «عانى في 2016 من خسائر لا سابق لها في الأراضي ولا سيما في مناطق جوهرية لمشروعه للحكم». ومني التنظيم بهذا التراجع «على الرغم من سيطرته في ديسمبر (كانون الأول) مجددا على تدمر» المدينة الأثرية السورية المدرجة على قائمة اليونيسكو للتراث العالمي إثر هجوم مضاد خاطف. ويذكر أن من أبرز المدن التي خسرها التنظيم في 2016 دابق ومنبج في سوريا والرمادي والفلوجة في العراق.
ورأت الدراسة أن خسارة هذه الأراضي أدت إلى انشقاقات في صفوف عناصره بشأن كيفية الرد على هذه الهزائم الأمر الذي يهدد ترابط التنظيم. وفيما يتعلق بمدينة الموصل، آخر معقل رئيسي للتنظيم في العراق، اعتبرت الدراسة أن القوات العراقية يمكن أن تستعيد المدينة بالكامل «قبل النصف الثاني من العام». أما بالنسبة إلى دحر التنظيم من مدينة الرقّة، معقله الأساسي في سوريا، فمهمة تبدو أصعب بكثير من مهمة دحره من الموصل، لأن هذه المدينة تمثل «قلب تنظيم داعش».
وكانت المعارضة منذ بدء الأزمة السورية، قد خاضت معارك شرسة في دير الزور كادت تؤدي إلى طرده منها، إلى أن بدأت الاشتباكات بين عناصر «داعش» من جهة، و«جبهة أحرار الشام» و«جبهة النصرة» والجيش السوري الحر من جهة أخرى، وتمكّن التنظيم في 20 يوليو (تموز) 2014، من السيطرة على دير الزور، وطرد الفصائل العسكرية منها. وبعد سيطرة التنظيم على دير الزور قام بهدم المعالم والمزارات ومنع عمل المجالس المحلية والجمعيات الإغاثية والإعلامية باستثناء تلك التي تعمل تحت إشرافه مهددًا من لم يلتزم بتعليماته بالقتل والسجن.
* الثروة النفطية
وبحسب تقرير أصدرته «الشبكة السورية لحقوق الإنسان» يحظى تنظيم داعش بجزء وفير من ثروة سوريا النفطية والغازية بشكل عام وفي دير الزور بشكل خاص، بينما يمتلك النظام أقل قدر من الموارد النفطية مقارنة بباقي الفرقاء، بعد عقود من نهبه المتواصل لهذه الثروة الباطنية الهامة، وهو ما يدّل على أهمية معركة دير الزور الاستراتيجية بالنسبة إلى الطرفين.
ويوضح تقرير «الشبكة» أن «داعش» يعتمد بشكل رئيسي على تجارة النفط لتمويل نشاطاته العسكرية والمدنية. ويدفع التنظيم أعلى دخل شهري للمقاتل بالمقارنة مع جميع الفصائل الأخرى. كما أنه ترك بعض الآبار النفطية الصغيرة للعشائر التي تتموضع في محيطها الجغرافي بغية شراء ولاء هذه العشائر. ولقد أكد مسؤولون منشقون لـ«الشبكة» أن القسم الأكبر من عائدات النفط لم يكن يدخل في الموازنة العامة للدولة، بل ينهب من قبل العائلة الحاكمة، وقد بلغت هذه العائدات بحسب التقرير الإحصائي للطاقة العالمية الذي تصدره شركة بي. بي. قرابة 385 ألف برميل يوميًا في عام 2010. كانت تصرف تلك العائدات ما بين مصاريف شخصية ترفيهية، ويخصص جزء مهم لتمويل الشبيحة والميليشيات التابعة للعائلة الحاكمة من أجل تثبيت الدولة الأمنية الديكتاتورية، والانخراط في أعمال إرهابية تخريبية لزعزعة الأمن والاستقرار في المنطقة، وفي المحافظات السورية، وربما كان يتم تخصيص جزء بسيط من العائدات من أجل الحالات الاقتصادية أو السياسية الطارئة.
ويلفت التقرير إلى أنه وبعد اندلاع الثورة في سوريا، خرجت مساحات شاسعة عن سيطرة النظام السوري، كان من أبرزها المنطقة الشرقية التي تحتوي أغلب حقول النفط في سوريا، وسيطر «داعش» على كل الحقول الموجودة في دير الزور ومعامل النفط، وهي، حقل العمر والتنك والورد والتيم والجفرة.
ويشير التقرير أيضًا إلى أن «داعش» يعتمد على تجارة النفط بشكل رئيسي من أجل تمويل نشاطاته العسكرية والمدنية، إذ يبلغ الراتب الشهري للمقاتل السوري داخل التنظيم قرابة 400 دولار، ويعتبر هذا الراتب أضعاف ما سوف يحصل عليه إذا عمل في كتائب أخرى، لافتا إلى أن التنظيم يدفع أعلى دخل شهري للمقاتل بالمقارنة مع جميع الفصائل الأخرى، أما المهاجر فيدفع التنظيم له أموالاً إضافية قد تصل إلى 700 دولار في الشهر، وبخاصة في حال إحضار أسرته معه.
ويقوم التنظيم ببيع النفط لتجار النفط الموجودين في المنطقة الشرقية من سوريا، ويميز من بينهم من قد أعلن ولاءه له، للشراء، ومن أجل كسب ولاء بعض العشائر، فقد ترك لهم التنظيم موارد بعض آبار النفط الصغيرة، كما أنه يقوم ببيع النفط لنظام الأسد، وبمحاولة تهريبها نحو الأراضي التركية. وتلفت «الشبكة» إلى أن التنظيم يبيع النفط بسعر أقل كثيرًا من السعر العالمي، عدا عن أن إنتاج النفط هو أقل بنسبة ملحوظة من الإنتاجية المفترضة بسبب أدوات الاستخراج البدائية، خاصة في سوريا.
* حالة من الخوف
وبانتظار ما ستؤول إليه معركة دير الزور، يعيش أبناء المناطق الخاضعة لسيطرة النظام حالة من الخوف والذعر مما سيؤول بهم الوضع إذا سيطر التنظيم على المنطقة، في حين يعاني من يعيش في المناطق الخاضعة لسيطرته من قوانينه المتشددة ويمنع مغادرتها إلا بموجب إذن سفر من «ديوان الحسبة» إضافة إلى منع التلفاز والإنترنت وفرض الضرائب المرتفعة وغيرها من القوانين التي أصبحت تكبّل حياة المدنيين. ونقل «عمر أبو ليلى» من مجموعة «دير الزور 24»، وهي مجموعة إخبارية ناشطة في المدينة المحاصرة، أن التنظيم المتطرف أعدم بطريقة وحشية «عشرة» من عناصر قوات النظام الذين تم أسرهم خلال الهجوم على المطار العسكري. وقال الناشط في المدينة لوكالة الصحافة الفرنسية «أعدم التنظيم الأسرى ليلة الأربعاء دهسا بالدبابات»، مضيفا: «إذا سيطر التنظيم على أحياء النظام، ستُرتكب مجازر كبيرة وهذا مصدر تخوف كبير بالنسبة لنا».