من التاريخ: دراكولا... الحقيقة والخيال

من التاريخ: دراكولا... الحقيقة والخيال
TT

من التاريخ: دراكولا... الحقيقة والخيال

من التاريخ: دراكولا... الحقيقة والخيال

«دراكولا مصاص الدماء»... هكذا عرفناه من أفلام السينما الغربية متمثلة في شخصية الكونت دراكولا، الذي كان يمتص دماء ضحاياه مثل الخفافيش، فقط ليتحول الضحية بعد موته إلى كائن آخر من مصاصي الدماء. وهكذا جسّدت هوليوود هذه الشخصية التي برع في تمثيلها الممثل البريطاني الراحل الشهير كريستوفر لي، وسرعان ما تعددت الأفلام والمسلسلات المختلفة حول هذه الشخصية بأشكال مختلفة.
ولقد ابتكر المخرجون وكتَّاب القصص وسيلة قتل هذا المخلوق الخيالي من خلال وسيلتين أساسيتين، هما: دق الخازوق في قلبه مباشرة فيموت، أو يُكشف لضوء الشمس الذي يحرقه لأنه كائن ليلي لا يعيش إلا في الظلام. وهكذا تسلسلت الروايات، غير أن الحقيقة هي أن هذه الشخصية لها أساس في كتب التاريخ، ولكن ليس كمصاص دماء بطبيعة الحال، بل كشخصية سادية متعطشة للدماء والقتل والتعذيب.
الشخصية التاريخية التي اشتقت منها هذه الانحرافات الروائية هي للكونت فلاد ابن دراكولا، حاكم إقليم والاخيا (ولاشيا - أو بلاد الأفلاق - أكبر أقاليم جمهورية رومانيا الحالية) خلال القرن الخامس عشر، وينسب اسم «دراكولا» إلى والده وهو المرادف باللغة الرومانية لابن التنين.
لقد ولد فلاد لأمير إقليم والاخيا، الواقع بين قوتين متحاربتين هما الدولة العثمانية الفتية والدولة المجرية. وكان على هذا الإقليم أن يوازن سياسته دائمًا بين عدوين كبيرين لا طاقة له بهما. واختار والد فلاد أن يتحالف مع العثمانيين ضد المجريين، ووفقًا لمعايير ذلك الوقت كان التحالف يتطلب ضمانات لتحاشي الخيانة والغدر، وفي هذه الحالة سلّم الأب ابنيه فلاد ورادو إلى السلطان العثماني رهينتين لضمان ولائه له.
وعاش فلاد في كنف العثمانيين لسنوات طويلة، لكنه على الرغم من أنه لقي منهم معاملة حسنة للغاية تضمنت تدريبه على كل فنون القتال والحرب والحياة الرغدة، نشأ على كراهية العثمانيين والإسلام على حد سواء. وحقًا، رفض اعتناق الإسلام وتشرَّب الثقافة العثمانية تمامًا، إلا أنه كتم أمر كراهيته لهما منتظرًا لحظة عودته لقيادة بلاده. وهذا ما حدث عام 1448 عندما قتل والده بعد مؤامرة النبلاء ضده، فعاد فلاد ليتولى إمارة والاخيا، في ظاهره حليفًا للعثمانيين وفي باطنه عدوًا شديد العداوة لهم.
وعلى الفور بدأ القائد الشاب التجهيز لمواجهة العثمانيين، إلا أن هذه الخطة كانت تحتاج إلى تأمين الجبهة الداخلية، وهو ما فعله بكل عنف وقسوة في استهانة كاملة بإنسانيته وإنسانية شعبه. إذ بدأ تشديد قبضته من خلال التخلص من طبقة النبلاء بعد دعوتهم إلى مأدبة عشاء لكنه لم يتخلص منهم بالقتل، بل جمعهم تحت تهديد السلاح ووضعهم كعمال لبناء الجدران وترميم الأسوار الدفاع حول عاصمته دون أية مراعاة لحالتهم الاجتماعية أو أعمارهم، فمات أغلبيتهم بعد مرور فترة وجيزة.
أما على المستوى الشعبي فقد وضع دستورًا أخلاقيًا متشددًا للغاية، وكانت العقوبات أكثر من رادعة، فأغلبية عقوبات الذكور كانت قتل المذنبين على الخازوق وتركهم لساعات طويلة أو حتى أيام ليموتوا ببطء شديد، وكان يتلذذ وهو يراهم يتألمون ويرى في ذلك عبرة للرعية. ولكن الثابت تاريخيًا أن هذا الرجل السادي المريض كانت يشتاق إلى هذا المنظر، بدليل أنه قتل الآلاف من شعبه بهذه الطريقة البشعة، أما عقوبة الزانية فكان سلخها وتركها لتموت في الساحات العامة. ويقال إن أحد النبلاء دخل عليه ففزع من روائح الجثث المنتنة في الساحات، وعندما شكا له، أمر فلاد فورًا بجدع أنفه ووضعه على الخازوق هو الآخر. ويقال إن هذا الرجل المريض نفسيًا كان يتلذذ بمشاهدة مناظر القتل والتعذيب لدرجة أنه تعمد أن يكون حول قصره من كل الاتجاهات خوازيق يعدم عليها الناس.
عودة إلى التسلسل التاريخي؛ بمجرد أن دانت لفلاد ولأخيه رادو السيطرة المطلقة على والاخيا بالقهر والدم، فتح الجبهة مباشرة مع العثمانيين ودخل في صدام عسكري مع السلطان محمد الثاني «الفاتح» في أعقاب فتح الأخير القسطنطينية بسنوات قليلة. وكان السلطان قد أوفد اثنين من السفراء ليتفاوضوا مع فلاد بدلاً من الحرب، وعندما طلب منهما خلع عمامتيهما، اعتذر السفيران، فما كان منه إلا أن أمر جنوده بدق المسامير في رأسيهما لتثبيت العمامتين. هذا التصرف الوحشي أثار غضب السلطان فنشبت الحرب بينهما لسنوات طويلة، وخلالها طبَّق فلاد كل التكتيكات التي تعلمها في البلاط العثماني، حتى إنه في عام 1462 جر جيش محمد «الفاتح» إلى معركة مفتوحة بالقرب من نهر الدانوب وهزم - متحالفًا مع المجريين - مقدمة جيشه هزيمة نكراء، وأقدم على قتل كل الأسرى على الخازوق كعادته، وقطع أيدي البعض وأرجلهم، وتركهم أمام أنظار جنود جيش السلطان المتقدم ليروهم.
وهكذا، ازداد غضب السلطان وأقسم على الانتقام من فلاد بوضع رأسه على الخازوق أسوة بما كان يفعله مع الأسرى والمصابين. وبالفعل، عندما تقدم الجيش العثماني داخل والاخيا، وعلى الرغم من سياسة «الأرض المحروقة» التي لجأ إليها فلاد ليبطئ تقدم العثمانيين - وهو ما حدث - فإنه أخفق مع المجريين في مواجهة قوة جيش الدولة العثمانية الفتية المتصاعدة شهرًا بعد شهر.
وفعلاً استطاع العثمانيون محاصرة قلعة دراكولا، لكن فلاد تمكن من الفرار بمساعدة الغجر وتوجه إلى إقليم ترانسلفانيا، شمال غربي والاخيا، المتاخم للمجر، محاولاً تحالفه مع المجريين الذين قبضوا عليه. وفي هذه الأثناء، نصّب السلطان الفاتح الأمير رادو بدلاً من أخيه حاكمًا لوالاخيا. وظل فلاد في المنفى حتى عام 1475 عندما جاءه خبر وفاة أخيه، فقرر العودة متوهمًا أن الشعب سيستقبله بالترحاب. إلا أن هذا لم يحدث بطبيعة الحال لأن الشعوب لا تنسى مجرميها. وبالتالي فإنه لم يصمد بعد اعتلائه العرش أكثر من شهرين، إذ مات في ظروف غامضة، ويقال إنه قتل على أيدي الخدم أو أحد النبلاء. وفي كل الأحوال فقد قطعت رأسه وأرسلت مغطاة بالعسل إلى السلطان العثماني، الذي علّق على الخازوق في العاصمة أدرنة لتكون رمزًا للانتقام والعظة، لكل من تسوّل له نفسه خيانة العثمانيين بعد ذلك في أوروبا.
وهكذا انتهت حياة هذا الرجل الدموي السادي الذي تناقلت أوروبا قصص فظائعه لقرون تالية. وبقي عالقًا في الذاكرة الإنسانية على اعتباره من أسوأ الحكام وأكثرهم تعطشًا لدماء شعبه وأعدائه على حد سواء، كما دخل إلى عالمنا اليوم من خلال روايات «دراكولا مصاص الدماء»، مع الإشارة إلى أن ثمة روايات تزعم أن فلاد كان في بعض المناسبات يضع الخبز في كوب من دماء أعدائه أو المذنبين من شعبه ويأكله!
أخيرًا، أينما كانت الحقيقة، فإن أكل الخبز بالدم أو شرب الدم لا يختلفان كثيرًا، خصوصًا في السياسة والحكم. فالأمران يستويان، فإن لم ينل الشعب من أمثاله فإن التاريخ ينال منهم بالروايات والسير العفنة، تمامًا مثلما حدث مع الكونت فلاد ابن دراكولا.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.