حين يتورّط الكاتب مع نصه الروائي

الإماراتي سلطان العميمي في روايته «غرفة واحدة لا تكفي»

غلاف الرواية
غلاف الرواية
TT

حين يتورّط الكاتب مع نصه الروائي

غلاف الرواية
غلاف الرواية

«في غرفة صغيرة في مكان مجهول، ثمة شخص يتلصص من ثقب الباب على شخص كان يتلصص على شخص آخر في الغرفة المجاورة له». يشي مدخل رواية الإماراتي سلطان العميمي «غرفة واحدة لا تكفي» بذلك الشعور الذي يداهمك في حالة الاحتباس في مكان ضيق، مما يغمرك باختناق وقلق لا سبيل من الخلاص منه. الرواية التي تعد الثانية للعميمي صادرة عن منشورات ضفاف والاختلاف في 2016، وأعيد طبعها في العام ذاته، تحمل طابعًا تجريبيًا مختلفًا لا يعتمد المدة الزمنية للأحداث، وتعكس تأثرًا جليًا بالأعمال الأدبية والسينمائية ذات الصبغة الوجودية.
ما يميز الرواية ليس فكرة احتباس الشخص في حجرة واحدة لا تحمل إلا سريرًا وثلاجة، فيما يشبه السجن الانفرادي الكافكوي لشخص لا يعرف تبريرًا لسبب احتباسه حتى الاقتراب من نهاية الرواية. ما يميزها هو فكرة تورط شخص في عملية الكتابة الروائية، والعزلة المفرطة التي أدت إلى احتباس الروائي في عمله الإبداعي وأدت إلى أصابته بما يشبه رهاب الأماكن الضيقة. يعكس ذلك وصف الراوي حالته المزرية: «أشعر بوحشة قاتلة. بالانقطاع عن الحياة والبشر، بأني منبوذ وأن نهايتي سيكون شكلها حقيرًا ومؤسفًا في هذا المكان». الرواية أشبه بمونولوج داخلي مطول أو حالة هذيان مستفحلة، فهناك شخصية محورية وحيدة، فيما تطل شخصيات أخرى هامشية أو غير موجودة في أحداث الرواية إلا عبر استرجاعه أحداثًا مرتبطة بذاكرته أو مشاعره الداخلية، كمحبوبته «مهرة» الحاضرة الغائبة التي تأتي عرضية مسطحة دون ملامح حقيقية لتصبح أشبه بشخصية سرمدية لا وجود لها. فيما يظهر جده في قصة محورية أخرى تلقي الضوء على تاريخه العائلي الغرائبي، وفي الوقت ذاته تتطرق إلى احتباس جده هو الآخر لسنوات كثيرة في جسد حيوان، في إيحاء للتأثر بالسحر وطقوسه في المجتمعات التقليدية والاستناد إليه كمبرر يفسر كل ما تعقد فهمه، وإشارة إلى تناسخ الأرواح والتقمص والتحول إلى حيوان وضيع مهان يجلده البشر من جهة أخرى.
تغرق الرواية في عالم التلصص على الذات، لتصبح أشبه بذات أخرى يصفها «بذلك الأنا»، ويصبح هو مهووسًا في محاولات تصيده ومراقبته من خلال ثقب الباب، وتفقد حياته طقوسه اليومية المطابقة له. الأمر الذي يتسبب بتساؤله الغرائبي: «كيف ينام شخص واحد في غرفتين منفصلتين في الوقت نفسه؟». ويوازي ذلك من جهة أخرى اكتشافه وجود كتاب بصفحات فارغة عليه اسمه يدور حول التلصص، وإرغامه في ظل الحالة المتوحشة من الشعور بالملل وضعف الحيلة على كتابة الرواية نتيجة الملل والفراغ الذي يكتنفه، في استدلال على العزلة والوحشة التي سقط الروائي هنا في هاويتها أثناء انكبابه على مشروعه الكتابي. فيما يظهر العمل الروائي احتباسًا في الذات لاستكشافها، وليتم عبرها نقل جزء من شخصية الكاتب، آماله، هواجسه وحياته إلى شخصياته الروائية التي قد يتصورها حية أمامه أثناء عملية الكتابة.
يتورط سلطان العميمي من جهة أخرى في إشكالية وجود شخصية وحيدة وأحداث ترتكز على المونولوج الداخلي، والتحاور مع شخص لا وجود له وافتراض أو تمني استماعه لحديثه له وتوبيخه الذي يبدو هادئًا غير مجدٍ. ويظهر اختيار الروائي في أحايين كثيرة في الإشارة إلى عناوين أعمال روائية وسينمائية كثيرة لكاواباتا وكافكا وساراماغو، وأفلام كفيلم المخرج الأرجنتيني خوان خوسيه كامبانيلا «السر في أعينهم». وفي الحين الذي يظهر فيه تعمد اختيار عناوين وجودية تعكس حالة القلق الداخلي والإحساس بالغربة مع الذات، تتطرق إلى حالات من الاحتباس في أمكنة أشبه بسجن، أو السقوط في بيئة مقلقة كئيبة تصارع الشخصية المحورية من أجل التأقلم أو الخروج من ذلك الوسط الصعب. فحتى في التطرق إلى رواية «العمى» لساراماغو يظهر احتباس الشخصيات في ظلام العمى. إلا أن اختيار الكاتب التطرق إلى أعمال كثيرة والغوص في تفاصيلها بإسهاب قد يكون نتيجة أزمة قلة الأحداث التي تصيب شخصية وحيدة محتبسة في غرفة واحدة دون حوار إلا مع الذات. إذ إن التطرق إلى تلك الأعمال يصل في حالات إلى الحد الذي قد يلخصها بأسلوب يظهر في بعض الأحايين أقرب إلى إسقاط تلك الأمثلة في الرواية من دون مناسبة، وإن كانت تلك النماذج تتناغم مع ثيمة الرواية.
يستفحل الصمت في رواية «غرفة واحدة لا تكفي» مما قد يصيب صاحبه بما هو أشبه بفقدان الصوت، الأمر الذي تعكسه رمزية اللوحة المعلقة في الحجرة التي تحوي غربانًا تحلق بين ربطة العنق والبياض خارجها. فالغراب يشير إلى الشؤم أو التحسر على قدرته على التحليق في الوقت الذي يشعر فيه هو بالعجز عن ذلك والسقوط في مأزق لا فرار منه يجعله يتخيل ربطة العنق أشبه بحبل مشنقة، أو يرغب في أن يتخذها كخلاص من سجنه الانفرادي. والشخصية المحورية تسير في خط أحداث لا ذروة فيه سوى وقت اكتشاف حقيقة الأحداث في نهاية الرواية. يظهر صف ممعن لحالة الاحتراق الداخلية التي تكتنفه بسبب عدم القدرة على تغيير الوضع الراهن، واستسلام عبثي لما يحصل من عقوبة لا يستحقها، فليست هناك أي محاولات مجدية للتمرد ما عدا حالات معدودة كالتبول من أجل لفت الانتباه مما يشبه ممارسات قط أو طفل متمرد. وفي ذلك إشارة إلى القذارة وحالة المهانة التي تشعر بها الشخصية المحورية.



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!