فؤاد حمزة... مذكرات نصف عمر في خدمة الدبلوماسية السعودية

غطّت حقبة مهمة من تاريخ تأسيس الدولة في محيطيها العربي والداخلي

فؤاد حمزة  -  غلاف المذكرات
فؤاد حمزة - غلاف المذكرات
TT

فؤاد حمزة... مذكرات نصف عمر في خدمة الدبلوماسية السعودية

فؤاد حمزة  -  غلاف المذكرات
فؤاد حمزة - غلاف المذكرات

ظللتُ لسنوات أترقّب صدورها، منذ أن أفاد د. فهد السماري أمين عام دارة الملك عبد العزيز بحصول الدارة عليها مؤخّرًا، بمسعى خاص من أمير منطقة الرياض (الملك) سلمان، وكانت جرت بعد وفاة كاتبها محاولات عدة للحصول عليها من ورثته، ففازت بها الدارة وخدمتها بما يليق بها وبصاحبها من توثيق، وخصّصت لمكتبته التاريخية حيّزًا بارزًا بين أرجائها، ونال ابنه د. عمر بعد إهداء مخطوطاتها وسام الملك عبد العزيز من الدرجة الأولى تقديرًا لوالده، والدارة التي تأسست عام 1972 هي المؤسسة العلمية البحثيّة المنوط بها حفظ تاريخ المملكة العربية السعودية والجزيرة العربية وتراثها، ويوليها الملك سلمان عناية شخصيّة منذ تأسيسها، وهو يرأس مجلس إدارتها منذ عام 1997 إلى حال التاريخ.
حرصت على استذكار سيرته واستجلائها، منذ أن أنصفه ذلك الدبلوماسي الرفيع الذي لا يزال على قيد الحياة، بسؤاله قبل عامين، عمّن عايشهم من المستشارين السياسيين العرب، وهم قرابة العشرين كما هو معروف، فخصّ الأديب والسياسي اللبناني فؤاد حمزة بالثناء، وصنّفه بما جعله في مصافّ مقدمتهم، دون انتقاص للآخرين، فلما صدرت مذكراته قبل أسابيع عن الدارة، بعناية أمينها العام مراجعةً وتعليقًا، وجدتها تنبئ عن مكانة صاحبها، وعن موقعه المرموق منذ قدم من لبنان عام 1926 - بتزكية من الرئيس السوري شكري القوّتلي - مترجمًا بالإنجليزية للملك عبد العزيز، ثم مستشارًا سياسيًّا في ديوانه، فوكيلاً لوزارة الخارجية مع وزيرها الأمير (الملك) فيصل، ثم مبعوثًا لدى فرنسا فتركيا ولبنان، ممنوحًا لقب سفير ثم وزير دولة، وقد خلّف عددًا من الكتب، منها ثلاثة مراجع مهمة في تاريخ الجزيرة العربية وجغرافيتها هي (قلب الجزيرة العربية، والبلاد العربية السعودية، وفِي بلاد عسير)، فضلاً عن كتب أخرى في السياسة والتاريخ والآثار والجغرافيا، بعضها لا يزال مخطوطًا، وقد تميّزت كتاباته غير السياسية بالتركيز على الأحوال الاجتماعية وعلى السكان، وتطرّق بعضها إلى الشعر العامي (النبطي) في الجزيرة العربية.
جاءت المذكرات المنقّحة، في شكل يوميّات، من ثمانمائة صفحة في جزأين، غطّت حقبة مهمة من تاريخ تأسيس الدولة، في محيطيها العربي والداخلي، كما خصص جانبًا منها للحديث عن مواقف الملك عبد العزيز كما عاشها، وعن ترحيب الملك بصراحة مستشاريه، وشملت الجوانب السياسية والاجتماعية التي شاهدها، والمعاهدات والاتفاقيّات التي شارك في مفاوضاتها، لكن معاناته المرضيّة ووفاته المعاجلة لم تمكّناه من تهذيب مذكراته، ومن الإفاضة في بعضها، فاجتهدت الدارة في اختصار الجوانب العائليّة الخاصة، وقدّم ابنه د. عمر ود.السماري للمذكرات بمقدمتين ضافيتين عن سيرة كاتبها.
ورد في الإصدار، أنه كان يكتبها في شكل «نوتات» بخط جميل ولغة سلسة، ثم ينقلها في مذكرات، وقد حافظت الدارة على لغتها، مع إضافة هوامش تعريفية بتراجم من وردت أسماؤهم في سياقها، وأتى الإصدار على وصف أرشيفه والمراسلات التي كانت تتم بينه وبين الملك عبد العزيز ومع نجليه؛ ولي العهد سعود ووزير الخارجية فيصل، في عهد والدهما، والمعروف أن فؤاد حمزة وهو من الطائفة الدرزية (وصار بحسب الزركلي سُنيًّا) ولد في لبنان سنة 1899 وتوفّي فيه عن عمر ناهز الثانية والخمسين (سنة 1951 أي قبيل وفاة الملك عبد العزيز) وقد ترجم له الزركلي في «الأعلام» وهو الذي نبّه إلى وجود مذكّرات له لم تنشر، كما تحدث عنه كل من فيلبي، وفهد المارك في كتابه «من شيم العرب» ونسيبه محمود خليل صعب في كتابه «قصص ومشاهد من لبنان» وأحمد بن علي الكاظمي في «يوميات الرياض» ومحمد عَلِي الطاهر صاحب جريدة الشورى، بشهادات تؤكّد صفاء معدنه وحبه للخير وانصرافه للبحث الجاد، وموقعه الرفيع عند من عرفه أو تعامل معه، وآراءه الثاقبة، وكتاباته الوطنية.
باختصار، المذكرات الصادرة، معين نفيس من التاريخ، أدع قراءتها لأعين الدارسين المهتمّين بتلك الحقبة والمنطقة للغوص فيها، ولاستخراج ثمين الفوائد منها عن مجريات الأمور والأحداث، بشهادة أديب صدوق وباحث نزيه، وسياسي بارع، لم يدّع القيام ببطولة، ولم تعرف عنه المتاجرة، ولم يحتج لتزييف حقائق، وقد واءم في مؤلفاته كافة بين التوثيق الموضوعي والوصف العلمي للمعلومات الجغرافية والتاريخية والاجتماعية التي كانت تنقص أوعية المعرفة والثقافة العربية عند جيله.

* إعلامي وباحث سعودي



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!