نور سلطان نزار بايف يحلم بجعل آستانة «عاصمة السلام العالمي»

مؤسس كازاخستان الحديثة تخلى عن رابع ترسانة نووية عالميًا

نور سلطان نزار بايف يحلم بجعل آستانة «عاصمة السلام العالمي»
TT

نور سلطان نزار بايف يحلم بجعل آستانة «عاصمة السلام العالمي»

نور سلطان نزار بايف يحلم بجعل آستانة «عاصمة السلام العالمي»

قد لا يستوعب الإنسان البسيط في عصرنا الحالي، عصر القوة العسكرية والترسانات النووية، فكرة أن يتخلى زعيم ما عن ترسانة نووية تمتلكها بلاده، ويصبح الأمر أكثر إثارة عندما يدور الحديث عن 1400 رأس نووي. أما بالنسبة للرئيس الكازاخي نور سلطان نزار بايف، الذي ورثت بلاده عن الاتحاد السوفياتي ذلك العدد من الرؤوس النووية، ما يجعلها رابع أكبر قوة نووية عالميًا، فإن التخلي عن السلاح النووي كان قضية مبدأ. وفي الوقت ذاته كان قرارا اتخذه سياسي مخضرم، براغماتي، يدرك أن امتلاك قوة عسكرية تدميرية ليس شرطًا لبناء دولة قوية. بل على العكس قد يتحول إلى سبب رئيسي لعرقلة النمو الاقتصادي والتطور العلمي والتقني في المجتمع، وسيفرض على النخب الحاكمة قوالب محددة في السياسة الخارجية، ويجعل البلاد أسيرة تنافس وربما سباق تسلح وقد يجرها لنزاعات، ويجعلها هدفا لمؤامرات خارجية، بغية إضعافها وزعزعة استقرارها الداخلي.
في كل خطواته كان نور سلطان نزار بايف، رئيس جمهورية كازاخستان في آسيا الوسطى، ينطلق من إدراكه لحقيقة أنه يبني لأول مرة في التاريخ الحديث دولة للكازاخيين، لهذا يطلق عليه كثيرون لقب «باني الدولة الكازاخية»، بينما يطلق عليه رسميا لقب «زعيم الأمة».
لقد اجتاز نزار بايف طريقا طويلة نحو موقعه الحالية، وكانت البداية من قرية تشيمولغان، في مقاطعة ألما آتا السوفياتية، حيث وُلد نزار بايف في السادس من يوليو (تموز) عام 1940 في عائلة لأبوين فلاحين. ومنذ طفولته برز عنده حس المسؤولية، ونظرًا لأنه عايش مع إخوته سنوات المجاعة إبان الحرب العالمية الثانية، قرّر الفتى نور سلطان بعد انتهاء المرحلة المدرسية التوجه للعمل في مجال التعدين، فجرى إيفاده للدراسة في معهد تقني بجمهورية أوكرانيا (السوفياتية أيضًا يومذاك). وبعدما حصل عام 1960 على دبلوم اختصاصي تعدين، بدأ العمل في مجال اختصاصه، وكان يرسل كل شهر نصف راتبه ليساعد والده في إعالة إخوته. ونظرا لتميزه في عمله أوفد بعد ذلك ليكمل تحصيله العملي في معهد هندسة التعدين، وتخرج بعد ثلاث سنوات ليصبح مهندسا متخصصا في صناعة التعدين.
دخل نزار بايف من موقعه المهني إلى المعترك السياسي حين تم تعيينه لأول مرة عام 1972 سكرتيرا للجنة الحزبية (الحزب الشيوعي) في المصنع. وكان مخلصا لعمله، ودودا ولطيفا مع محيطه وأصدقاء العمل، وهي الصفات التي ساعدته في صعود سلم السياسة بسرعة. وفي العام 1976 عيّن سكرتيرًا للجنة المركزية للحزب الشيوعي في جمهورية كازاخستان السوفياتية. ومنذ عام 1948 ولغاية عام 1989 شغل منصب رئيس مجلس وزراء كازاخستان السوفياتية. ومن ثم شغل الموقع السياسي الأهم على مستوى الجمهورية حينها، عندما شغل أيضًا لغاية عام 1991 منصب السكرتير الأول للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي في جمهورية كازاخستان، وعضوا في اللجنة المركزية للحزب.

قيادي «سوفياتي» بارز
خلال الفترة التي صعد فيها نزار بايف كشخصية قيادية على مستوى الحزب الشيوعي السوفياتي، وبينما كان يشغل عضوية اللجنة المركزية وعضوا في مجلس السوفيات الأعلى، شهدت البلاد تحولات جذرية، في ظل سياسة «البيريسترويكا» (إعادة البناء) التي أطلقها آخر الزعماء السوفيات ميخائيل غورباتشوف. ولم تكن كازاخستان بمعزل عن تلك التحولات، حين شهدت البلاد اضطرابات محدودة، وحركات احتجاجية اشتكى الناس خلالها من تحكم المركز (موسكو حيث مقر السلطة السوفياتية) بكل الأمور.
وهنا أيد نزار بايف المحتجين بصورة كبيرة، الأمر الذي انعكس لاحقا على تأييد واسع له في تولي رئاسة البلاد. مع هذا، لم يكن نزار بايف من دعاة تفكيك الاتحاد السوفياتي، بل مع تحويل الاتحاد السوفياتي إلى دولة كونفدرالية. ولذا شارك منذ عام 1991 بمحادثات كانت تجري في مقر الرئاسة في موسكو حول توقيع اتفاقية اتحادية جديدة، وكان دوما مع الحفاظ على الاتحاد السوفياتي لكن ضمن اتفاقية تنظم العلاقات بين المركز والعواصم وفق أسس جديدة.
وأثناء توقيع الرئيس الروسي بوريس يلتسين والسوفياتي ميخائيل غورباتشوف الاتفاقية الاتحادية الجديدة صيف عام 1991، تم الاتفاق على تعيين نزار بايف رئيسا لحكومة «اتحاد الجمهوريات المستقلة»، أي الإطار الجامع البديل عن الاتحاد السوفياتي. إلا أن محاولة الانقلاب التي وقعت في أغسطس (آب) عام 1991 حالت دون المضي في تطبيق تلك الاتفاقية الاتحادية. وعندها شق نزار بايف طريقه نحو تأسيس جمهورية كازاخستان المستقلة ورئاستها. وفي نهاية أغسطس ذاته أعلن عن انسحابه من الحزب الشيوعي السوفياتي.
أول رئيس استقلالي
وفي الأول من ديسمبر (كانون الأول) عام 1991 شهدت كازاخستان السوفياتية أول انتخابات رئاسية عامة، حصل فيها نزار بايف على 98.7 في المائة من أصوات الناخبين. وبعد أسبوعين على فوزه بالرئاسة أقرّ المجلس الأعلى لجمهورية كازاخستان السوفياتية قانون الاستقلال، وتغيير اسم الدولة إلى «جمهورية كازاخستان»، أما نزار بايف فأصبح لقبه «رئيس جمهورية كازاخستان».
منذ اللحظات الأولى لتوليه الرئاسة وقف نور سلطان نزار بايف أمام مسؤوليات تاريخية، فهو أول رئيس للجمهورية الأولى في التاريخ التي تحمل اسم جمهورية كازاخستان المستقلة، وتسلم الرئاسة في مرحلة مليئة بالتعقيدات الناجمة عن الانفصال عن المركزي الاقتصادي والسياسي، كما لم تكن مؤسسات الدولة حينها خارج حالة الفلتان وسوء الإدارة السائدين في الجمهوريات التي انفصلت للتو عن الاتحاد السوفياتي.
وكانت مسؤوليات الرئيس الكازاخي تمتد على رقعة دولة كبيرة تمتد جغرافيًا بين آسيا وأوروبا، وتحتل المرتبة التاسعة عالميا بمساحتها (مليونان و724.9 ألف كيلومتر مربع) مع مستوى متدن جدا للكثافة السكانية. إذ يبلغ عدد سكان كازاخستان قرابة 18 مليون نسمة، غالبيتهم من المسلمين (70.19 في المائة من مجموعة السكان) و26.21 في المائة من أتباع الديانة المسيحية، فضلا عن نسب ضئيلة من البوذيين وديانات أخرى. هذا كله في كازاخستان التي تقع في الوسط بين العملاقين الدوليين روسيا والصين، وتحدها الأولى من الشمال والغرب، بينما تحدها الصين من الشرق، ومن الجنوب جمهوريات آسيا الوسطى.

داخليا يُسجل للرئيس نزار بايف في السنوات الأولى من حكمه الحفاظ على الاستقرار الداخلي، وإبعاد شبح العداء القومي عن البلاد. ومن المعروف أن نسبة كبيرة من المواطنين من أصول روسية وأوكرانية وكورية وألمانية يعيشون في كازاخستان. حينها كانت تلك الأقليات تتعرض للضغط في بعض الجمهوريات السوفياتية السابقة، وشهدت تلك المرحلة هجرة واسعة للمواطنين الروس على سبيل المثال من عدد من الجمهوريات باتجاه روسيا. إلا أن الوضع في كازاخستان كان مغايرًا، وأظهر نزار بايف في سياسته الداخلية حرصا على مفهوم «وحدة الأمة». وأصر على أن الجميع بغض النظر عن الأصل القومي أو العقيدة الدينية، هم مواطنون يخضعون لقانون واحد هو دستور جمهورية كازاخستان. وحتى اليوم تبقى كازاخستان صورة حضارية للتعايش السلمي بين أبناء الوطن الواحد. أما اقتصاديا فواجهت كازاخستان صعوبات جمة بعد الاستقلال نظرًا لتفكك المؤسسة الاقتصادية السوفياتية، وكان على كل دولة مستقلة حديثا بناء اقتصادها وعلاقاتها الاقتصادية مع دول العالم من الصفر.

عدة محاور
لمواجهة هذا التحدي ركز نزار بايف العمل على محاور رئيسية عدة منها تطوير الصناعات الوطنية، وتهيئة الشروط القانونية لنمو القطاع التجاري الخاص (البيزنس)، وخلق ظروف في البلاد لجذب الاستثمارات الخارجية، فضلا عن الحفاظ على أكبر قدر من التبادل التجاري مع دول الجوار. وعلى الرغم من كل الصعوبات، بدأت كازاخستان تحصد نتائج تلك السياسة، وعلى سبيل المثال كانت نسبة الموطنين بدخل دون المستوى المعيشي قد بلغت 34.6 في المائة في كازاخستان عام 1996، وخلال أربع سنوات، أي بحلول عام 2010 تراجعت نسبة هؤلاء حتى 6.5 في المائة، ما يعني انخفاض الفقر بخمس مرات. أما بالنسبة للاستثمارات الخارجية فقد ارتفعت من 4 مليارات دولار تقريبا في عام 2001 وبلغت نحو 18 مليار عام 2010، وفي عام 2010 حقق الناتج الإجمالي المحلي في كازاخستان نموًا قدره 7 في المائة مقابل 1.2 في المائة عام 2009. وتشير إحصائيات رسمية إلى ارتفاع دخل المواطنين بنحو خمس مرات خلال السنوات الأخيرة، كما تتوفر فرص العمل في السوق، ولهذا فإن كازاخستان في عهد نزار بايف تبقى الجمهورية الوحيدة من جمهوريات آسيا الوسطى التي لا يضطر شبابها للهجرة نحو روسيا أو الصين أو أوروبا بحثا عن فرصة عمل.

السياسة الخارجية
وفي السياسة الخارجية كان نزار بايف يدرك أهمية التكامل الاقتصادي مع دول الجوار، فأطلق مبادرة تشكيل اتحاد جمهوريات آسيا الوسطى، وتم تأسيس ذلك الاتحاد، كما أنه صاحب مبادرة تأسيس «منتدى التفاعل وتدابير الثقة في آسيا». وكان هو من اقترح تشكيل «الجمهورية الأوراسية (الأوروبية الآسيوية) الاتحادية الذي تطور لاحقا وأخذ شكل الاتحاد الاقتصادي الأوراسي الذي يضم روسيا وبيلاروس (روسيا البيضاء) وكازاخستان وقيرغيزستان وطاجيكستان وأوزبكستان، وله الكثير غيرها من المبادرات التي ترمي إلى التكامل الإقليمي وإعادة بناء علاقات متينة مع الجمهوريات السوفياتية سابقًا.
كذلك اعتمد نزار بايف نهج الانفتاح على جميع أطراف المجتمع الدولي. وعلى الرغم من علاقاته المميزة مع روسيا، فلقد تجنب سياسة الأحلاف، وتبنى موقفا حياديا في النزاعات الدولية، وحصل على الاحترام الدولي ما جعل كازاخستان تحظى بشرف رئاسة منظمة الأمن والتعاون في أوروبا لعام 2010، ورئاسة منظمة المؤتمر الإسلامي لعام 2011.
وحاليًا تربط كازاخستان علاقات طيبة جدًا مع كل دول العالم، وفي مقدمتها القوى الكبرى مثل روسيا والصين والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
العنوان العريض لسياسته الخارجية صاغه نزار بايف عندما أتخذ قراره بالتخلي عن رابع ترسانة نووية عالميا، ورثتها بلاده عن الاتحاد السوفياتي، إلا أنه لم يقدم على تلك الخطوة قبل أن يحصل على ضمانات أمن بلاده من القوى الكبرى، عبر مفاوضات معقدة تُوجت عام 1994 بتوقيع كل من كازاخستان وروسيا وبريطانيا والولايات المتحدة مذكرة «حول ضمانات الأمن على ضوء انضمام كازاخستان لمعاهدة عدم الانتشار النووي»، ولاحقا انضمت كل من فرنسا والصين إلى مذكرة الضمانات الأمنية تلك.
وفي العام ذاته سلمت كازاخستان للولايات المتحدة يورانيوم معد لتصنيع 24 قنبلة نووية، وفي عام 1995 سلمت لروسيا كل الأسلحة النووية التي كانت على الأراضي الكازاخية. وفي عام 2008 تم ترشيح نور سلطان نزار بايف لجائزة نوبل لقاء مساهمته في عدم الانتشار النووي.

قره باغ وسوريا
وخلال السنوات الأخيرة يحاول نور سلطان نزار بايف أن يمنح كازاخستان موقع الدولة التي تساهم في صنع السلام. وبعد استقباله مفاوضات حول النزاع في إقليم قره باغ، ومن ثم حول النزاع في أوكرانيا، فإنه أعرب مؤخرا عن استعداده للتعاون مع مبادرة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين واستضافة مفاوضات بين النظام والمعارضة لتسوية الأزمة السورية. ولقد ساهم موقفه هذا بتحقيق شهرة غير مسبوقة لمدينة آستانة، العاصمة التي قرر نزار بايف تشييدها في منطقة شبه صحراوية بشمال البلاد، لتكون العاصمة الحديثة لكازاخستان. وخلال ست سنوات تقريبا تم إنجاز ذلك المشروع الضخم، وتحوّلت المدينة الصغيرة إلى مدينة عملاقة، شيدت وفق مخططات عصرية، تتناسب مع الثقافة وبنية المجتمع الكازاخيين. ولم تقتصر مشاركة نزار بايف على إطلاقه مبادرة بناء العاصمة الجديدة، بل وزاد الأمر عن ذلك حيث لعبت أفكاره دورا رئيسيا في التصميم الهندسي للمدينة، التي تجمع اليوم بين حداثة الغرب وتقاليد الشرق، ويأمل الرئيس الكازاخي اليوم بأن يجعل منها مصنعًا للسلام العالمي، بعدما رسخها كمركز للسلم الأهلي والتقدم العلمي والتقني في بلاده.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.