قد لا يستوعب الإنسان البسيط في عصرنا الحالي، عصر القوة العسكرية والترسانات النووية، فكرة أن يتخلى زعيم ما عن ترسانة نووية تمتلكها بلاده، ويصبح الأمر أكثر إثارة عندما يدور الحديث عن 1400 رأس نووي. أما بالنسبة للرئيس الكازاخي نور سلطان نزار بايف، الذي ورثت بلاده عن الاتحاد السوفياتي ذلك العدد من الرؤوس النووية، ما يجعلها رابع أكبر قوة نووية عالميًا، فإن التخلي عن السلاح النووي كان قضية مبدأ. وفي الوقت ذاته كان قرارا اتخذه سياسي مخضرم، براغماتي، يدرك أن امتلاك قوة عسكرية تدميرية ليس شرطًا لبناء دولة قوية. بل على العكس قد يتحول إلى سبب رئيسي لعرقلة النمو الاقتصادي والتطور العلمي والتقني في المجتمع، وسيفرض على النخب الحاكمة قوالب محددة في السياسة الخارجية، ويجعل البلاد أسيرة تنافس وربما سباق تسلح وقد يجرها لنزاعات، ويجعلها هدفا لمؤامرات خارجية، بغية إضعافها وزعزعة استقرارها الداخلي.
في كل خطواته كان نور سلطان نزار بايف، رئيس جمهورية كازاخستان في آسيا الوسطى، ينطلق من إدراكه لحقيقة أنه يبني لأول مرة في التاريخ الحديث دولة للكازاخيين، لهذا يطلق عليه كثيرون لقب «باني الدولة الكازاخية»، بينما يطلق عليه رسميا لقب «زعيم الأمة».
لقد اجتاز نزار بايف طريقا طويلة نحو موقعه الحالية، وكانت البداية من قرية تشيمولغان، في مقاطعة ألما آتا السوفياتية، حيث وُلد نزار بايف في السادس من يوليو (تموز) عام 1940 في عائلة لأبوين فلاحين. ومنذ طفولته برز عنده حس المسؤولية، ونظرًا لأنه عايش مع إخوته سنوات المجاعة إبان الحرب العالمية الثانية، قرّر الفتى نور سلطان بعد انتهاء المرحلة المدرسية التوجه للعمل في مجال التعدين، فجرى إيفاده للدراسة في معهد تقني بجمهورية أوكرانيا (السوفياتية أيضًا يومذاك). وبعدما حصل عام 1960 على دبلوم اختصاصي تعدين، بدأ العمل في مجال اختصاصه، وكان يرسل كل شهر نصف راتبه ليساعد والده في إعالة إخوته. ونظرا لتميزه في عمله أوفد بعد ذلك ليكمل تحصيله العملي في معهد هندسة التعدين، وتخرج بعد ثلاث سنوات ليصبح مهندسا متخصصا في صناعة التعدين.
دخل نزار بايف من موقعه المهني إلى المعترك السياسي حين تم تعيينه لأول مرة عام 1972 سكرتيرا للجنة الحزبية (الحزب الشيوعي) في المصنع. وكان مخلصا لعمله، ودودا ولطيفا مع محيطه وأصدقاء العمل، وهي الصفات التي ساعدته في صعود سلم السياسة بسرعة. وفي العام 1976 عيّن سكرتيرًا للجنة المركزية للحزب الشيوعي في جمهورية كازاخستان السوفياتية. ومنذ عام 1948 ولغاية عام 1989 شغل منصب رئيس مجلس وزراء كازاخستان السوفياتية. ومن ثم شغل الموقع السياسي الأهم على مستوى الجمهورية حينها، عندما شغل أيضًا لغاية عام 1991 منصب السكرتير الأول للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي في جمهورية كازاخستان، وعضوا في اللجنة المركزية للحزب.
قيادي «سوفياتي» بارز
خلال الفترة التي صعد فيها نزار بايف كشخصية قيادية على مستوى الحزب الشيوعي السوفياتي، وبينما كان يشغل عضوية اللجنة المركزية وعضوا في مجلس السوفيات الأعلى، شهدت البلاد تحولات جذرية، في ظل سياسة «البيريسترويكا» (إعادة البناء) التي أطلقها آخر الزعماء السوفيات ميخائيل غورباتشوف. ولم تكن كازاخستان بمعزل عن تلك التحولات، حين شهدت البلاد اضطرابات محدودة، وحركات احتجاجية اشتكى الناس خلالها من تحكم المركز (موسكو حيث مقر السلطة السوفياتية) بكل الأمور.
وهنا أيد نزار بايف المحتجين بصورة كبيرة، الأمر الذي انعكس لاحقا على تأييد واسع له في تولي رئاسة البلاد. مع هذا، لم يكن نزار بايف من دعاة تفكيك الاتحاد السوفياتي، بل مع تحويل الاتحاد السوفياتي إلى دولة كونفدرالية. ولذا شارك منذ عام 1991 بمحادثات كانت تجري في مقر الرئاسة في موسكو حول توقيع اتفاقية اتحادية جديدة، وكان دوما مع الحفاظ على الاتحاد السوفياتي لكن ضمن اتفاقية تنظم العلاقات بين المركز والعواصم وفق أسس جديدة.
وأثناء توقيع الرئيس الروسي بوريس يلتسين والسوفياتي ميخائيل غورباتشوف الاتفاقية الاتحادية الجديدة صيف عام 1991، تم الاتفاق على تعيين نزار بايف رئيسا لحكومة «اتحاد الجمهوريات المستقلة»، أي الإطار الجامع البديل عن الاتحاد السوفياتي. إلا أن محاولة الانقلاب التي وقعت في أغسطس (آب) عام 1991 حالت دون المضي في تطبيق تلك الاتفاقية الاتحادية. وعندها شق نزار بايف طريقه نحو تأسيس جمهورية كازاخستان المستقلة ورئاستها. وفي نهاية أغسطس ذاته أعلن عن انسحابه من الحزب الشيوعي السوفياتي.
أول رئيس استقلالي
وفي الأول من ديسمبر (كانون الأول) عام 1991 شهدت كازاخستان السوفياتية أول انتخابات رئاسية عامة، حصل فيها نزار بايف على 98.7 في المائة من أصوات الناخبين. وبعد أسبوعين على فوزه بالرئاسة أقرّ المجلس الأعلى لجمهورية كازاخستان السوفياتية قانون الاستقلال، وتغيير اسم الدولة إلى «جمهورية كازاخستان»، أما نزار بايف فأصبح لقبه «رئيس جمهورية كازاخستان».
منذ اللحظات الأولى لتوليه الرئاسة وقف نور سلطان نزار بايف أمام مسؤوليات تاريخية، فهو أول رئيس للجمهورية الأولى في التاريخ التي تحمل اسم جمهورية كازاخستان المستقلة، وتسلم الرئاسة في مرحلة مليئة بالتعقيدات الناجمة عن الانفصال عن المركزي الاقتصادي والسياسي، كما لم تكن مؤسسات الدولة حينها خارج حالة الفلتان وسوء الإدارة السائدين في الجمهوريات التي انفصلت للتو عن الاتحاد السوفياتي.
وكانت مسؤوليات الرئيس الكازاخي تمتد على رقعة دولة كبيرة تمتد جغرافيًا بين آسيا وأوروبا، وتحتل المرتبة التاسعة عالميا بمساحتها (مليونان و724.9 ألف كيلومتر مربع) مع مستوى متدن جدا للكثافة السكانية. إذ يبلغ عدد سكان كازاخستان قرابة 18 مليون نسمة، غالبيتهم من المسلمين (70.19 في المائة من مجموعة السكان) و26.21 في المائة من أتباع الديانة المسيحية، فضلا عن نسب ضئيلة من البوذيين وديانات أخرى. هذا كله في كازاخستان التي تقع في الوسط بين العملاقين الدوليين روسيا والصين، وتحدها الأولى من الشمال والغرب، بينما تحدها الصين من الشرق، ومن الجنوب جمهوريات آسيا الوسطى.
داخليا يُسجل للرئيس نزار بايف في السنوات الأولى من حكمه الحفاظ على الاستقرار الداخلي، وإبعاد شبح العداء القومي عن البلاد. ومن المعروف أن نسبة كبيرة من المواطنين من أصول روسية وأوكرانية وكورية وألمانية يعيشون في كازاخستان. حينها كانت تلك الأقليات تتعرض للضغط في بعض الجمهوريات السوفياتية السابقة، وشهدت تلك المرحلة هجرة واسعة للمواطنين الروس على سبيل المثال من عدد من الجمهوريات باتجاه روسيا. إلا أن الوضع في كازاخستان كان مغايرًا، وأظهر نزار بايف في سياسته الداخلية حرصا على مفهوم «وحدة الأمة». وأصر على أن الجميع بغض النظر عن الأصل القومي أو العقيدة الدينية، هم مواطنون يخضعون لقانون واحد هو دستور جمهورية كازاخستان. وحتى اليوم تبقى كازاخستان صورة حضارية للتعايش السلمي بين أبناء الوطن الواحد. أما اقتصاديا فواجهت كازاخستان صعوبات جمة بعد الاستقلال نظرًا لتفكك المؤسسة الاقتصادية السوفياتية، وكان على كل دولة مستقلة حديثا بناء اقتصادها وعلاقاتها الاقتصادية مع دول العالم من الصفر.
عدة محاور
لمواجهة هذا التحدي ركز نزار بايف العمل على محاور رئيسية عدة منها تطوير الصناعات الوطنية، وتهيئة الشروط القانونية لنمو القطاع التجاري الخاص (البيزنس)، وخلق ظروف في البلاد لجذب الاستثمارات الخارجية، فضلا عن الحفاظ على أكبر قدر من التبادل التجاري مع دول الجوار. وعلى الرغم من كل الصعوبات، بدأت كازاخستان تحصد نتائج تلك السياسة، وعلى سبيل المثال كانت نسبة الموطنين بدخل دون المستوى المعيشي قد بلغت 34.6 في المائة في كازاخستان عام 1996، وخلال أربع سنوات، أي بحلول عام 2010 تراجعت نسبة هؤلاء حتى 6.5 في المائة، ما يعني انخفاض الفقر بخمس مرات. أما بالنسبة للاستثمارات الخارجية فقد ارتفعت من 4 مليارات دولار تقريبا في عام 2001 وبلغت نحو 18 مليار عام 2010، وفي عام 2010 حقق الناتج الإجمالي المحلي في كازاخستان نموًا قدره 7 في المائة مقابل 1.2 في المائة عام 2009. وتشير إحصائيات رسمية إلى ارتفاع دخل المواطنين بنحو خمس مرات خلال السنوات الأخيرة، كما تتوفر فرص العمل في السوق، ولهذا فإن كازاخستان في عهد نزار بايف تبقى الجمهورية الوحيدة من جمهوريات آسيا الوسطى التي لا يضطر شبابها للهجرة نحو روسيا أو الصين أو أوروبا بحثا عن فرصة عمل.
السياسة الخارجية
وفي السياسة الخارجية كان نزار بايف يدرك أهمية التكامل الاقتصادي مع دول الجوار، فأطلق مبادرة تشكيل اتحاد جمهوريات آسيا الوسطى، وتم تأسيس ذلك الاتحاد، كما أنه صاحب مبادرة تأسيس «منتدى التفاعل وتدابير الثقة في آسيا». وكان هو من اقترح تشكيل «الجمهورية الأوراسية (الأوروبية الآسيوية) الاتحادية الذي تطور لاحقا وأخذ شكل الاتحاد الاقتصادي الأوراسي الذي يضم روسيا وبيلاروس (روسيا البيضاء) وكازاخستان وقيرغيزستان وطاجيكستان وأوزبكستان، وله الكثير غيرها من المبادرات التي ترمي إلى التكامل الإقليمي وإعادة بناء علاقات متينة مع الجمهوريات السوفياتية سابقًا.
كذلك اعتمد نزار بايف نهج الانفتاح على جميع أطراف المجتمع الدولي. وعلى الرغم من علاقاته المميزة مع روسيا، فلقد تجنب سياسة الأحلاف، وتبنى موقفا حياديا في النزاعات الدولية، وحصل على الاحترام الدولي ما جعل كازاخستان تحظى بشرف رئاسة منظمة الأمن والتعاون في أوروبا لعام 2010، ورئاسة منظمة المؤتمر الإسلامي لعام 2011.
وحاليًا تربط كازاخستان علاقات طيبة جدًا مع كل دول العالم، وفي مقدمتها القوى الكبرى مثل روسيا والصين والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
العنوان العريض لسياسته الخارجية صاغه نزار بايف عندما أتخذ قراره بالتخلي عن رابع ترسانة نووية عالميا، ورثتها بلاده عن الاتحاد السوفياتي، إلا أنه لم يقدم على تلك الخطوة قبل أن يحصل على ضمانات أمن بلاده من القوى الكبرى، عبر مفاوضات معقدة تُوجت عام 1994 بتوقيع كل من كازاخستان وروسيا وبريطانيا والولايات المتحدة مذكرة «حول ضمانات الأمن على ضوء انضمام كازاخستان لمعاهدة عدم الانتشار النووي»، ولاحقا انضمت كل من فرنسا والصين إلى مذكرة الضمانات الأمنية تلك.
وفي العام ذاته سلمت كازاخستان للولايات المتحدة يورانيوم معد لتصنيع 24 قنبلة نووية، وفي عام 1995 سلمت لروسيا كل الأسلحة النووية التي كانت على الأراضي الكازاخية. وفي عام 2008 تم ترشيح نور سلطان نزار بايف لجائزة نوبل لقاء مساهمته في عدم الانتشار النووي.
قره باغ وسوريا
وخلال السنوات الأخيرة يحاول نور سلطان نزار بايف أن يمنح كازاخستان موقع الدولة التي تساهم في صنع السلام. وبعد استقباله مفاوضات حول النزاع في إقليم قره باغ، ومن ثم حول النزاع في أوكرانيا، فإنه أعرب مؤخرا عن استعداده للتعاون مع مبادرة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين واستضافة مفاوضات بين النظام والمعارضة لتسوية الأزمة السورية. ولقد ساهم موقفه هذا بتحقيق شهرة غير مسبوقة لمدينة آستانة، العاصمة التي قرر نزار بايف تشييدها في منطقة شبه صحراوية بشمال البلاد، لتكون العاصمة الحديثة لكازاخستان. وخلال ست سنوات تقريبا تم إنجاز ذلك المشروع الضخم، وتحوّلت المدينة الصغيرة إلى مدينة عملاقة، شيدت وفق مخططات عصرية، تتناسب مع الثقافة وبنية المجتمع الكازاخيين. ولم تقتصر مشاركة نزار بايف على إطلاقه مبادرة بناء العاصمة الجديدة، بل وزاد الأمر عن ذلك حيث لعبت أفكاره دورا رئيسيا في التصميم الهندسي للمدينة، التي تجمع اليوم بين حداثة الغرب وتقاليد الشرق، ويأمل الرئيس الكازاخي اليوم بأن يجعل منها مصنعًا للسلام العالمي، بعدما رسخها كمركز للسلم الأهلي والتقدم العلمي والتقني في بلاده.