رحيل جون بيرجر.. الصوت {المشاغب} في أوروبا

ترك بصمته الخاصة في الثقافة والفنون في النصف الثاني من القرن العشرين

جون بيرغر
جون بيرغر
TT

رحيل جون بيرجر.. الصوت {المشاغب} في أوروبا

جون بيرغر
جون بيرغر

عام جديد لا يكاد يفتح عينيه، لتغمض على بابه عينا رجل كان وكأنه زمن من الإبداع. البريطاني جون بيرغر، المولود عام 1926، والذي رحل ليلة أول من أمس في قرية فرنسية اتخذها مسكنًا له، أشبه ما يكون برجالات عصر النهضة في إيطاليا بالعصور الوسطى. رجل ضاج بالمواهب التي توزعت بين الرسم والرّواية والنقد الفني والقصص القصيرة والشعر والدراسات السوسيولوجيّة وكتابة نصوص الأفلام والبرامج الوثائقيّة. حاز على جوائز مرموقة من المؤسسة الثقافيّة البريطانيّة - بما فيها بوكر للرواية في 1972 - رغم كونه من أكثر الأصوات المشاغبة سياسيًا في أوروبا بالنظر إلى خلفيته الفكريّة الماركسيّة.
هو المشاكس الأنيق في فكره الذي اعتبر أن الفن المعاصر جلّه يكاد يكون تاريخًا للفشل بسبب تغول المنظومة الرأسماليّة المهيمنة على عمليّة الإنتاج الفنّي واستعبادها للفنانين وتحويلها العمل الفني موظفًا في خدمة الآيديولوجيّات.
طبع بيرجر عالم الثقافة والفنون الغربيّة ببصمته الخاصة في النصف الثاني من القرن العشرين، وعلّم أجيالاً متتابعة تقنية رؤية الأعمال الفنيّة وتقيّيمها من خلال فهم أبعادها السياسية والثقافية. لكنه لم يكن ذي تخصص دقيق كما محدودية مهن هذه الأيام، بل كان عالما من المعرفة وطاقة إبداعية لم يحدها أي سقف. بدأ حياته فنانًا تشكيليًا في لندن وأقام عدة معارض ناجحة، لكنه تحول إلى الكتابة ونشر أولى رواياته (رسّام من هذا الزمان) في 1958، التي من شدّة واقعية وصفها لطريقة إنتاج العمل الفني وأبعاده السياسيّة دفعت الكثيرين للاعتقاد بأنها قصة حقيقيّة وتسببت بمناقشات حادة انتهت بناشره إلى سحب الرواية من التداول. لكن العمل الذي انتقل به إلى الشهرة التامة كان (طرائق الرؤية) في 1972 الذي رافق برنامجًا وثائقيًا بالاسم ذاته قدمه بيرجر على الـ «بي بي سي». وأصبح مرجعًا أساسيًّا في تحليل الصورة في جسد العمل الفني، يدرّس في الجامعات إلى اليوم، وتتلمذت عليه أجيال من المهتمين بالفنون في بريطانيا والغرب.
أهم أعماله سياسيًا ربما كان (رجل سابع) الذي نشر في 1975 وهو كتاب وثائقي تعاون فيه مع جون موهر المصور الفوتوغرافي السويسري المعروف كاشفًا النقاب عن ظروف العيش البائسة للعمال المهاجرين واضمحلال مجتمعاتهم الأصليّة بعد رحيلهم. عندما تقلب في هذا الكتاب اليوم بعد أربعين عامًا تكاد تظن أنه صدر بالأمس في عزّ أزمة اللاجئين التي تعصف بالقارة العجوز. لكن معظم النقاد مجمعون على أن موهبته العبقريّة في النقد الفني تتجلى أفضل ما يكون في كتابين صدرا حديثًا (2015) وهما «لاندسكيبز: جون بيرجر عن الفن»، و«بورتريهات: جون بيرجر عن الفنانين»، الّلذين حررهما توم أوفيرتون جامعًا فيهما مختارات من مقالات بيرجر عبر السنوات، مغطيًا تاريخ التصوير البشري منذ رسومات كهوف اللاسكو إلى الفنانين المعاصرين. هذه الاختيارات عكست بحرفيّة سر سحر الكتابة عند بيرغر: قدرة خارقة على التعبير بلغة شديدة الوضوح عن أعقد أبعاد المنتج الفني مسلحًا بمعرفة تقنيّة وتاريخيّة عميقة متطلعًا بعيني الفنان ذاته. تلك الموهبة النظرّية رافقتها سيطرة عجائبية على الكلمات حتى قارنه البعض في ذلك بجورج أرويل (أحد أهم كتاب بريطانيا في القرن العشرين).
كتابات بيرجر رغم تعقيد ما تطرحه من قضايا لا تبدو نتاج الفكر الذاتي بقدر ما هي ثمرة نتاج حوارات ثريّة وعلاقات عميقة مع أصدقاء وعابرين، ثيمتها الحساسيّة المتفوقة في القبض على التفاصيل، ومن ثم تقديمها بلغته الرائقة في نص نظري متين مدعوم بمعرفة تاريخيّة شاملة.
بالطبع تغيرت كتابات بيرجر ونظرته إلى الفنون خلال ستة عقود من العطاء، لكن خطين عامين بقيا ظاهرين في كل نتاجاته: نقده الصريح للاقتصاد السياسي وراء المنتج الفني، وبحثه الدائم عن قيمة العمل الفني إنسانيًا. كانت تلك ثقافته الماركسيّة التي حملها معه في كل المراحل، وشكلت رؤياه للقضايا جلها رغم عدم انتمائه إلى أي تنظيم سياسي، كما تظهر سلسلة أعماله اجتهادًا مستمرًا لتقديم نوع من نظريّة ماركسيّة للفن.
يستدعي بيرجر الأعمال الفنيّة من المتاحف والغاليريهات المتأنقة ليسكنها ورشة العمل، حيث الفنان يتصبب عرقًا وأصابعه ملطخة بالألوان في قلب عمليّة الإبداع الفني، لكي يعطينا تصورًا لرؤية الفنان لما اقترفت يداه، محللا المعطيات التي قد تكون تسببت بتلك الرؤية ليخلص دائما إلى اعتبار المنتج الفني في عمقه ليس إلا تعبيرا حادا عن حاجة الكائن البشري لإظهار قدرته البائسة على خلق العالم الذي يريد.
النقد الفني كان دومًا عند بيرجر ممارسة ثوريّة تقدميّة تستهدف التحضير لتغيير المجتمعات نحو الأفضل، ولذلك فإن مقالاته في أسبوعيّة «النيوستيتمان» البريطانيّة كثيرًا ما أثارت ردود فعل حادة، لأنه كان يحاكم العمل الفني بتجرد ونزاهة تليق بالثوريين الحالمين ولم يعبأ أبدًا بالمكانة الفنيّة أو السياسيّة لأحد، ما اضطر المجلس الثقافي البريطاني في إحدى المرات إلى إصدار اعتذار رسمي للنحات البريطاني المعروف هنري مور بعدما وصف بيرجر أعماله الأخيرة بأنها دون مستواه المعهود، كما لم تسلم المتاحف المعاصرة من سياط نقده - رغم أنّه قضى أوقاتًا طويلة من عمره في ردهاتها - لأنها بحسب نظرته سلعت العمل الفني وحولته إلى منتج استهلاكي آخر يقاس بسعره في السوق.
لم يحب بيرجر حياة لندن المدينة الكوزموبوليتينية فهجرها إلى منفى اختياري في قرية فرنسية عزلاء على تخوم جبال الألب، ولكن خياره لم يلق بأي ظلال سلبية على اتصاله بالحياة الثقافيّة البريطانية، على الرغم من أنه كان يمضي جل وقته مع الفلاحين. سياسيًا، عرف بيرجر بموافقه الجريئة في التضامن مع الفقراء والأقليات والمهمشين، فتبرع بنصف قيمة جائزة البوكر التي حصل عليها لتنظيم ثوري للسود، وأنفق النصف الثاني لإنتاج كتابه الوثائقي عن العمال المهاجرين. عاش الرجل مرحلة المد الثوري الرومانسي في باريس نهاية الستينات، وهاجم دون تحفظ الغزو الأميركي لفيتنام وهيمنة دول الشمال الغنيّة على الأغلبيّة الفقيرة في الجنوب. لكن القضية الأهم التي استحوذت على وقته خلال أعوامه الأخيرة كانت قضية فلسطين. فهو ساند الفلسطينيين تحت الاحتلال ودعم انتفاضاتهم، وأخذ عائلته إلى رام الله حيث أقام ورشات فنيّة للأطفال الفلسطينيين كما أعاد كتابة ترجمة لقصائد الشاعر الفلسطيني محمود درويش بلغته الشعريّة البديعة، وكتب مقالات عن الحياة داخل الأراضي الفلسطينية أثارت جدلا حادا في الصحف البريطانيّة، كما ترأس مجموعة من عشرات نجوم الثقافة والموسيقى والفن العالميين بمن فيهم نعوم تشومسكي ونعومي كلاين في نشر رسالة مفتوحة على صفحات «الغارديان» البريطانية دعت إلى مقاطعة إسرائيل بوصفها كيان فصل عنصريا أشبه ما تكون بدولة الفصل العنصري لنظام جنوب أفريقيا السابق.
في مقابلته الأخيرة لـ«الأوبزيرفر» البريطانية قبل أسابيع من وفاته وتعليقا على نتيجة استفتاء البريكست الذي تمخض عن اختيار أغلبيّة بسيطة من البريطانيين مغادرة الاتحاد الأوروبي، شن بيرجر هجومًا لاذعًا على العولمة المتحولة أداة للرأسماليّة في الهيمنة على المجتمعات، لكنه قال إنه دائمًا كان يعتبر نفسه أوروبيًّا، وقد صوّت قبل الجميع في الاستفتاء عندما رحل إلى قلب القارة الأوروبية قبل خمسين عامًا.
كل هذه المواقف الصاخبة في الفن والحياة والسياسة جلبت لبيرجر دون شك أعداء أكثر بكثير من الأصدقاء، لكن الطرفين مجمعان على أن الرجل كان عبقريّة متفردة وناقدًا فنيًّا من طراز رفيع قد لا تجود بمثله الأيام بسهولة.



الشاعر السوري أدونيس يدعو إلى «تغيير المجتمع» وعدم الاكتفاء بتغيير النظام

أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)
أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)
TT

الشاعر السوري أدونيس يدعو إلى «تغيير المجتمع» وعدم الاكتفاء بتغيير النظام

أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)
أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)

دعا الشاعر السوري أدونيس من منفاه في فرنسا الأربعاء إلى "تغيير المجتمع" في بلده وعدم الاكتفاء بتغيير النظام السياسي فيه بعد سقوط الرئيس بشار الأسد.

وقال أدونيس (94 عاما) خلال مؤتمر صحافي في باريس قبيل تسلّمه جائزة أدبية "أودّ أولا أن أبدي تحفّظات: لقد غادرتُ سوريا منذ العام 1956. لذلك أنا لا أعرف سوريا إذا ما تحدّثنا بعمق". وأضاف "لقد كنت ضدّ، كنت دوما ضدّ هذا النظام" الذي سقط فجر الأحد عندما دخلت الفصائل المسلّحة المعارضة إلى دمشق بعد فرار الأسد إلى موسكو وانتهاء سنوات حكمه التي استمرت 24 عاما تخلّلتها منذ 2011 حرب أهلية طاحنة.

لكنّ أدونيس الذي يقيم قرب باريس تساءل خلال المؤتمر الصحافي عن حقيقة التغيير الذي سيحدث في سوريا الآن. وقال "أولئك الذين حلّوا محلّه (الأسد)، ماذا سيفعلون؟ المسألة ليست تغيير النظام، بل تغيير المجتمع". وأوضح أنّ التغيير المطلوب هو "تحرير المرأة. تأسيس المجتمع على الحقوق والحريات، وعلى الانفتاح، وعلى الاستقلال الداخلي".

واعتبر أدونيس أنّ "العرب - ليس العرب فحسب، لكنّني هنا أتحدّث عن العرب - لا يغيّرون المجتمع. إنّهم يغيّرون النظام والسلطة. إذا لم نغيّر المجتمع، فلن نحقّق شيئا. استبدال نظام بآخر هو مجرد أمر سطحي". وأدلى الشاعر السوري بتصريحه هذا على هامش تسلّمه جائزة عن مجمل أعماله المكتوبة باللغتين العربية والفرنسية.

ونال أدونيس جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس وتحمل اسم شاعر كتب باللغتين الكتالونية والإسبانية.