2016 عام بدأ فيه عباس ترتيب بيته... لكنه لم يحقق الأهم بعد

الرئيس الفلسطيني محمود عباس لدى حضوره قداس ليلة عيد الميلاد بكنيسة سانت كاترين ببيت لحم في ديسمبر الماضي (إ.ب.أ) - انصار حركة فتح يحيّون الرئيس الفلسطيني محمود عباس في ثان يوم للمؤتمر العام للحركة في رام الله نوفمبر الماضي (غيتي) - مؤيدون للقيادي في فتح محمد دحلان يرفعون رايات ولافتات في غزة خلال مظاهرة احتجاجية ضد الرئيس الفلسطيني في ديسمبر الماضي (غيتي)
الرئيس الفلسطيني محمود عباس لدى حضوره قداس ليلة عيد الميلاد بكنيسة سانت كاترين ببيت لحم في ديسمبر الماضي (إ.ب.أ) - انصار حركة فتح يحيّون الرئيس الفلسطيني محمود عباس في ثان يوم للمؤتمر العام للحركة في رام الله نوفمبر الماضي (غيتي) - مؤيدون للقيادي في فتح محمد دحلان يرفعون رايات ولافتات في غزة خلال مظاهرة احتجاجية ضد الرئيس الفلسطيني في ديسمبر الماضي (غيتي)
TT

2016 عام بدأ فيه عباس ترتيب بيته... لكنه لم يحقق الأهم بعد

الرئيس الفلسطيني محمود عباس لدى حضوره قداس ليلة عيد الميلاد بكنيسة سانت كاترين ببيت لحم في ديسمبر الماضي (إ.ب.أ) - انصار حركة فتح يحيّون الرئيس الفلسطيني محمود عباس في ثان يوم للمؤتمر العام للحركة في رام الله نوفمبر الماضي (غيتي) - مؤيدون للقيادي في فتح محمد دحلان يرفعون رايات ولافتات في غزة خلال مظاهرة احتجاجية ضد الرئيس الفلسطيني في ديسمبر الماضي (غيتي)
الرئيس الفلسطيني محمود عباس لدى حضوره قداس ليلة عيد الميلاد بكنيسة سانت كاترين ببيت لحم في ديسمبر الماضي (إ.ب.أ) - انصار حركة فتح يحيّون الرئيس الفلسطيني محمود عباس في ثان يوم للمؤتمر العام للحركة في رام الله نوفمبر الماضي (غيتي) - مؤيدون للقيادي في فتح محمد دحلان يرفعون رايات ولافتات في غزة خلال مظاهرة احتجاجية ضد الرئيس الفلسطيني في ديسمبر الماضي (غيتي)

بعد 23 سنة على توقيع «اتفاق أوسلو» الذي كان يفترض أن يأتي بدولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو (حزيران) 1967، يمضي عام آخر من دون أن تأتي هذه الدولة التي تشظت منذ 10 أعوام إلى دولتين، واحدة في الضفة والثانية في غزة. الأولى مقطعة إلى «كانتونات» في حضن إسرائيل، والثانية تحاصرها إسرائيل برًا وبحرًا وجوًا وتحكمها سلطة ثالثة.
لقد أملت السلطة الفلسطينية في 2016 بخطوة صغيرة على الأقل تقرب الفلسطينيين من هذه الدولة، ودعمت بكل ما أوتيت مؤتمر سلام دوليًا كان يفترض أن يقام في باريس، لكنه لم يتحقق من ضمن أشياء أخرى، الدولة مثلا، والعضوية الكاملة في مجلس الأمن، ووقف الاستيطان، والمصالحة كذلك بين حركتي فتح وحماس.
أما الخطوة الأبرز التي أخذتها السلطة ويمكن الإشارة لها، فهي البدء بترتيب البيت الداخلي، بما يضمن انتقالاً سلسًا من حقبة إلى حقبة أخرى إذا ما غادر الرئيس الفلسطيني محمود عباس الذي ناهز 82 سنة منصبه لأي سبب كان.
* ترتيب البيت
قبل شهر واحد على انتهاء العام أبصرت لجنة مركزية جديدة لحركة فتح النور إيذانًا ببدء مرحلة جديدة، من شأنها أن ترسم ملامح شخصية الرئيس القادم، وتسمح بانتقال سلس للسلطة، إذا ما عرفنا أن الانتخابات الفتحاوية التي جاءت بلجنة مركزية جديدة، سبقت انتخابات أخرى مرتقبة في منظمة التحرير الفلسطينية، قد تجرى بداية 2017، من أجل ترسيم لجنة تنفيذية جديدة.
ووفق منطق «فتحاوي» خالص، فإن أي رئيس قادم، بالضرورة يجب أن يكون عضوًا في لجنة مركزية فتح، وعضوًا في تنفيذية منظمة التحرير.
ويريد عباس الذي يسعى إلى تعزيز قبضته على السلطة وفتح، تعيين نائب له لتفويت أي فرصة على أعدائه، داخل حركة فتح - وأبرزهم القيادي المفصول من الحركة محمد دحلان -، وكذلك خصومه السياسيين وأبرزهم حركة حماس، الانقضاض على الموقع الأهم في سلطة بلا سلطة.
ولقد استشعر عباس الخطر الداهم بعد تدخلات إقليمية من أجل مصالحة مع «العدو اللدود» دحلان، وهي التدخلات التي رفضها عباس، ورد عليها بعقد مؤتمر فتح الذي أخرج دحلان وأنصاره كذلك خارج فتح إلى الأبد، أو على الأقل على المدى المنظور والمتوسط. ويمكن القول إن عباس أخذ الخطوة الأولى فقط في طريق ترتيب البيت، وهو ما أطلق عليه بنفسه «الجهاد الأصغر» بعد انتخاب قيادة جديدة في فتح، بانتظار انتخاب نائب لعباس في فتح، ومن ثم إجراء انتخابات في منظمة التحرير واختيار نائب له في السلطة.
ويرى مراقبون أن اختيار نائب الرئيس داخل حركة فتح، وأمين سر منظمة التحرير سيحدد إلى حد بعيد الاسم المقترح الذي يؤمن به عباس لخلافته. وتبدو هذه معركة أخرى داخلية في ظل وجود أسماء قوية متنافسة، من بينها عضو مركزية فتح المعتقل في السجون الإسرائيلية مروان البرغوثي، ومسؤول المخابرات الفلسطيني ماجد فرج، وعضو اللجنة المركزية لفتح جبريل الرجوب، وأمين سر منظمة التحرير الدكتور صائب عريقات، إضافة إلى آخرين.
* البرغوثي في الصدارة
«الفتحاويون» صوتوا في هذا المؤتمر للأسير البرغوثي على رأس منتخبي اللجنة المركزية الجديدة، بعدما حصل على 930 صوتًا من أصل نحو 1100 صوت، في استفتاء على الحضور الذي يحظى به البرغوثي داخل حركة فتح. وتلا البرغوثي في ترؤس قائمة المنتخبين جبريل الرجوب، وهو مؤسس جهاز الأمن الوقائي في الضفة الغربية، ورئيس الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم. وحصل الرجوب على 878 صوتًا. والرجوب يعد أحد «صقور» الحركة والأسماء المرشحة بقوة في فتح ليصبح نائبا لعباس. ومن جهة أخرى، عاد إلى المركزية كذلك أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير صائب عريقات، والمفاوض السابق والاقتصادي محمد إشتية، ومسؤول الشؤون المدنية حسين الشيخ، ومسؤول العضوية جمال محيسن، ومفوض التعبئة والتنظيم محمود العالول، ورئيس جهاز المخابرات السابق توفيق الطيراوي، ومسؤول ملف المصالحة، عزام الأحمد، وناصر القدوة ابن شقيقة عرفات والمندوب السابق في الأمم المتحدة، والمسؤول عن التواصل مع المجتمع الإسرائيلي محمد المدني، ومسؤول العلاقات الدولية عباس زكي.
* الوجوه الجديدة
ودخل إلى المركزية لأول مرة، الوجوه الجديدة، : وزير التربية والتعليم صبري صيدم وهو ابن أبو صبري صيدم عضو المركزية الذي قضى في الستينات، ومستشار عباس العسكري الحاج إسماعيل جبر، والقيادي الفتحاوي المعروف في غزة أحمد حلس، ورئيس المجلس التشريعي السابق روحي فتوح الذي شغل منصب الرئيس المؤقت بعد وفاة عرفات، وسمير الرفاعي المسؤول الكبير في إقليم سوريا، وامرأة واحدة هي دلال سلامة، النائب السابق في المجلس التشريعي من مخيم بلاطة في نابلس، وجميعهم تلقوا الدعم من عباس.
وتفيد النتائج بهذه الطريقة أن إرادة عباس انتصرت حتى داخل فتح وانتصرت كذلك على التدخلات.
وعمليًا قد ينتهي 2016 مع اختيار نائب لعباس في فتح ويبدأ 2017 مع اختيار نائب له في السلطة، وهو أمر بيد المجلسين الوطني والمركزي للمنظمة، ويكون عباس بذلك أوصل سفينة السلطة لنهاية مرحلة وبداية أخر، متجاوزًا عواصف داخلية ومشكلات، لكنه أبدًا لم يتجاوز الأهم، تحقيق مصالحة وإقامة الدولة.
وعلى الرغم من أن عباس وعد الفلسطينيين بالدولة في 2017، وقال بعد اختيار قيادة فتح الجديدة، إن القيادة الفلسطينية ستعمل على «حشد الجهود ليكون عام 2017 عام إنهاء الاحتلال الإسرائيلي»، فإن ذلك قوبل بتشكك كبير عززته وعود سابقة لم تتحقق.
* المؤتمر الدولي والمصالحة
تحدث عباس أيضًا عن أن الاتصالات مستمرة لعقد مؤتمر دولي للسلام بموجب المبادرة الفرنسية لحل القضية الفلسطينية وإقامة دولة مستقلة وعاصمتها القدس الشرقية على حدود عام 1967. كما تطرق عباس إلى المصالحة مع حماس، قائلا: «الكرة الآن في ملعب حركة حماس» للقبول بالمبادرات العربية الرامية إلى إنهاء الانقسام الفلسطيني المستمر منذ منتصف عام 2007. وعمليًا حدد عباس بكلمته تلك أولوياته في العام الجديد، دون أن يتضح إذا ما كان سينجح في أي منها.
إذن، الذي تحقق فقط هو البدء في ترتيب البيت الداخلي لكن الأهم وهو إقامة الدولة وتحقيق مصالحة، ظل وعدًا في الهواء.
الذي لم يتحقق... المصالحة الداخلية. مثل سنوات أخرى سابقة اجتمعت وفود فتح وحماس أكثر من مرة، وأعلنوا في كل مرة أنهم اتفقوا أو أنهم قريبون من الاتفاق على حكومة وحدة وطنية تمهد لإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية خلال شهور، لكن بقي الوضع على ما هو عليه.
واختلف الوفدان في العاصمة القطرية مجددًا على برنامج الحكومة الفلسطينية وعَقْد المجلس التشريعي وموظفي حكومة حماس السابقة. إذ تريد حماس برنامجًا يقر المقاومة بينما تريد فتح برنامج المنظمة الذي يعترف بالاتفاقات. وتريد حماس أن تعرض الحكومة على «التشريعي» بعد أن يستأنف عمله، بينما تريد فتح إقرارها من الرئيس. وتريد حماس توظيفًا فوريًا لموظفيها السابقين في الحكومة الجديدة بينما ترفض فتح وتعرض توظيفًا جزئيًا بحسب الحاجة.
* المؤتمر الدولي للسلام
انتظر الفلسطينيون أن يعقد المؤتمر قبل نهاية العام، وكان ثمة توقع بأن يعرض في النصف الثاني من شهر ديسمبر (كانون الأول) بحسب اتفاق فرنسي فلسطيني، لكن أجلت فرنسا المؤتمر مرة أخرى، بسبب عدم رضا الأميركيين عنه ورفض إسرائيل الكامل له.
وعلى الرغم من إعلان إسرائيل المسبق رفض المؤتمر، يقول الفلسطينيون إن انعقاده مهم لأن رفض إسرائيل الحضور سيجعلها مكشوفة أكثر للعالم ويستوجب اعترافًا فرنسيًا فوريًا بالدولة.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.