المشهد الثقافي في مصر يفتقر إلى الحوار الموضوعي الجاد

معركة وهمية في اتحاد الكتاب وصعود لافت للمجلات الأدبية

ملتقى الشعر الرابع الذي قاطعه عدد من الشعراء ({الشرق الأوسط})
ملتقى الشعر الرابع الذي قاطعه عدد من الشعراء ({الشرق الأوسط})
TT

المشهد الثقافي في مصر يفتقر إلى الحوار الموضوعي الجاد

ملتقى الشعر الرابع الذي قاطعه عدد من الشعراء ({الشرق الأوسط})
ملتقى الشعر الرابع الذي قاطعه عدد من الشعراء ({الشرق الأوسط})

ثلاث وقائع تؤشر بقوة على طبيعة المشهد الثقافي المصري في عام 2016، فضمنيًا تشير إلى أنه مشهد يفتقر إلى الحوار الموضوعي الجاد، المبني على أسس علمية صحيحة، ويعتد بتنوع الآراء والرؤى والأفكار، من أجل الصالح الثقافي العام، كما تشير إلى اتساع مساحة تسييس القانون لتقييد حرية الإبداع والفكر الرأي والتعبير، وهو ما يعكس جهلاً بطبيعة الإبداع نفسه، ودوره في زحزحة مسلمات التخلف والجمود.
وسط هذه الغبار مرّ المشهد الثقافي بسلبيات أكثر وإيجابيات أقل، وكان لافتًا انشغال هذه المشهد، خلال هذه العام، بمعارك تُفجَّر لاعتبارات شخصية محضة، ومصالح شللية، تتمسح بالدفاع عن الثقافة في العلن، بينما تمارس في الكواليس ما هو عكس ذلك تمامًا. فعلى مدار عدة أشهر في النصف الأول من هذا العالم انشغلت الحياة الثقافية بأزمة اتحاد الكتاب، وإيجاد مبررات هشة لاستقالة نحو 20 عضوًا من مجلس إدارته المكون من 30 عضوًا، الأمر الذي وضع الاتحاد ورئيسه في حرج قانوني وأدبي بالغين، فاستقالة هذه العدد تعني ضمنيًا أن مجلس الاتحاد أصبح هو والعدم سواء، هكذا ظن المستقيلون، واتخذوا قرارا بالدعوة لعقد جمعية عمومية طارئة لانتخاب مجلس جديد، وساندهم في ذلك وزير الثقافة بالموافقة على مطلبهم، رغم أنه ليس جهة اختصاص، وظل الشد والجذب قائمًا بين كل الأطراف، إلى أن حسم القضاء الأمر مؤكدًا صحة ما اتخذه رئيس الاتحاد من قرارات بتعيين أعضاء جدد بدلاً من المستقيلين، حسبما تنص عليه لائحة الاتحاد، وأنه لا وصاية لوزير الثقافة عليه.
رغم ذلك لا يزال الاتحاد غائبًا عن نبض المشهد الثقافي، يراوح في مكانه، بروح هزيلة وإطار نمطي، سواء على مستوى منظومة الخدمة الاجتماعية لأعضائه، أو على مستوى الأنشطة والفعاليات الأدبية التي تشد هموم الكتّاب والمبدعين، بشكل كاشف ومضيء لحقيقة العلاقة بين الإبداع ومناحي الحياة في المجتمع.
هذه الإطار النمطي، مضافًا إليه مسحة كرنفالية مناسباتية سيطر أيضًا على معظم أنشطة وفعاليات وزارة الثقافة، فهي أنشطة معدومة الروح والجدوى، يدخل أغلبها في باب «سد الخانة». ما اتضح جليًا في موجة الاعتذارات لعدد كبير من الشعراء العرب والمصريين عن عدم المشاركة في فعاليات ملتقى القاهرة للشعر العربي، أواخر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، لعدم قناعتهم بجدوى الملتقى، في ظل سيطرة مطلقة للجنة الشعر بالمجلس الأعلى للثقافة عليه، بل إن جائزته على مدار أربع ملتقيات ذهبت في دورتين منها لشاعرين أعضاء باللجنة؛ أحدهما لا يزال يترأس الملتقى، ويرى كثيرون أن هذه المسلك ينطوي على مخالفة صريحة للائحة المجلس.
في هذه المشهد الخامل يصبح الرهان قويًا على دور المجلات الثقافية والأدبية، وصُدِمَت الحياة الثقافية في النصف الأخير من هذا العام بإغلاق مجلة «المجلة» التي تصدر عن الهيئة المصرية للكتاب، أكبر ماكينة نشر رسمية، وذلك بعد نحو 4 سنوات استطاعت خلالها «المجلة» أن تلعب دورًا مهمًا في الحياة الثقافية، خصوصًا في ربوع الأقاليم، كما جذبت أصوات مبدعين عرب، وألقت الضوء على قضايا أدبية وفنية، من خلال المتابعة والتحقيق والحوار، وكانت المجلة الوحيدة الأعلى مبيعًا وانتظامًا في الصدور، واحترام العلاقة بينها وبين مَن يُسهِمون بالكتابة فيها من الكتاب والنقاد والشعراء والفنانين، على عكس كثير من مجلات الهيئة المتخصصة، التي لم يعد لها أي صدى يُذكر في الحياة الثقافية.
الحسنة الوحيدة في هذا السياق، وتُحسَب لوزارة الثقافة، هي صحيفة «القاهرة» الأسبوعية، التي أصبحت أهم منبر ثقافي، يطل منه القارئ على واقع الحياة الثقافية في مصر، والعالم من حوله. والفضل في هذا يرجع للكاتب الصحافي سيد محمود رئيس التحرير، وفريق العمل المصاحب له، برؤيته الثاقبة لمجريات الواقع الثقافي ومناطق القوة والضعف فيه، وتشابكاتها المفصلية مع الحالة المصرية على الصعيدين الخاص والعام، كذلك حرصه على انتزاع هامش حرية مرن من قبضة المؤسسة الثقافية الحكومية.
على بُعد خطوات من مجلة «القاهرة»، تأتي مجلة «الهلال» الشهرية برئاسة الكاتب الروائي سعد القرش، وقد لفتت الأنظار بملفات قوية أضاءت كثيرًا من القضايا الفكرية الشائكة مصريًا وعربيًا، بينما تنفرد مجلة «الثقافة الجديدة» الشهرية التي تصدرها هيئة قصور الثقافة برئاسة الشاعر سمير درويش، بكونها المجلة الأدبية الأهم، إن لم تكن الوحيدة، التي تعبِّر عن حراك الإبداع في مصر على مستوى النظر النقدي، وواقع الشعر والرواية والقصة. وتحرص «المجلة» على مناقشة القضايا التي تعوق حركة الإبداع وتطور المجتمع، وتقديم رؤى وحلول ووجهات نظر نقدية لها، من قبل عدد من المختصين والكتاب، وذلك في ملفات خاصة ضمن متنها.
في ظل هذا التراوح بين السلب والإيجاب، وباستثناء معارض الفن التشكيلي التي يوفر قاعات العرض لعدد كبير منها قطاع الفنون التشكيلية التابع لوزارة الثقافة، تبقى المفارقة المعضلة في هذا المشهد أن حركة الإبداع الحقيقية تنمو وتتبلور خصوصيتها بقوة وحيوية، بعيدًا عن عباءة المؤسسة الرسمية.
ويعكس هذا عدد من الإصدارات المهمة، في الشعر والرواية والقصة، معظمها صدر عن مؤسسات نشر خاصة، من أبرزها في الشعر ديوان الشاعر محمود قرني «تفضل.. هنا مبغى الشعراء» الصادر عن دار «شرقيات»، وديوان الشاعر عاطف عبد العزيز «برهان على لا شيء»، عن دار «روافد»، وديوان «أركض طاويًا العالم تحت إبطي» للشاعر الشاب محمد القليني. وفي الرواية، تتصدر المشهد رواية «حذاء فلليني» لوحيد الطويلة، الصادرة عن منشورات المتوسط، بإيطاليا، والمجموعة القصصية «عين سحرية» لمي التلمساني. وانفلت من متن المؤسسة الرسمية الخامل، بعض الإصدارات المهمة لهيئة الكتاب ودور أخرى خاصة، في مقدمتها الأعمال الشعرية الكاملة «أوراق العشب»، للشاعر الأميركي والت ويتمان، قام بترجمتها للعربية الشاعر رفعت سلام، وتقع في نحو ألف صفحة، وتُعدّ إضافة للمكتبة العربية، بجانب ترجمات سابقة قدمها سلام لريتسوس ورامبو، وبودلير. أيضًا ديوانا «أحد عشر ظلاً لحجر» للشاعر فتحي عبد السميع، و«لا يمكن الاختباء من الموتى» للشاعر أسامة بدر، وديوان «لهم ما ليس لآذار» للشاعرة رضا أحمد.
وتأتي جائزة نجيب محفوظ، التي تقدمها الجامعة الأميركية، وحصل عليها هذا العام الكاتب عادل عصمت عن روايته «لا شيء أقوى من الحب» لتمثل نقطة ضوء واحتفاء مستحق في سياق الجوائز الأدبية التي فقدت مصداقيتها لدى كثير من الكتاب والشعراء، لما يثار حولها من غبار التربيطات وعدم توافر الحيدة والنزاهة العلمية لدى لجان التحكيم، خصوصًا جوائز الدولة.
يبقى في جعبة هذا المشهد كثير من معارض الفن التشكيلي المتميزة التي تضيف لفضاء الفن بصمة خاصة، تفتح أمامه آفاقًا متجددة من التجريب والمغامرة، يأتي في مقدمة هذا المعارض معرض الفنان محمد عبلة، «على طريق الحرير» بقاعة أفق، الذي لعب فيه على وتر الحكايات المتنوعة لهذا الطريق كرافد حضاري وتجاري مهم ربط الشرق بالغرب على مدى سنوات طويلة، مستخدمًا تقنية الرسم على مسطح الماء، وأيضًا معرض الفنان عبد الوهاب عبد المحسن «ناس» بالقاعة نفسها، الذي قدم فيه تجربة شيقة جماليًا في فن البورتريه، لعب فيها على إيقاع الوجوه، بأنماطها وملامحها الإنسانية المتباينة، وكذلك معرض «فرحة» للفنانة سماء يحيى بقاعة الباب، الذي قدمت فيه مغامرة جديدة مع شخوصها وعالمها الفني، بالرسم على قماش «الخيامية».
ولم يشأْ هذا العام أن يمرّ دون دمعة حزن على كتاب وشعراء غيبهم الموت، بعد رحلة عطاء خصبة مع الإبداع، كان من أبرزهم الشاعر فاروق شوشة، صاحب البرنامج الإذاعي الشهير «لغتنا الجميلة» الحائز على جائزة النيل، أرفع جوائز الدولة في الآداب، والدكتور علي مبروك، أستاذ الفلسفة، صاحب كتب «السلطة والمقدس... جدل السياسي والثقافي في الإسلام»، ويُعدّ من أهم الكتّاب والمفكرين المصريين والعرب الذين ناقشوا التراث الإسلامي، في سياق من العقلانية والاستنارة، والفنان التشكيلي جميل شفيق، والكاتب فخري لبيب مترجم «رباعية الإسكندرية».



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!