بارك غيون هي... إرث سياسي ورئاسة معلقة

صداقة مؤذية تهدد بإنهاء الحياة السياسية لأول امرأة تترأس كوريا الجنوبية

بارك غيون هي... إرث سياسي ورئاسة معلقة
TT

بارك غيون هي... إرث سياسي ورئاسة معلقة

بارك غيون هي... إرث سياسي ورئاسة معلقة

تسارعت خلال الأسبوع إجراءات لإقالة رئيسة كوريا الجنوبية بارك غيون هي (64 سنة)، وذلك على الرغم من أن فريق محامي الرئيسة قد شدّدوا في تقرير رفعوه يوم الجمعة 16 ديسمبر (كانون الأول) الحالي إلى أعلى هيئة قضائية في البلاد، على أنه لا يوجد أي أساس قانوني لإقالتها. وتجدر الإشارة إلى أن الجمعية الوطنية (البرلمان) كانت قد صوتّت يوم 9 سبتمبر (أيلول) الماضي على إقالة بارك إثر اتهامها بفضيحة فساد كبرى أدت الضجة التي خلفتها إلى خروج ملايين الكوريين في مظاهرات حاشدة لتعطيل أعمال الحكومة. وفي أعقاب تصويت الجمعية الوطنية بتوجيه التهمة رسميًا إلى بارك، تولى هوانغ كيو آن، رئيس الحكومة، مقاليد الرئاسة مؤقتًا.
عندما يتداول الساسة والإعلاميون بكثرة كلمة «الديمقراطية»، وتطالب الدول الغربية العريقة في تقاليدها الديمقراطية دول العالم - ولا سيما في آسيا وأفريقيا - بانتهاج الديمقراطية، فإنها في معظم الأحيان تطالب بالسير على خطاها، واعتماد تجربتها.
غير أن الواقع الذي أخذ الغرب «الديمقراطي» يختبره، وخصوصا في أعقاب انتهاء «الحرب الباردة»، وسقوط «بديل» التحدي الشيوعي أو الاشتراكي، هو أنه لا توجد في السياسة الواقعية وصفات سحرية، ولا يمكن بالضرورة استنساخ التجارب، وتعميم التفاصيل، وتجاهل الخصوصيات في المجتمعات على امتداد العالم.
بكلام آخر، لا توجد آلية واحدة لمفهوم المجالس التشاورية أو التمثيلية تصدق بالتمام والكمال على مجتمعات مسيحية بيضاء في أوروبا - مثلاً - ذابت فيها المكونات العشائرية والعصبية والدينية، ومجتمعات في مناطق أفريقية حديثة الاستقلال ريفية أو رعوية الطابع، ما زالت الأواصر العائلية والعشائرية تحكم العلاقات الاقتصادية والاجتماعية، ومجتمعات آسيوية داخلت بنيتها التقليدية تجربة الحكم الشمولي، كحال بيئات الصين وكوريا الشمالية وفيتنام ولاوس. ومن ثم كان لا بد أن تتأثر «ثقافة الديمقراطية» في كل من هذه الأماكن بالتطورات التاريخية التي عاشتها وعايشتها.
في شرق آسيا أوضح نموذج على التعقيدات التي تتصل بتلاقي عدة ثقافات وتقاطعها أو تكاملها. ففي الصين ثمة ثلاثة نماذج في البرّ الصيني الشاسع (الصين الشعبية) حيث يشهد العالم اليوم أكبر عملية تفاعل ثقافي - اقتصادي - اجتماعي في العالم مع التحول التدريجي خلال أقل من مائة سنة من حالة زراعية ورعوية، إلى حالة شيوعية ثورية صارمة، والآن إلى حالة تنمية رأسمالية ناشطة. واليوم تمارس «الديمقراطية» في الصين بثلاثة أشكال: الأول في ظل حزب شيوعي قائد يتطور مع المقتضيات في الصين الشعبية، والثاني في ظل مفهوم ديمقراطي ليبرالي - محافظ - وقومي في تايوان (الصين الوطنية سابقًا)، والثالث في التجربة الاستثنائية لمستعمرة هونغ كونغ السابقة القائمة.
وفي اليابان، بعد الحرب العالمية الثانية، حصل «تزاوج» نادر ولافت بين مجتمع صناعي وعصري ومجتمع لم يتخل عن تقاليده الدينية والتراثية. ومن ثم، مع بدء التجربة الديمقراطية الجديدة في البلاد، سرعان ما حصل فرز بين القوى الليبرالية والمحافظة والاشتراكية. ومع ولادة الحزب الديمقراطي الحر من اندماج الحزبين الليبرالي والديمقراطي عام 1955، ومن ثم هيمنته على الحياة السياسية اليابانية لعقود، خرجت من داخل الحزب «أجنحة سياسية» صارت عمليًا أحزابًا وكتلاً لها زعاماتها المتوارثة داخل حزب السلطة القوي.

التجربة الكورية
غير أن الحالة الخاصة ذات الصلة، الآن، هي الحالة الكورية؛ فبعدما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها انقسمت شبه الجزيرة بين شمال شيوعي دعمت وجوده الصين وحليفاتها الشيوعية، وجنوب رأسمالي قاتلت من أجله الولايات المتحدة ودول الغرب الكبرى عبر أروقة الأمم المتحدة.
كوريا، من ثم غدت دولتين، هما كوريا الجنوبية الرأسمالية الناهضة اقتصادية، وكوريا الشمالية الموغلة في تصلبها الشيوعي. ولكن في الحالتين لم تزدهر الديمقراطية التمثيلية تمامًا. فالشمال الشيوعي تحوّل إلى حكم عائلي وراثي وشبه عسكري خارج المنظومتين السوفياتية ثم الصينية، ولم يكن نظامًا شيوعيًا على النمط الأوروبي يتيح إمكانيات التغيير ولو من داخل الحزب. أما الجنوب الرأسمالي، فلم يظل طويلاً بمنأى عن الديكتاتورية العسكرية، التي استفادت إلى حد ما من مناخ الحرب الباردة. وكان الديكتاتور العسكري الأقوى، والأقوى بصمة في تاريخ كوريا الجنوبية، رجل عسكري لامع اسمه بارك تشونغ هي... والد الرئيسة بارك غيون هي.

بطاقة هوية
ولدت بارك غيون هي، رئيسة كوريا الجنوبية المقالة، يوم 2 فبراير (شباط) عام 1952 في مدينة دايغو بجنوب شرقي البلاد. وهي الابنة البكر لرجل كوريا القوي ورئيسها الثالث بارك تشونغ هي، الذي حكم البلاد بين عامي 1963 و1979 بعدما قاد انقلابًا في عام 1961، للرئيسة بارك شقيق وشقيقة.
الرئيسة - التي لم تتزوج - انتقلت مع عائلتها عام 1953 من دايغو إلى العاصمة سيول بحكم عمل الوالد العسكري. وفي سيول تلقت تعليمها الابتدائي والثانوي في مدرسة كاثوليكية تخرجت فيها عام 1970، وبعدها التحقت بجامعة سوغانغ بالعاصمة حيث تخرجت بدرجة بكالوريوس في الهندسة الإلكترونية عام 1974، ولاحقًا درست لبعض الوقت في جامعة غرونوبل الفرنسية، بيد أنها اضطرت للعودة إلى كوريا في أعقاب اغتيال أبيها - وكان إذ ذاك رئيسًا للجمهورية - في أكتوبر (تشرين الأول) عام 1979.
كذلك تحمل بارك رسائل دكتوراة فخرية من جامعة الصين الثقافية في تايوان، وجامعة سوغانغ ومعهد الدراسات العلمية والتقنية المتقدم في كوريا، وجامعة دريسدن التقنية في ألمانيا. وتتكلم بجانب اللغة الكورية اللغات الإنجليزية والفرنسية والصينية والإسبانية.

بداياتها مع السياسة
يمكن القول إن بارك غيون هي نشأت مع السياسة، ذلك أن أباها تولى السلطة الفعلية في البلاد قبل أن تبلغ العاشرة من العمر. وبعد ذلك، كانت «ابنة الرئيس» لمدة 16 سنة صقلت لها مفاهيمها وولاءاتها السياسية. ثم جاء اغتيال والدها ليسهم في تعميق تفاعلها مع عالم السلطة، بل قبل ذلك، عاشت الرئيسة الكورية تجربة مأساوية مؤثرة تمثلت في اغتيال أمها عام 1974 على يد مواطن كوري متعاطف مع كوريا الشمالية داخل مبنى المسرح الوطني الكوري في سيول يوم 15 أغسطس (آب) 1974. وبعد مقتل أمها صارت بارك «سيدة قصر الرئاسة» و«الذراع اليمنى» لأبيها الرئيس حتى اغتياله بعد أربع سنوات يوم 26 أكتوبر 1979 بيد رئيس جهاز استخباراته كيم جاي غيو. وبطبيعة الحال، طوال الفترة التي كانت فيها بصحبة أبيها كان معارضوه، في التيارات الليبرالية واليسارية، يعتبرونها شريكًا في سياسته الأمنية المحافظة الصارمة، بما في ذلك التوقيف العشوائي للمعارضين السياسيين، والتضييق على حرية التعبير والمعتقدات، وانتهاك كثير من حقوق الإنسان المألوفة في الديمقراطيات الغربية.
غير أن بارك، أجرت نوعًا من النقد الذاتي في المرحلة اللاحقة لنهاية حقبة الديكتاتورية العسكرية التي رسخها أبوها. وعام 2007 إبان انخراطها في العمل السياسي المدني والحزبي اعتذرت علنًا مبدية الأسف لخصومها السياسيين، ولا سيما للناشطين الذين اضطهدوا إبان فترة حكم أبيها على ما لحق بهم من ظلم.

النشاط الحزبي
الانخراط في العمل السياسي الحزبي وفّر لبارك «المدرسة السياسية» الثانية، بعد حياتها العائلية قبل أن تنتخب رئيسة، وتغدو أول امرأة تتولى رئاسة كوريا الجنوبية أو أي دولة في شمال شرقي آسيا.
لقد ترقت بارك في هذا المجال، تحديدًا في صفوف الحزب الوطني الكبير، الحزب المحافظ اليميني الأكبر في البلاد، وتولت في الفترة بين 2004 و2006 منصب رئيسة الحزب. وعادت لتولي رئاسة الحزب عامي 2011 و2012 وخلال هذه الفترة غيّر اسم الحزب إلى حزب «ساينوري» - أي «الحدود الجديدة» - وهو اليوم أكبر حزب في البرلمان الكوري، كما يسجل لها أنها قادت حزبها لعدد قياسي من الانتصارات الانتخابية. وداخل البرلمان - أو الجمعية الوطنية - انتخبت بارك وخدمت فيه أربع فترات متتالية بين عامي 1998 و2012 عندما انتخبت رئيسة للجمهورية.
وبعد انتخابها رئيسة اختارتها مجلة «فوربس» الأميركية المرموقة خلال العامين 2013 و2014 في المرتبة الـ11 من بين أقوى مائة امرأة في العالم وأكثرهن نفوذًا وتأثيرًا. بل، في عام 2014 وضعتها المجلة نفسها في المرتبة الـ46 من بين أكثر أقوى شخصيات العالم نفوذًا (رجالاً ونساءً).

رئيسة للجمهورية
بعد قيادة بارك حزبها لانتصار كبير في الانتخابات العامة عام 2012 ازدادت شعبيتها على المستوى الوطني وبات ينظر إليها بجدية على أنها زعيمة حقيقية تستطيع الذهاب إلى أبعد بالحزب والبلاد. وفي 19 ديسمبر (كانون الأول) 2012 فازت بمنصب الرئاسة حاصلة على نسبة 51.6 من المائة الأصوات. ويوم 25 فبراير تولت الزعيمة التي يصفها الكوريون بـ«الرئيسة الأكثر محافظة» السلطة.
وخلال السنوات الماضية منذ توليها المنصب أثبتت بارك، كما توقع محبوها وكارهوها، أنها سياسية صلبة ومحافظة، وأيضا مثيرة للجدل أحيانًا. وجاءت القضية التي أدت إلى اتهامها بالفساد والتحرك البرلماني لإقالتها في الأطر المألوفة لهشاشة خيوط الفصل بين المصالح السياسية والولاءات الشخصية والمحسوبيات عند القيادات التي تمارس الديمقراطية بوصفها نظاما سياسيا لكنها تظل أسيرة لحساباتها الخاصة.

آخر التطورات
القضية - الفضيحة تتصل بسيدة اسمها شوي سو سيل - التي هي صديقة شخصية للرئيسة بارك، باعتراف بارك، كانت قد أوقفت في بداية نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي وبدأت محاكمتها بتهمة الابتزاز واستغلال السلطة.
ولقد وجهت إلى شوي تهمة استغلال صداقتها مع الرئيسة لحمل الشركات الصناعية على دفع مبالغ تقارب الـ70 مليون دولار إلى شركات ومؤسسات أسستها وتملكها، إلى جانب شبهات حول تدخلها في شؤون الدولة. وبلغت الأمور حد تشكيل فريق من المحققين المستقلين يضم مدعين وشرطيين وقضاة ومحامين اختارهم محققو النيابة لتفتيش مقر الرئاسة لكشف غوامض الفضيحة، مع الإشارة إلى أن مكتب الرئاسة ذكر أن التفتيش يستند في اعتراضه على ملاحقة بارك إلى مادة في القانون الجزائي تحظر هذا النوع من العمليات في مكاتب رسمية تعتبر ذات أهمية عسكرية.
كذلك دفع فريق محامي بارك، عندما قدم خلال الأسبوع الماضي تقريره الواقع في 24 صفحة، بأن الاتهامات الموجهة إلى الرئيسة ليست مدعمة بأدلة، وبالتالي، ليس لها أساس قانوني. وكذلك بأنه لا يوجد أي دليل على أن الرئيسة انتهكت الدستور.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن الرئيسة بارك عرضت يوم 29 نوفمبر الاستقالة، ودعت الجمعية الوطنية لترتيب أمر نقل السلطة، إلا أن المعارضة رفضت معتبرة أن الرئيسة تحاول من خلال عرضها تجنب الإدانة. ومن ثم أقر النواب الإدانة بأصوات 234 نائبا، وعلقوا صلاحيات الرئيسة، وأسندوا الرئاسة مؤقتًا لرئيس الوزراء. ولكن في المقابل، ستحتفظ بارك بلقب الرئيسة إلى أن تبت المحكمة الدستورية بإلإقالة أو ترفضها. وهذه العملية يمكن أن تستغرق ستة أشهر.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.