تصادف اليوم الأربعاء الذكرى الثالثة لرحيل المؤرخ والكاتب والدبلوماسي العراقي نجدة فتحي صفوة، الذي عرفه قراء جريدة «الشرق الأوسط» من خلال زاويته الشهيرة (هـذا اليوم في التاريخ) التي نشر فيها 2520 حلقـة لمـدة سـبع سـنوات متتالية، تناولت وقائع وأحداثا مهمة وسير وأدوار شخصيات عراقية وعربية وعالمية تركت بصماتها في تاريخنا المعاصر.
ننشر هنا كلمة أخ الفقيد الكبير احتفاء بذكرى رحيله:
بكل خشـوع وألم نسـتقبل ذكـرى رحيل كبير العائلة نجدة فتحي صفوة، الذي رحل في مثل هذه الأيام قبل ثلاث سنوات في العاصمة الأردنية عمان. ففي التاسع عشـر من ديسمبر (كانون الأول) عام 2013 توقف قلب كان يُعـرف بالعمل المخلص والجهـد المثمر والتأليف الغزير الذي دام تسـعين عامًا بنبضات بدأت يوم ولادته في الخامس والعشرين من شـهر أبريل (نيسان) سنة 1923.
نشـأ في بغداد، واتسمت أيام صباه وشـبابه بمواهب متعددة كانت بتوجيه من والده الذي كان من رجال التعليم (بدار المعلمين آنذاك)، وفي مرحلة الدراسـة المتوسـطة سنة 1934 أفاد كثيرا من دروس الشيخ علي الطنطاوي والشاعر القدير صادق الملائكة، ومال منذ ذلك إلى الأدب وكتب أولى مقالاته في مجلة (الفتوة) بين سـنتي 1934 - 1935 وهي المجلة التي كان يشترك في تحريرها أسـاتذة معروفون... وفي مرحلة الدراسـة الثانوية اشـتهر اسـمه بين الطلاب والمدرسين كخطيب مفـوّه عندما مُنـح الجائزة الأولى في المباراة الخطابية بين المدارس الثانوية عام 1941... وعنـد اندلاع الثورة ضـد النفوذ البريطاني في نفس السنة (حركة رشيد عالي الكيلاني) التحق بمحطة الإذاعة العراقية لقراءة الأخبار والبيانات الحربية وهو في الثامنة عشـرة من العمر.
وخلال دراسته في كلية الحقوق ببغداد كان غزيرًا بنشـاطه الأدبي، فاتصل بالأديب رفائيل بطي ولازم مجلس الأب أنستاس ماري الكرملي، وفي تلك الفترة ألّف كتابه (مذاهب الأدب الغربي) وبذلك كان أول من بحث عن تلك المذاهب التي سـادت في الغرب، ثم أردفه بكتاب عن حياة الشـاعر إيليا أبو ماضي والحركة الأدبية في المهجر. وتزامن في تلك الفترة، تدريسـه قواعـد اللغة العربية لطلاب السنة الأخيرة في (كلية بغداد الأميركية)، وكان مَنْ يدرّسـهم بعمره تقريبًا أو يزيدون بقليل! وعنـد تخرجه في كلية الحقوق سنة 1945 خاض امتحان القبول في السـلك الدبلوماسي لوزارة الخارجية ونجح في منافسـة غيره من خريجي الدول الأوروبية والأميركية. بعـد ذلك نُسـب للعمل في سـفارات مهمة في لنـدن وواشـنطن وموسـكو وباريس وأنقـرة ودول عربية مثل القاهرة وعمـان وجدة، وعهدت إليه فيما بعـد مناصب رفيعـة كان منها رئيس الدائرة السياسـية ثم وكيلاً مساعدا لوزارة الخارجية، إلا أن ذلك لم يثنه عن الاستقالة عام 1967 عندما اختلف مع وزيرها آنذاك، وتفرغ للبحث والتأليف، وانصرف إلى استخراج الوثائق البريطانية المتعلقة بالعراق والشـرق العربي، فهيأ بذلك للمؤرخين مصادر بحث تكشف عن الأسـرار السياسـية والاجتماعية والاقتصادية في المنطقة.
من مؤلفاته (العراق في مذكرات الدبلوماسيين الأجانب) و(اليهود والصهيونية في علاقات الدول الكبرى) و(من نافذة السـفارة) و(خواطر وأحاديث في التاريخ) و(العراق في الوثائق البريطانية) و(حكايات دبلوماسـية) و(الماسونية في الوطن العربي) و(العرب في الاتحاد السوفياتي) و(الجزيرة العربية في الوثائق البريطانية، وتقع في 12 جزءًا، صدرت منها سبعة أجزاء)، وبعـد رحيلـه، صدر كتاب كان قـد أنجز تأليفه ولم يُطبع، وفيه دراسة عن رئيس الوزراء الأسـبق بعنوان (صالح جبـر - سـيرة سـياسـية).
وإذا كانت مؤلفاته ذات قيمـة مهمّـة فإن أهمّها كتابان صدرا سنة 1973 عن مركز الدراسـات الفلسـطينية بجامعة بغداد، وهما (بيروبيجان: التجربة السوفياتية لإنشاء وطن قومي لليهود)، وهي مقاطعة تقع في شمال شرقي روسـيا، أما الكتاب الآخـر فكان (جهاز الدبلوماسـية الإسرائيلية وكيف يعمل) ويتناول طبيعة جهاز الدبلوماسية الإسرائيلية، وتكوينها، وأجهزتها، وكيفية عملها ونقاط الضعف والقوة فيها.
ومن بحثه الدؤوب في التوثيق هو عموده اليومي في جريدة «الشرق الأوسط» اللندنية بعنوان (هـذا اليوم في التاريخ) الذي بلغ 2520 حلقـة كانت تُنشـر لمـدة سـبع سـنوات متتالية، تناولت وقائع وأحداثا مختلفة، وفيها عرض لحياة أهم الشخصيات التي لعبت أدوارًا في التاريخ المعاصر للعراق والبلاد العربية، وبذلك تبين مـدى تفانيه في خـدمة القارئ العربي والبحث الأكاديمي ومحبي المعلومات العامة.
كما حقق مذكرات لشخصيات لعبت أدوارًا مهمة في التاريخ المعاصر، ومهـد لها بمقدمات مستفيضة، كانت أهمها: وجوه عراقية لتوفيق السـويدي، ومرآة الشـام لعبد العزيز العظمة، ومذكرات جعفر العسكري، وخواطر وأحاديث للشاعر معروف الرصافي، ومذكرات رسـتم حيـدر، ومذكرات سـليمان فيضي، ومذكرات محمد حديـد... أما المقالات التي كتبها في مختلف المجلات والجرائد العراقية والعربية فتزيـد عن 500 ومنها ما كتب باللغة الإنجليزية.
وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، أستشهد بما قاله عثمان العمير رئيس تحرير جريدة «الشرق الأوسط» سـابقًا، في مقدمته للمحاضرة التي ألقاها نجدة بقاعة الكوفة في لنـدن بتاريخ 20-3- 1996. وكانت عن الشـاعر جميل صدقي الزهاوي، إذ قال: «لا نريد لـ(نجدة) كما حدث للآخرين، أن نتذكـره عندما يغيـب عن دنيانا بعـد عمـر طويل، إن شـاء الله»، وها هي ذكراه تعود بعـد عشـرين عامًا بالتمام!
أما الإعلامي والباحث عبد الرحمن الشـبيل، فقـد كتب بعـد رحيله بأيام مقالة في جريدة «الشرق الأوسط»، استعرض فيها منجزات الفقيد الراحل في أدب التوثيق والثقافة العربية الحديثة، وأنهى مقالته بالقول: «وما كان يجـدر ببوابات الصحافة أن تمـر وفاة هـذا الباحث العربي القدير عليها دون ذكـر واستحضار لما كان يصرفه من جهـد فكـري، أثرى به ثقافة التوثيق في العقود الماضية، وترك نهجًا فريـدًا بأسـاليب البحث واستقصاء المعلومات التاريخية من مظانها الأولية».
هكـذا كانت حياة نجدة أشـبه بسـحابة روت الأرض بأمطارها الغزيرة، ثم رحلت تاركـة محاصيل نافعة، ألا وهي اهتماماته في الأدب والبحث التاريخي والتأليف، وهنا نذكر وصف الكاتب جليل العطية حين لقبه بـ(أديب المؤرخين). وكذلك تقدير اتحاد المؤرخين العرب بمنحه وسـام المؤرخ العربي الذهبي من الدرجة الأولى، حيث جاء في حيثيات القرار أن منح الوسـام لنجدة فتحي صفوة يأتي نظرًا للإبداعات الفكرية والتاريخية والثقافية التي حققها في الحقول العلمية والثقافية والتراثية.
وهناك أيضًا وسـام الاستقلال الأردني الذي قلده لنجدة، العاهل الأردني الملك عبد الله الأول عام 1950 تقديرًا لخدماته الجليلة، عندما كان قائمًا بأعمال السـفارة العراقية في عمان، وهو في السـابعة والعشـرين من العمر.
لقد حاولت من خلال مدونتي هذه ذكـر سـيرة الفقيد الحافلة بالعطاء، وأن أعبر من ناحية أخرى عما أشـعر به من حزن على فقدانه، الذي هو خسـارة كبيرة للعائلة ولكل محبيه والمستفيدين من علمـه وما تركه من تراث، وكشـف معلومات وثائقية كانت بين طيات التاريخ.