ربما كان أصدق رثاء للمفكر السوري صادق جلال العظم، الذي رحل ليلة أول من أمس في منفاه في العاصمة الألمانية برلين، ما كتبه ابناه، عمرو وإيفان: «لم يعد هناك من ينتقد ذواتنا بعد هزائمنا»، مشيرين إلى كتاب الراحل «النقد الذاتي بعد الهزيمة»، الذي شكل علامة فارقة في الأدبيات العربية ما بعد هزيمة يونيو (حزيران). لم يتعب العظم من ممارسة النقد، سواء اتفقنا معه في قراءته لتراثنا القديم والمعاصر وواقعنا أم اختلفنا. لم يتعب عقله من حمل لواء التنوير ولم يتوقف لحظة عن التفكير السجالي النقدي، محركًا الساكن الراكد، مزعزعًا أركان الثوابت، منذ هزيمة 1967، إلى اندلاع ثورة السوريين ضد نظام الأسد. الثورة التي «فاجأته ولم تفاجئه»!! «نعم ولا في وقت واحد».
لقد فوجئ بالتوقيت وتخوف من احتمالات قمعها بسرعة لما يعرفه عن صلابة المنظومة الأمنية السورية وشراستها القمعية. في واقع شكل عنده وعند غيره من السوريين نوعًا من «عقدة النقص الراسخة بالعجز أمام النظام العسكري الأمني الكلي وسطوته، كما أدى إلى استبعاد أي فكرة أو حتى احتمال لقول لا (فردية أو جماعية) كبيرة له». بلسان المنحازين للثورة يقول صادق جلال العظم: «داريت عقدة النقص في داخلي بالتكيف اليومي البطيء مع هذا الواقع الأمني - الاستبدادي المرير والضاغط دومًا، كما داريتها بالاستبطان الجيد لقواعد وأصول التعامل معه بكل ما تتطلبه من نفاق وتظاهر بالتصديق والقبول والتكتم والتقية والتلاعب بالكلمات والتحايل في مواجهة القوة العارية. لولا ذلك لما تمكنت من الاستمرار في حياتي العادية والقيام بالأعمال الروتينية والمهام اليومية، أو من المحافظة على صحتي النفسية والعقلية». كان هذا كافيًا لينحاز صادق جلال العظم للثورة الشعبية ضد الاستبداد والظلم والقهر بغض النظر عن طبيعة القناعات التي يحملها، إن كانت يسارية أو ماركسية أو وسطية، أو حتى يمينية.
صادق جلال العظم، سليل العائلة البرجوازية المتحدرة من أصول تركية، ولد في دمشق عام 1934، وأتم دراسته الابتدائية فيها، ليتابع دراسته الثانوية في المدرسة الإنجيلية في صيدا (لبنان). حصل على درجة الليسانس في الآداب بامتياز من الجامعة الأميركية في بيروت سنة 1957 (اختصاص فلسفة)، وأتم دراسته العليا في جامعة ييل في أميركا، حيث نال درجة الماجستير في الآداب سنة 1959، ودرجة دكتور في الفلسفة سنة 1961 باختصاص الفلسفة الحديثة. كان صادق جلال العظم طالبًا في السنة الثالثة في الجامعة، عندما اندلعت حرب السويس في مصر خريف عام 1956، وهي اللحظة التي يعتبرها العظم «لحظة التبلور الجاد لوعي سياسي - ثقافي ذاتي محدد في حياتي».
بعد انتهائه من الدراسة في الولايات المتحدة الأميركية، عاد إلى بيروت وعمل أستاذًا مساعدًا في قسم الفلسفة، في الجامعة الأميركية بين عامي 1963 و1968. وبدأ حينها مسيرته الفكرية بإعداد دراسات وكتابة مقالات في مجال تخصصه، وكان يلقي محاضراته العامة في النادي الثقافي العربي في رأس بيروت، طارحًا أفكاره النقدية الجديدة، التي، على الرغم من توجهها للنخبة من المهتمين بالفلسفة وقضايا التنوير، كانت جريئة وصادمة، وأثارت ردود فعل مضادة كانت في بعضها معادية، وهو ما اعتبره «جزءًا من حيوية الثقافة» حين ذاك. وكانت أولى معاركه لدى وضعه دراستين ومحاضرتين بعنوان «الثقافة العلمية وبؤس الفكر الديني» و«مأساة إبليس». ونشرتا في مجلة «دراسات عربية» اللبنانية التي رأس تحريرها، قبل أن يصدرهما في كتاب بعنوان «نقد الفكر الديني». الذي كانت له مفاعيل وأصداء واسعة، فهذا الكتاب الذي لا يتجاوز المائتي صفحة كتب عنه نحو 1500 صفحة، مثيرًا جدلاً واسعًا، وأزعج إدارة الجامعة منه، في الوقت الذي تم فيه إغلاق مجلة «دراسات عربية» وملاحقة صادق جلال العظم من قبل القضاء اللبناني. المفارقة أنه اضطر للفرار من السلطات اللبنانية ليلجأ إلى كنف السلطات السورية في وقت كان فيه التيار كله يجري في الاتجاه المعاكس. بقي في دمشق وبعد مفاوضات مع السلطات اللبنانية، عاد وسلم نفسه ليحاكم ومن ثم أطلق سراحه.
إلا أنه ولدى نشره في فبراير (شباط) 1967 مراجعة نقدية لمؤتمر أقامه شارل مالك في الجامعة الأميركية، اعتبر فيها العظم أن المؤتمر كان «موظفًا بفجاجة لا تصدق»، لخدمة الحلف المعادي لحركة التحرر العربي على العموم وللرئيس عبد الناصر، نقمت عليه إدارة الجامعة واستبعدته من طاقم التدريس فيها، وجاء ذلك بالتزامن مع نشره كتاب «النقد الذاتي بعد الهزيمة» الذي أنجزه أثناء عمله، وأدى قرار الجامعة إلى تعطيل التدريس 3 أيام وخروج مظاهرات طلابية احتجاجًا على قرار الإدارة. أحدث كتاب «النقد الذاتي بعد الهزيمة» صخبًا في العالم العربي، إذ كان أول من تجرأ على وصف ما حصل في 5 يونيو بـ«الهزيمة»، وعلى خلفية نشره هذا الكتاب منع العظم دخول مصر لأكثر من أربعة عقود.
شكلت الطروحات النقدية لصادق العظم حينها علامة فارقة في الساحة الثقافية العربية، لا سيما هذا الكتاب الذي ترك أثرًا عميقًا في الخطاب الثقافي، فيما اعتبره منتقدو العظم التأسيس الأول لظاهرة «جلد الذات» لدى تيار واسع في الأجيال اللاحقة.
بعد استبعاده من الجامعة الأميركية في بيروت، دعته الجامعة الأردنية إلى التدريس في قسم الفلسفة لديها، فذهب إلى عمان الملتهبة صيف عام 1968، لكنه لم يمكث طويلاً، حيث رحّلته السلطات الأردنية إلى بيروت في ربيع سنة 1969، وأدرجت اسمه على قائمة الممنوعين من دخول الأردن. لكنه عاد إليه عام 1970، ليعيش الأحداث التي سبقت أحداث سبتمبر (أيلول) 1971، من ثم ليغادر إلى بيروت مجددًا بعد تدهور الأوضاع هناك.
حينها كان صادق جلال العظم منخرطًا في المقاومة الفلسطينية وقد انضم، باحثًا، إلى هيئة العاملين في مركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية في بيروت، إلا أنه عندما ألف كتاب «الصهيونية والصراع الطبقي» وانتقد فيه تجربة المقاومة الفلسطينية في الأردن، فُصل من مركز الأبحاث، ومُنع من الكتابة في مجلة «شؤون فلسطينية» بأمر مباشر من الزعيم ياسر عرفات، مع أن صادق جلال العظم يعد أحد مؤسسي المجلة ومركز الأبحاث مع دكتور فايز صايغ عام 1965. يقول عن تلك التجربة: «تبيّن لي بسرعة أن المقاومة في العمق هي جزء من حركة التحرر العربي، على العموم، بتركيبتها وقياداتها ومصالحها وعقليتها وعجرها وبجرها. وإذا كانت الحركة الأكبر قد هزمت أمام المشروع الصهيوني فلن يكون مصير الفرع بأفضل من الأصل».
أواخر السبعينات اصطدم صادق جلال العظم الذي تصادم مع التيار الناصري في مصر ولبنان ومع المقاومة الفلسطينية (فتح) مع النظام البعثي في سوريا، فالأخير اعتبره مشاكسًا كبيرًا بعد نشره كتابي «سياسة كارتر» ثم كتاب «زيارة السادات وبؤس السلام العادل» والكتابان منعا في سوريا، وكان قد بدأ للتو عمله بالتدريس في جامعة دمشق بقسم الفلسفة والعلوم الاجتماعية.
ويشار إلى أن صادق جلال العظم وخلال مسيرته الأكاديمية عمل أستاذًا في جامعتي برنستون وهارفارد في أميركا، وفي جامعات هامبورغ وهومبولت وأولدنبورغ في ألمانيا، وفي جامعة توهوكو في اليابان وفي جامعة أنتويرب في بلجيكا. وكان عضوًا في أكاديمية العلوم والآداب الأوروبية ليحوز على جائزة ليوبولد لوكاش للتفوق العلمي سنة 2004 التي تمنحها جامعة توبينغن في ألمانيا
بالتوازي مع ذلك، تابع صادق منهجه السجالي في النقد والتحليل فاشتبك مع أطروحة إدوارد سعيد حول الاستشراق وكان كتابه «الاستشراق معكوسًا» عام 1981 ردًا على طروحات سعيد باعتبارها أطروحة الاستشراق تصب في خانة التيارات السلفية، كما دافع عن المادية في كتابه «دفاعًا عن المادية والتاريخ» (1990) الذي جاء «دفاعًا مزدوجًا» حسب تعبيره، فيقول موضحًا إنه دافع أولاً، عن «الفكر النقدي التاريخي في تناول النظام الرأسمالي العالمي، وثانيًا، دافع عن المادية، لا استنادًا إلى نصوص مسبقة، وإنما استنادًا إلى قراءة لتاريخ الفلسفة الحديثة وللثورة العلمية الحديثة التي أنتجت تلك الفلسفة وحكمت تطوراتها وتحولاتها منذ نهاية القرن الثامن عشر في أوروبا».
وفي التسعينات كان وحده الذي دافع عن سلمان رشدي، كاتب «آيات شيطانية»، الذي أصدر الخميني فتوى تدعو إلى قتله، وكان يعتبره «دفاعًا عن العقل والاجتهاد وحرية الرأي والنقد والإبداع من خلال الدفاع عن الأدب دون تبني محتواه». ثم أصدر العظم كتابيه «ذهنية التحريم وحقيقة الأدب»، و«ما بعد ذهنية التحريم» على تفكيك ذهنية التحريم عبر تحليل مواقف المثقفين العرب من رواية سلمان رشدي. ورغم ما أثاره الكتابان من سجال واسع، فإن صادق العظم يؤكد أن غايته ليست «إثارة الدبابير»، إنما القصد هو «الاشتباك مع القضايا الشائكة».
حين تسلم العظم رئاسة قسم الفلسفة والدراسات الاجتماعية في جامعة دمشق بين عامي (1993 - 1998)، اعتبرت تلك السنوات فترة ذهبية للقسم، إذ شهدت إقامة نشاط فكري سنويًا (الأسبوع الثقافي لقسم الفلسفة)، بمشاركة نخبة من كبار المفكرين العرب إلى جانب أهم أساتذة الفلسفة والاجتماع في جامعة دمشق كالطيب تيزيني وأحمد البرقاوي وصادق جلال العظم، وجورج طرابيشي ومحمد عابد الجابري وعبد الإله بلقزيز وغيرهم، ممن شكل لقاؤهم في كنف جامعة دمشق فضاء فكريًا عزّ نظيره على المستوى العربي، والأهم أن تلك الأسابيع التي لم يحتمل النظام السوري الأمني استمرارها طويلاً، كانت تستقطب مئات الشباب من داخل الجامعة وخارجها، تغص بهم القاعات والأروقة، مما خلق حالة ثقافية فكرية أعادت لدمشق بعضًا من تألقها الثقافي التاريخي. في فترة كانت من أكثر الفترات ركودًا في حقبة حكم حافظ الأسد.
بعد النجاح اللافت الذي حققه نشاط قسم الفلسفة، بدا مستغربًا توقف الأسبوع الثقافي وتنحي صادق العظم عن رئاسة القسم. إلا أنه لم يتوانَ عن الانخراط في الشأن العام فعندما تسلم بشار الأسد السلطة في سوريا خلفًا لوالده وطرح مشروع الإصلاح والتحديث، كان صادق جلال العظم في صفوف المثقفين السوريين الذين أعلنوا ولادة ربيع دمشق، وراحوا يضعون تصوراتهم عن التغيير المطلوب تحقيقه، ورأى العظم أن المثقفين أثبتوا خلال ربيع دمشق عبر ما أنتجوه من كتابات ووثائق وتحليلات وتعليقات وانتقادات ومقالات «أنهم أبناء الحاضر بكل معنى الكلمة أسلوبًا ومعنى ومحتوى.. وأن السنوات الطويلة من سياسة الرقابة والمنع لم تؤثر فيهم بشيء أو تمنع عنهم شيئًا له علاقة بثقافة العالم وفكره وفلسفاته وسياساته وأخباره الأخرى. وليتبين، في التحليل الأخير، أن السنوات المشؤومة إياها ذهبت هدرًا وسدى، وكأنها لم تكن بالنسبة لسلطات الرقابة الحاكمة».
وعندما اندلعت ثورة الشعب السوري ضد حكم الأسد بعد 4 عقود من الديكتاتورية والقمع وانعدام الأفق بإحداث تغيير حقيقي وجاد، وقف صادق العظم إلى جانب الشعب السوري في انتفاضته واعتبرها «ثورة، لكون الهدف هو الإطاحة بالنظام القديم المهترئ والمتداعي الذي لم يعد قابلاً للحياة»، منتقدًا عدم انتصار بعض المثقفين لإرادة الشعب بذريعة أن «المظاهرات والاحتجاجات تخرج من الجامع وليس من دار الأوبرا أو المسرح الوطني على حد تبرير أدونيس». متسائلاً: «كيف يمكن للذين انتصروا في يوم ما لثورة الشعب الإيراني وللاهوت التحرير وكنائسه ولحركات التحرر الوطني في كل مكان تقريبًا أن يرفضوا الانتصار لثورة الشعب السوري بذريعة الخروج من الجوامع!!».
ووصف الثورة السورية بأنها «تصفية حسابات لسوريا مع نفسها ودفع فواتير متأخرة عما سبق لنا من تقاعس وتخاذل وصمت وجبن سوري»، مع التأكيد أن «معذبي الأرض السورية يقومون بثورة على حكم وحزب وطغمة عسكرية - مالية أمنية عائلية متسلطة».
محطات في حياته
* درس الفلسفة في الجامعة الأميركية، وتابع تعليمه في جامعة «ييل» بالولايات المتحدة.
* عمل أستاذًا جامعيًا في الولايات المتحدة قبل أن يعود إلى سوريا ليعمل أستاذًا في جامعة دمشق في 1977 - 1999.
* انتقل للتدريس في الجامعة الأميركية في بيروت بين 1963 و1968.
* عمل أستاذًا في جامعة الأردن ثم أصبح سنة 1969 رئيس تحرير مجلة الدراسات العربية التي تصدر في بيروت.
* عاد إلى دمشق 1988 ليدرس في جامعة دمشق، وتمت دعوته من قبل عدة جامعات أجنبية ثم انتقل إلى الخارج مجددًا ليعمل أستاذًا في عدة جامعات بالولايات المتحدة وألمانيا.
* رئيس رابطة الكتاب السوريين في المنفى
* رئيس تحرير مجلة «أوراق» الصادرة عن الرابطة
* من مؤلفاته
* نقد الفكر الديني
* النقد الذاتي للهزيمة
* الاستشراق والاستشراق معكوسًا
* ذهنية التحريم
* ما بعد ذهنية التحريم
* دفاعًا عن المادية والتاريخ
* في الحب والحب العذري