بعد سنوات تكوين صعبة ودامية أحيانًا في الصين الحديثة، بدأت هذي البلاد الهائلة ذات الحضارة الإنسانيّة العريقة تأخذ اتجاهًا متصاعدًا نحو الاستقرار السياسي والازدهار الاقتصادي، على نحو مكنها من الشروع في استعادة مكانتها التي تستحق في النظام السياسي العالمي، لا سيما في الخمسين سنة الأخيرة. لم يعد ممكنًا في عالم اليوم تجاهل هذه القوة الصاعدة التي رغم تحوّلها بشكل متزايد إلى أحد أعمدة العولمة، فإنها تمثل تجربة جدّ مختلفة من ناحية شكل نظامها السياسي الذي ما زال يهيمن عليه الحزب الشيوعي الصيني، بخبرته التاريخيّة الأكثر التصاقًا بالواقع الصيني منها بالتجارب الشيوعيّة السوفياتيّة أو الأوروبيّة الشرقيّة التي سقطت.
صعود الصين الجديدة هذا أثار في الغرب المعاصر - أكاديميين وسياسيين ومراكز أبحاث، بل وكذلك على الصعيد الشعبي - موجة جديدة من الاهتمام بالدراسات الصينية، في إطار السعي لفهم أفضل لمعطيات تكوين العقل الصيني، وجذوره التاريخية والثقافيّة، وبالتالي تقديم أساس أفضل لإدارة العلاقات والمصالح وتقاطعات النفوذ.
الحقيقة أنّه لا تستقيم أي محاولة جادة لفهم «عالم» الصين، تاريخًا أو حاضرًا أو مستقبلاً، من دون فهم التراث الفكري والثقافي للكونفوشيوسية، وتأثيرها العميق الممتد عبر القرون على سلوك الحكام والشعوب والأفراد في هذه البلاد الشاسعة. وإلى جانب الأكاديميين الصينيين، كان الغربيّون سبّاقين بالطبع - في إطار جهودهم الاستشراقيّة المرتبطة بالإمبرياليّة الأوروبيّة بداية، ولاحقًا بالطموحات الإمبراطوريّة الأميركية - إلى محاولة فهم هذه الفلسفة التي مثلت لقطاع مهم من البشرية ثقافة ومنهج حياة يوميًا عبر مئات السنوات. لكن قراءة معمقة للأدبيات ذات الصلة تكشف عن أن أغلب الجهود الغربيّة المعروفة تركزت على تحليل الجانب الأخلاقي للكونفوشيوسية، مع شبه تجاهل، أو حتى أحيانًا سوء فهم فيما يبدو، لجانبها السياسي الذي هو في واقع الأمر الجانب الأخطر والأشد أهمية، لتعلقه برفاه المجموع، لا مجرد إدارة حياة الفرد، والتسامي بها إلى الفضيلة.
ويعتقد على نطاق واسع بين المعنيين بالشأن الصيني أن السلطات الشيوعيّة الصينية - وهي التي عرفت مع بداياتها الأولى بعدائها الحاد للكونفوشيوسيّة - وبعد التوسع في تطبيق الممارسات الرأسماليّة الطابع، اقتصاديًا ومجتمعيًا، وفشل السياسات الاشتراكيّة في مجال تقديم الإلهام الروحي للمواطنين، تلجأ - وعلى نحو متزايد - إلى توظيف مفاهيم وتعاليم كونفوشيوسية في النطاق العام. فشعار «مجتمع منسجم» الذي غطى العاصمة بكيّن خلال دورة الألعاب الأولمبيّة عام 2008، هو ثقافة كونفوشيوسيّة جذريّة، كما استعار الرئيس الصيني الحالي علنًا وعدة مرات نصوصًا كلاسيكية كونفوشيوسيّة في خطابات هامة له. لكن الإشارة الأشد دلالة على هذه النهضة التي تعيشها الكونفوشيوسيّة في الصين الحديثة، كانت من خلال إطلاق اسم معاهد كونفوشيوس على المراكز والممثليات الثقافيّة الصينيّة في الخارج.
من هنا، تأتي الأهمية الفائقة لكتاب البروفسورة لبنى الأمين عن الفكر السياسي الكلاسيكي للكونفوشيوسية، الصادر حديثًا بالإنجليزيّة عن مطبعة جامعة برينستون في الولايات المتحدة، بوصفه يقدّم إعادة قراءة متكاملة لتراث الكونفوشيوسية في مراحله التاريخية الثلاث، معتمدًا نصوصها الأساسيّة، متجنبة الوقوع في فخ القراءات الثانوية الاستشراقيّة المجتزأة، أو تلك التي تكتفي بفهم العالم الصيني من زاويتها المعرفية الذاتية المتسمة - للأسف - بنزعة مركزيّة غربية. ورغم أن الأمين اطلعت بتوسع على تراث الدراسات الصينية (كطالبة، ومن ثم كأستاذة) لأصول الحكم في أهم الجامعات الأميركيّة المعنيّة بالشأن الصيني، فإنها تقدّم في كتابها هذا ما يمكن اعتباره ثورة تامة على المنهج الغربي المعتمد إلى اليوم في تحديد ماهية المشروع السياسي وغاياته في إطار المنظومة الفكريّة الكونفوشيوسيّة، ومن ثم تطرح قراءة مغايرة بالكامل للقراءات الكلاسيكية - كما هي إلى وقت قريب في الأدبيات عن الصين - لعلاقة المكوّن الأخلاقي بالنظرية السياسية في الكونفوشيوسيّة.
الأمين، بعد قراءة معمقة للنصوص المؤسسة للفكر الكونفوشيوسي، ترى أن المكوّن السياسي فيها ليس بالضرورة مشتقًا من المكوّن الأخلاقي الطاغي على الدراسات الغربيّة عن الكونفوشيوسية، وفلسفتها في تحديد علاقة البشر بالعالم والوجود، بل هما عنصران مستقلان مختلفان في منطلقاتهما وغاياتهما تمام الاختلاف، وأن تصور الكونفوشيوسية السياسية بوصفها نسقًا فكريًا مثاليًا يستهدف إقامة الحياة الفاضلة في المجتمعات - كما ادعى معظم الخبراء الغربيين - إنما هو قراءة غير دقيقة لما ترى الأمين أنها منظومة سياسيّة متكاملة تستهدف أساسًا المحافظة على الاستقرار السياسي، وحفظ النظام العام، وكأنها في ذلك أقرب لأن تكون «ميكافيلية» في ثوب صيني. وتذهب الأمين إلى القول بأن هذا التوتر الناشئ عن التناقض بين المكونات، وكيفيّة تحقيق التوازن بينها، يجعل من الكونفوشيوسيّة بوصفها نظامًا فكريًا مثيرة حقًا للاهتمام، حتى بالنسبة للمعاصرين.
استنتاجات الأمين المثيرة بنيت على مراجعة دقيقة - في ستة فصول - لما اعتبرته مكونات المنظومة السياسية للفكر الكونفوشيوسي، بما فيها شكل العلاقة بين الحكام والمحكومين، وأنواع الحكام، وأساليب صعودهم إلى السلطة، والأدوار الوظيفيّة للحكام ولوزرائهم التنفيذيين وكبار موظفيهم، ومن ثم تحديد الآليات التي ترى النصوص الكونفوشيوسيّة أنه من خلالها يتم تحقيق غايات النظام السياسي بالاستقرار وغياب الفوضى، ومنها أيضًا سياسات الرفاه الاقتصادي والاجتماعي، والطقوس الجماعيّة، واستراتيجيات القوة وسلطة العقاب. إن النظام السياسي في الكونفوشيوسيّة - كما تراه الأمين - غاية بحد ذاته، وليس وسيلة لتحقيق المجتمع الفاضل.
الكاتبة تجادل بأن نصوص الكونفوشيوسيّة الأولى تفهم العمل السياسي على نحو أبعد ما يكون عن المثاليّة الأخلاقيّة الساذجة، وبشكل يسمح بقبول - لا بل وتأييد - الحكام الذين لا يتسمون بالفضيلة أو بالأصل الرفيع، ما داموا قادرين على تأسيس وإدامة استقرار النظام السياسي، وحفظ النظام العام. وهي تقول إنه رغم الانطباع الخاطئ عن اعتبار الكونفوشيوسيّة تدعو أتباعها إلى تجنب العمل السياسي واعتزال الناس، فإن النصوص المؤسسة تبدو حاسمة في تشجيع الكونفوشيوسيين على الانخراط في العمل السياسي والحكومي، حتى في ظل الحكام الفاسدين، أو في إطار حكومات غاشمة.
قراءة الأمين تدفعنا إلى استعاده غرامشي، في تحليله الشديد البصيرة لكيفيّة توظيف الطبقة المهيمنة للآيديولوجيا ومنتجيها كوسيلة لاكتساب شرعيّة الحكم، وإحكام قبول الطبقات الشعبيّة لانفرادهم بالسيطرة على مقاليد الأمور. من هذا المنظور، فإن الكونفوشيوسيّة، بعد هذه القراءة، لم تكن في الواقع التاريخي المحض أكثر من منظومة فكريّة في خدمة المهيمنين في الصين القديمة، وأداة آيديولوجيّة شديدة الفعاليّة لضمان تكريس سيطرتهم على تلابيب المحكومين. ولذلك، فلا غرابة في أن السلطات الحاليّة أعادت توظيفها من جديد، ربما في خدمة الأهداف ذاتها - بالطبع مع اختلاف السياق الاجتماعي والتطور التاريخي.
كتاب البروفسورة الأمين دراسة نوعيّة حاسمة في فهم أسس الكونفوشيوسيّة السياسية كما هي في مظانها، ليس ذلك فحسب، بل وأيضًا فهم الجذور التاريخيّة العميقة للممارسة السياسية في النظام الصيني: الدولة العملاقة التي ستتربع في العام المقبل - وفق الاتجاهات الحاليّة للنمو - على عرش الدولة ذات الاقتصاد الأكبر في العالم، مزيحة من طريقها الولايات المتحدة الأميركية، وذلك بعد أن تربعت دائمًا على عرش الدولة الأكثر سكانًا في العالم.
لبنى الأمين تغاير الاستشراق الغربي في قراءة للكونفوشيوسيّة السياسيّة
في كتاب للباحثة اللبنانية نشرته مطبعة جامعة برينستون في الولايات المتحدة
لبنى الأمين تغاير الاستشراق الغربي في قراءة للكونفوشيوسيّة السياسيّة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة