يبدو غاريث ساوثغيت، المدرب الجديد للمنتخب الإنجليزي، بمثابة الخيار الآمن في الوقت الحاضر، وربما يشكل كذلك الخيار الصائب، رغم حالة الفتور واللامبالاة التي أحاطت قرار تعيينه.
وبالنظر إلى من توالوا قبله على المنتخب الإنجليزي، نجد أن مصائرهم تنوعت ما بين الفصل والطرد والتشنيع والاستقالة والموت، ناهيك بالطبع عمن سقط ضحية غواية «شيوخ المال»، ومن تعرض للإذلال من قبل دولة أجنبية، ومن جعل نفسه عرضة للبيع والشراء. ومثلما الحال مع زوجات هنري الثامن اللائي منين جميعًا بنهايات مأساوية، جاءت نهايات مدربي إنجلترا مثيرة للأسى والحزن، ويبقى هؤلاء المدربون أحياء في الأذهان بسبب الدراما المحمومة التي أحاطت بقرار رحيلهم عن المنتخب، وليس لأي نجاح حقيقي حققوه داخل أرض الملعب.
وبالنظر إلى كل ما سبق، لا يسعنا سوى الترحيب ببزوغ فجر عصر ساوثغيت بالمنتخب. بعد فترة اختبارات عصيبة مر بها المنتخب انتهت برحيل سام ألارديس بعد 67 يومًا فقط في قيادة الفريق، نال غاريث ساوثغيت أخيرًا شرف تولي مسؤولية تدريب إنجلترا، فعلى الأقل، نجح اتحاد كرة القدم هذه المرة في تقديم أمر جديد. تقليديًا، انتمى مدرب المنتخب الإنجليزي إلى فئتين لا ثالث لهما: من يعايشون بالفعل عملية إقصائهم عن منصب المدرب، ومن على وشك التعرض للإقصاء.
وفي خضم هذا المناخ المحموم، جاء ساوثغيت ونجح في خلق فئة ثالثة جديدة تمامًا؛ ذلك أنه أول مدرب للمنتخب يواجه إمكانية فقدانه منصبه قبل حتى أن يناله فعليًا. كما أنه أول من بدأ، بدلاً من إنهاء، فترة تدريبه للمنتخب بتقديمه اعتذارا علنيا. كان ساوثغيت قد بدأ فترة توليه مهمة تدريب المنتخب بسلسلة من الاعتذارات العلنية عن الفوضى التي خلفها سلفه، وعن وجوده بهذا المنصب من الأساس، بل وعن وجود كرة القدم بصفتها صناعة رياضية!
والآن، وبعد توليه رسميًا مهام تدريب المنتخب، لا يبدو أن القرار سيلقى احتفاءً يذكر، وإنما من الواضح أن قدوم ساوثغيت قوبل بقدر كبير من اللامبالاة على نطاق واسع. واللافت بشأن المدرب الجديد، أنه لم يسبق في تاريخ المنتخب أن وقع الاختيار على مدرب يفتقر إلى الخبرة بهذه الدرجة الكبيرة على مستوى الأندية. ولم يسبق أن اختير مدربًا لهذا المنصب رغم حصوله على هذا العدد الضئيل للغاية من الميداليات. كما لم يسبق وأن تقاضى مدرب للمنتخب الإنجليزي منذ بداية الألفية الجديدة مثل هذا الراتب الزهيد (1.5 مليون إسترليني بالعام).
وفيما وراء مشاعر التعاطف مع مدرب مهذب وخلوق، ويحظى بقدر جيد من الشعبية، يبقى هناك كذلك قدر ولو ضئيل من الشعور بالغيرة والحسد. جدير بالذكر، أنه في أعقاب رحيل روي هودجسون عن المنتخب بفترة قصيرة، قال البعض لهاري ريدناب إن ساوثغيت على الأقل يعي نظام اتحاد كرة القدم، فأجاب: «أي نظام؟ النظام الفاشل؟».
لكن هل يحمل ذلك أهمية حقًا؟ دعونا نمعن النظر في هذه الإحصائية الطريفة، أنفق اتحاد كرة القدم 55 مليون جنيه إسترليني على أجور مدربي المنتخب منذ بداية القرن الـ21. وخلال هذه الفترة، وصل المنتخب إلى ثلاثة أدوار ربع نهائي، وأخفق في اجتياز مرحلة التصفيات خلال أي وقت على امتداد العقد الماضي. وإذا نظرنا إلى فترة أبعد قليلاً، سنجد أن المنتخب الإنجليزي لم يفز بمباراة تصفية حاسمة أمام منتخب فائز ببطولة كبرى منذ بطولة كأس العالم عام 1966. ووصل إلى دور قبل النهائي واحد بعيدًا عن أرض الوطن على مدار 66 عامًا.
وتكشف الإحصاءات السابقة عن وجود نمط متسق ومتكرر، وربما تكشف عن الهوية الوطنية الضائعة. ويظل التوجه الرئيسي مستمرًا، فلا تزال إنجلترا تنجب لاعبين بارعين يصلون إلى البطولات مرهقين وتبدو عليهم أمارات اللامبالاة والذين تتعرض مسيرتهم الكروية إلى الاستنزاف من قبل طوفان المواجهات المشتعلة دونما توقف بين الأندية.
من ناحية أخرى، ثمة عقبة هيكلية قائمة هنا، ذلك أنه لا يوجد بأي دولة أوروبية كبرى فكرة وجود كيانين منفصلين يتوليان إدارة شؤون الدوري والفرق الوطنية، مثلما يحدث داخل إنجلترا منذ القرن الـ19. الأمر الذي تفاقم الآن مع انحصار دائرة التركيز والاهتمام بصورة شبه تامة على نجاح الدوري الممتاز. وبمقدور أي شخص يتولى تدريب المنتخب اختيار اللاعبين وأن يطلب منهم اللعب. والآن، يأتي الدور على شخص جديد لتولي منصب مدرب المنتخب ليقدم حلقة جديدة من مسلسل من العيوب الهيكلية.
وبالنظر إلى انحسار الاهتمام بالكرة على الصعيد الدولي بوجه عام، وإلى برنامج المنتخب الإنجليزي تتمثل أهم مواجهة فيه على مدار الشهور الـ18 المقبلة في مباراة على أرض الوطن أمام سلوفينيا، فإن تعيين ساوثغيت يبدو جزءًا من قصة أوشكت على الوصول إلى سطر النهاية.
ورغم الأزمة الوجودية التي تواجهها كرة القدم الإنجليزية، فإن ثمة أسبابا منطقية تدعو إلفى الاعتقاد بأن ساوثغيت الشخص المثالي للمنصب في اللحظة الراهنة. الملاحظ أن الجزء الأكبر من الانتقادات الموجهة إلى قرار تعيينه تركزت حول افتقاره إلى الكاريزما وسيرة ذاتية ناجحة ومبهرة تليق بمدربي الصف الأول. ومع هذا، فإن هذا الافتتان بالأسماء الشهيرة اللامعة تحديدًا ما تسبب في إعاقة طريق الكرة الإنجليزية، هذا السعي الحثيث وراء بطل أسطوري أقرب إلى «سوبرمان» يملك قوى خارقة تمكنه بصورة ما من إصلاح قرن كامل من الأنظمة الفاشلة.
بدلاً من ذلك، يمثل ساوثغيت شخصية تعمل بدأب يضطلع بواجباته العامة بروح مدرس جغرافيا، شاب طموح يسارع إلى الدخول إلى الفصل قبل موعد حصته بثلاث ساعات لإعداد أدوات الشرح. في الواقع، ساوثغيت من نوعية الشخصيات الدؤوبة التي تعمد إلى صعود السلم بهدوء مع اكتسابه مزيدا من الخبرة الفنية.
وإذا كان ساوثغيت يبدو بمثابة الخيار الآمن، فإن ذلك ربما يعود أيضًا إلى كونه الخيار الصائب. ومثلما سبق وأن أشار الكثيرون من قبل، فإنه من بين ستة أشخاص جلسوا حول الطاولة خلال المقابلة التي أجريت معهم، كان هناك واحد فقط يملك المؤهلات الحقيقية التي تؤهله لتدريب المنتخب الإنجليزي. ولحسن الحظ، كان ساوثغيت هو ذلك الشخص. جدير بالذكر، أن الآخرين هم: غريغ كلارك، ومارتن غلين، ودان أشورث، وغريم لو سوكس، وهوارد ويلكنسون البالغ من العمر 73 عامًا.
جدير بالذكر، أن ساوثغيت شارك لاعبا مع المنتخب الإنجليزي في 57 مباراة، وارتدى شارة القائد خلال مباراة نهائي بإحدى البطولات الأوروبية. ولعب تحت قيادة تيري فينابلز وغلين هودل وسفين غوران إريكسون. والواضح أن ساوثغيت يبدي اهتمامًا كبيرًا بتنمية مهارات اللاعبين والهياكل والنظم التدريبية، وعلى امتداد السنوات الـ3 الماضية، تولى تدريب المنتخب الإنجليزي تحت 21 عامًا. إذن، ماذا أيضًا من المفترض عليه تحقيقه؟ أن يصول ويجول في أرجاء الدوري الممتاز ليكتسب عادات مثيرة للسخرية ويتحسر شاكيًا من المباريات الدولية الودية التي جرت على مدار الأعوام الـ20 الماضية مثلما فعل سلفه الذي كان تعيينه قد استقبل باحتفاء بالغ وضجة كبيرة!.
حقيقة الأمر، أن الجهود الحثيثة التي بذلها البعض للتقليل من قيمة النجاح الذي حققه ساوثغيت مع منتخب الشباب تحت 21 عامًا، حملت صبغة إنجليزية تقليدية. جدير بالذكر، أن هذا المنتخب في ظل قيادة ساوثغيت خسر بدور المجموعات في بطولة «يورو 2015» أمام فريق برتغالي يضم أربعة من النجوم على المستوى الأوروبي، لكنه عاد وألحق الهزيمة بالفريق ذاته في طريقه نحو الفوز ببطولة تولون، الصيف الماضي.
وخلال توليه تدريب منتخب تحت الـ21 فاز ساوثغيت في 27 مباراة من إجمالي 33، وعمل مع أسماء لامعة مثل جاك بتلاند وجون ستونز ولوك شو وإريك دير وديلي ألي ورحيم سترلينغ وماركوس راشفورد وهاري كين. وتحت قيادته، لعب الفريق بأساليب متنوعة، وتنقل ما بين الاعتماد على الاستحواذ على الكرة وشن هجمات مرتدة من العمق. وأرجو أن يجيبني أحد: ما الذي يبدو هنا سببا مقنعا لوصف ساوثغيت بأنه شخصية رتيبة أو باهتة لا يستحق خبر اختياره لتدريب المنتخب الاهتمام؟
بدءًا من الآن، من المنتظر أن يظهر ساوثغيت في المدرجات وعلى وجهه علامات الاهتمام والتركيز خلال الكثير من مباريات الدوري الممتاز الفترة المقبلة قبل اللقاءين الدوليين المقررين في مارس (آذار) أمام ألمانيا وليتوانيا. وتبدو التحديات القائمة أمامه داخل الملعب واضحة تمامًا. ويتعين عليه حسم مسألة ما إذا كان ينبغي لواين روني المشاركة في التشكيل الأساسي للمنتخب. في الظروف المثالية، من المفترض أن يتخذ ساوثغيت هذا القرار بناءً على مستوى الأداء واللياقة البدنية التي يظهر بها روني خلال الشهور الثلاثة المقبلة. ومن المنتظر كذلك أن تتركز أنظاره على جو هارت في حراسة المرمى، كما أن المزيج القائم بخط الوسط في حاجة إلى مزيد من الاهتمام، في ظل التراجع الحالي للمهارة لحساب القوة البدنية والقدرة على الجري.
في كل الأحوال، تظل الحقيقة المؤكدة أن المنتخب الإنجليزي أصبح لديه الآن مدرب شارك باللعب فعليًا في دور قبل النهائي ببطولة كبرى، ويتصرف بأخلاق رفيعة وأدب جم. ومن يدري، ربما ينهي ساوثغيت أيامه مع المنتخب على النحو الصورة المضطربة التي بدأ بها، وربما لا، لكن في كل الظروف يبقى ساوثغيت الرجل المناسب للمرحلة.
ساوثغيت.. رجل المرحلة لقيادة المنتخب الإنجليزي
رغم حالة الفتور واللامبالاة التي أحاطت قرار تعيينه ومعرفة أنه لا يملك قوى غامضة ولا عصا سحرية
ساوثغيت.. رجل المرحلة لقيادة المنتخب الإنجليزي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة