أعربت الغالبية العظمى من المواطنين الروس عن رغبتهم بالتقارب مع الغرب، هذا في وقت تمر فيه علاقات روسيا مع العالم الغربي في أسوأ مراحلها منذ سقوط الاتحاد السوفياتي وطي صفحة «الحرب الباردة». لكن لا تلوح في الأفق مؤشرات تدعو للتفاؤل بشأن تحسن تلك العلاقات مع العواصم الغربية، التي تواصل توسيع عقوباتها ضد موسكو بسبب الأزمتين الأوكرانية والسورية، وتكرر تحميلها مسؤولية «هجمات إلكترونية»، خلال الانتخابات الرئاسية الأميركية، إضافة إلى تقارير حديثة تتهمها من خلال هذه الهجمات بالتأثير على سير العملية الانتخابية في بلدان أخرى. موسكو ما زالت مستمرة في نفي الاتهامات الموجهة لها، والتلويح بخصوص العقوبات بتدابير «جوابية» ستتخذها ردا على ذلك.
وكان مركز «ليفادا سنتر» المستقل لمسح الرأي العام قد نشر يوم أول من أمس نتائج استطلاع للرأي أظهرت أن ما يزيد عن ثلثي المواطنين الروس، أو 71 في المائة منهم، يؤيدون توسيع الروابط السياسية والثقافية والاقتصادية مع دول الغرب، وهذا مؤشر قياسي قريب من مؤشر عام 2000، حين أعرب 76 في المائة من المواطنين الروس عن تأيدهم ورغبتهم بالتقارب مع الغرب. ويشير الباحثون الاجتماعيون من «ليفادا سنتر» إلى أن ظهور هذه الرغبة لدى المواطنين باتجاه الغرب ككل ترافق مع تراجع النظرة السلبية نحو الولايات المتحدة. ومقارنة بين نتائج استطلاع الرأي الحالي ونتائج استطلاع رأي مماثل أجري مطلع العام، إذ كان 64 في المائة من المواطنين الروس ينظرون «سلبا» إلى الولايات المتحدة في شهر يناير (كانون الثاني) 2016، فقد تراجعت نسبتهم إلى 56 في المائة بموجب نتائج استطلاع الرأي الأخير، كما تراجعت النظرة «سلبا» نحو أوروبا إلى 54 في المائة.
ويرى أليكسي غراجدانيكين نائب مدير مركز «ليفادا سنتر» أنه «هناك بالفعل طلب في المجتمع على تطبيع العلاقات مع الدول الغربية الكبرى، إلا أن المواطنين الروس في غالبيتهم يرون أن المبادرة في هذا الاتجاه يجب أن تصدر عن الغرب، ولا يفهمون لماذا تؤثر سياسة بلدهم (روسيا) في دولة مثل أوكرانيا على العلاقات مع الغرب». أما التحول النوعي في النظرة إلى الولايات المتحدة فقد يكون نتيجة الخطاب الإعلامي الروسي وفق ما يقول غراجدانيكين، موضحا أن الإعلام الروسي كان يشير إلى احتمال «عودة الدفء» إلى العلاقات الأميركية -الروسية بعد فوز ترامب، وقد أثر هذا على مزاجية الرأي العام.
إلا أن نظرة سريعة إلى طبيعة العلاقات بين روسيا والعالم الغربي في الوقت الراهن كافية لإدراك أن «رياح السياسة تجري بما لا تتمناه أشرعة المواطنين الروس» بخصوص التقارب وتطبيع العلاقات مع الغرب. وبالتزامن مع الإعلان عن نتائج استطلاع الرأي، تناقلت وسائل الإعلام الروسية الأنباء عن توسيع كندا لعقوباتها ضد روسيا بسبب الأزمة الأوكرانية، وقالت وزارة الخارجية الكندية إن هذه الخطوة جاءت ردا على الانتخابات البرلمانية الروسية التي لا تعترف كندا بنتائجها، بسبب مشاركة نواب من القرم فيها. وقد سارعت الخارجية الروسية إلى وصف توسيع العقوبات من جانب كندا بأنها «خطوة غير ودية» حسب قول ماريا زاخاروفا المتحدثة الرسمية باسم الخارجية الروسية التي توعدت في تصريحات يوم أمس بأن «هذه الخطوة لن تبقى دون رد من جانب موسكو، وكل المسؤولية عن العواقب السلبية يتحملها الجانب الكندي». واعتبرت زاخاروفا أن «الحكومة الكندية وعوضا عن العمل على تصحيح العلاقات التي توترت دون أن تكون روسيا سبب ذلك، فإنها (أي الحكومة الكندية) قد انساقت مجددا خلف إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما التي جعلت من نهج العداء لروسيا توجها رئيسيا للسياسة الخارجية الفاشلة لتلك الإدارة».
كما دعا البرلمان الألماني يوم أول من أمس إلى تشديد العقوبات ضد روسيا على خلفية الوضع في سوريا. وزاد الأمر عن ذلك من برلين بعد تصريحات أدلى بها برونو كال، رئيس الاستخبارات الألمانية، أكد فيها «وجود معطيات لدى الاستخبارات الألمانية تشير إلى أن التدخل في العملية الانتخابية جاء من هذا المصدر» أي روسيا، التي تشير تقديرات الاستخبارات الألمانية إلى أنها حاولت التأثير على سير العملية الانتخابية خلال الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة. في غضون ذلك حذر كال من أن الانتخابات البرلمانية العامة المقررة في ألمانيا عام 2017 قد تصبح عرضة لهجمات إلكترونية، معربا عن قناعته بأنه «لدى المجرمين هدف هو إسقاط شرعية العمليات الديمقراطية بحد ذاتها». في ظل هذا الواقع السياسي لا يبدو أن تمنيات 71 في المائة من المواطنين الروس بالتقارب مع الغرب ستكون قابلة للتحقيق في وقت قريب.
وأضاف كال، الرئيس الجديد لجهاز الاستخبارات الخارجية في ألمانيا (بي إن دي) من الحملات المضللة التي يتم إدارتها من موسكو. وفي تصريحات لصحيفة «زود دويتشه تسايتونغ» الألمانية، قال كال في إشارة إلى الأنشطة الروسية الخاصة بالإنترنت: «ثمة شواهد على وجود هجمات إلكترونية ليس لها غرض آخر سوى إحداث قلاقل سياسية». وتابع كال، كما جاء في تقرير الوكالة الألمانية للأنباء: «وهنا تتم ممارسة ضغط لا يمكن القبول به على الخطاب العام والديمقراطية».
يذكر أن جيمس كومي، مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي (إف بي آي)، كان قد ذكر مؤخرا أن «دولة قومية» تحاول تقويض العملية الديمقراطية في بلاده من الخارج، وكان قراصنة إنترنت (هاكرز) سرقوا بيانات من مقر الحزب الديمقراطي الذي تنتمي إليه مرشحة الرئاسة الخاسرة هيلاري كلينتون. وبعد ذلك قام من يعرفون بـ«متصيدي الإنترنت» بنشر أخبار كاذبة لصالح دونالد ترامب، الرئيس الأميركي المنتخب، والذي كان آنذاك مرشح الحزب الجمهوري للرئاسة.
يذكر أن لفظة «متصيدي الإنترنت» المحترفين تطلق على مستخدمي الإنترنت الذين يديرون دعاية لصالح الجهات التي تكلفهم بذلك. وأكد كال أن هناك «أدلة» على وجود دور لروسيا في هذه الأنشطة ولكنه قال في نفس الوقت إن نسب هذه الأنشطة إلى جهة حكومية مسألة صعبة من الناحية التقنية، لكن هناك أمورا تؤيد أن مثل هذه الأنشطة تتم «برغبة أو على الأقل بغض الطرف من قبل الدولة».
وحذر كال من تنامي خطر هذه الأنشطة بالنسبة لألمانيا التي ستشهد انتخابات برلمانية عامة في خريف العام المقبل واختتم كلامه بالقول في المقابلة: «أوروبا وألمانيا على وجه الخصوص، في بؤرة هذه المحاولات للتشويش».
رياح السياسة تجري بما لا تشتهيه موسكو
الغرب يوسع عقوباته والرأي العام الروسي يريد التقارب معه
رياح السياسة تجري بما لا تشتهيه موسكو
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة