خسر قطاع التعليم في الجمهوريات السوفياتية السابقة الكثير من الامتيازات والمهارات والإمكانات خلال الفترة الأسوأ في تاريخه، التي أثرت بصورة كارثية على العلوم. وبدأت جودة التعليم في التدهور قبل سقوط الاتحاد السوفياتي ومع دخول البلاد مرحلة «البيروسترويكا»، عهد ميخائيل غورباتشوف آخر الزعماء السوفيات.
وتعود أسباب هذا التدهور إلى مجموعة من العوامل الموضوعية المتصلة بطبيعة وتداعيات المرحلة. وشكلت بدورها بدايات تهاوي وانحدار هيبة وسمعة المؤسسات التعليمية. حينها، بدت الدولة غير قادرة على تقديم التمويل الضروري للجامعات، وعجزت عن دفع معاشات شهرية للطواقم التعليمية والعلمية البحثية في الجامعات، بما يتناسب مع التحولات الاقتصادية وارتفاع الأسعار والغلاء الذي ضرب معظم جوانب الحياة. كما تراجعت رقابة الدولة الصارمة عبر مؤسسات الحزب الشيوعي والأمن على المؤسسات التعليمية والبحثية.
شهادات للبيع
وضمن تلك الظروف، انتشرت ظاهرة الرشاوى بسرعة وعلى مجالات واسعة، وأصبح بوسع الطلاب، وغير الطلاب حتى، الحصول مقابل مبالغ معينة على شهادات بمستوى ماجستير أو دبلوم، وحتى الدكتوراه أحيانًا. ولعل أحد أخطر نتائج تلك الظاهرة أن معظم دول العالم ما زالت حتى الآن تتعامل بشك مع أي شهادة جامعية مصدرها جامعات في الجمهوريات السوفياتية السابقة، هذا فضلا عن عدم اعتراف عدد كبير من الدول بالشهادات الصادرة عن العدد الأكبر من الجامعات في تلك الجمهوريات.
أما في الجانب العلمي – البحثي، فقد واجهت معظم الجامعات في الجمهوريات السوفياتية السابقة أزمة جدية حين وجدت نفسها معزولة علميا عن روسيا، التي شكلت إبان العهد السوفياتي «المركز العصبي الرئيسي» بما في ذلك في المجال العلمي - البحثي والتدريسي الجامعي. وبعد أن كانت تعتمد في نشاطها على منهاج موحد يتم وضعه من قبل الوزارات المعنية في الدولة السوفياتية، وتعتمد اللغة الروسية في تدريسه، وجدت الجامعات في الجمهوريات السوفياتية الأخرى غير روسيا نفسها غارقة في مجموعة من المشكلات المعقدة التي أثرت سلبا في آليات عملها ومستواها العلمي. حيث برزت بالدرجة الأولى مشكلة إعداد برامج تعليمية وطنية لا تمت بصلة للبرامج الروسية، وهذه الرغبة كانت مدفوعة بصورة رئيسية بالوضع السياسي في تلك الجمهوريات، ولا سيما فكرة تشكيل الهوية الوطنية بعيدا عن التأثر بالثقافة الروسية؛ الأمر الذي تطلب إعادة وضع مناهج علمية للجامعات تختلف عن تلك التي كانت معتمدة في الجامعات الروسية.
مناهج جديدة وتحديات
عملية وضع مناهج تدريسية جامعية جديدة لم تكن بالأمر السهل لجملة من الأسباب الموضوعية، أولها عدم توفر التمويل الضروري لمثل تلك العملية، أما الجانب الأهم الذي أثر في هذا التوجه؛ فهو استمرار تدفق الطلاب الأجانب، من دول العالم الثالث بصورة رئيسية على المؤسسات التعليمية في تلك الجمهوريات، وكان هؤلاء يصرون دوما على أن تجري عملية التدريس باللغة الروسية؛ لأنها اللغة الأكثر انتشارا، وبقيت متداولة لغة ثانية بصورة رسمية أو غير رسمية في كل الجمهوريات السوفياتية السابقة. من جانب آخر، تلقي العلوم باللغة الروسية كان يبقي للطالب الجامعي إمكانية الانتقال لاحقا إلى واحدة من الجامعات الروسية، التي وإن كان مستواها قد تراجع أيضًا، إلا أنها بقيت محافظة على مستوى أفضل من نظيراتها في الجمهوريات الأخرى. ولحل تلك المشكلات اعتمدت غالبية الجمهوريات السوفياتية نهجا شبيها بالنهج الذي اعتمدته روسيا نفسها. حيث أخذت تستفيد من خبرات التعليم في الدول الغربية، وجلبت برامج تدريسية من هناك، لكن لا لتكون بديلا عن المنهاج الرئيسي، بل إضافة إيجابية عليه تغنيه علميًا؛ ما يعني في نهاية المطاف أن الطلاب الجامعيين سيتمكنون من الحصول على العلوم والمعارف التي تؤهلهم في المستقبل للعمل في أي دولة. أما معضلة اللغة الروسية، فقد قررت غالبية الجامعات الكبرى الحفاظ عليها لغة ثانية للتدريس، وهذا الخطوة كانت ضرورية؛ لأنها تضمن لتلك الجامعات مصدر دخل إضافيا بفضل الطلاب الذين يتوافدون للدراسة بموجب عقود مالية مع الجامعة.
ومع أنها خلقت الكثير من التعقيدات للمؤسسات التعليمية - البحثية، إلا أن مرحلة الأزمة تلك ساهمت بشكل مباشر بولادة مؤسسات تعليمية حديثة جعلها أكثر قدرة على مواكبة المؤسسات التعليمية الشهيرة في منهاجها التعليمي - البحثي وفي آليات عملها، مع استمرار العمل في معظم تلك الجامعات على تحقيق أفضل مستويات بغية شغل مكانة مرموقة بين المؤسسات التعليمية عالميا. ومن المظاهر الإيجابية لتلك المرحلة عملية التبادل بين الجامعات في العواصم السوفياتية سابقا والجامعات الشهيرة في العواصم الأوروبية والولايات المتحدة. وشملت تلك العملية تبادل الطلاب وتبادل المدرسين الجامعيين من مختلف المستويات، وهذا كله في إطار عنوان عريض «تبادل الخبرات العلمية»، التي تساهم حتى يومنا الحالي في توسيع القدرات والمهارات المعرفية - التعليمية في جامعات الجمهوريات السوفياتية سابقًا، بما في ذلك افتتاح جامعات جديدة تختص بتدريس المواد التي تتماشى اقتصاديا وتقنيا مع متطلبات العصر.
بدايات متواضعة
اليوم وبعد مضي ربع قرن على سقوط الاتحاد السوفياتي الذي وضعها في حالة تيه نوعا ما، فإن العدد الأكبر من الجامعات في الجمهوريات السوفياتية السابقة قد تمكن من تجاوز القسط الأكبر من آثار تلك الأزمة، والأهم أنها تمكنت من وضع برامج تعليمية حديثة عبارة عن مزيج بين أسس العلوم في المنهاج السوفياتي - الروسي والمناهج في الدول الغربية، وهذه العملية جرت على مراحل وبهدوء ونظرا للحاجة العلمية البحثية بذلك، وليس لأنها ضرورة تحت إملاءات التيارات السياسية التي كانت في التسعينات تدعو إلى الانسلاخ في كل شيء عن روسيا بصفتها وريثة الدولة السوفياتية. في غضون ذلك، حرصت كل تلك الجامعات على افتتاح فروع تعتمد في التدريس باللغة الإنجليزية، التي يصفها كثيرون بأنها لغة العلوم ولغة العصر، هذا فضلا عن الاستفادة من مدرسين أجانب يقومون بالتدريس في عدد من الجامعات الكبرى، ولا سيما في دول مثل كازاخستان وروسيا وأوكرانيا وأذربيجان.
وعلى الرغم من كل ما حققته من تقدم فإن الجامعات في الجمهوريات السوفياتية السابقة ما زالت في بدايات الدرب نحو الصدارة العالمية. في غضون ذلك، تبقى الجامعات الروسية في المرتبة الأولى مقارنة بالجامعات في الجمهوريات السوفياتية الأخرى، حيث احتلت جامعة موسكو الحكومية المرتبة العاشرة هذا العام في التصنيف الصادر عن وكالة «Round University Ranking» الروسية الذي شاركت فيه أيضا جامعات من جمهوريات سوفياتية سابقة. ووفق التصنيف ذاته الذي شاركت فيه 700 جامعة من الفضاء السوفياتي السابق، جاءت جامعة تومسك الحكومية في المرتبة الـ100، بينما جاء معهد موسكو للطيران أخيرا بين المؤسسات التعليمية الروسية واحتل على تلك القائمة المرتبة الـ205. إلا أن تلك النتائج لا تقلل من أهمية مؤسسات تعليمية في جمهوريات أخرى، منها على سبيل المثال لا الحصر الجامعة الوطنية الكازاخية المسماة باسم «غوميليوف»، وكذلك جامعة الفارابي الكازاخية الوطنية، وفي أذربيجان تتميز جامعة باكو الوطنية التي يعود تاريخها إلى مطلع القرن الماضي، وتعتبر اليوم من أفضل الجامعات في الفضاء السوفياتي السابق، وفي أوكرانيا لا يمكن التقليل من شأن جامعة شيفتشينكو الحكومية، التي كانت لها مكانتها في الهرم التعليمي السوفياتي، وما زالت حتى اليوم تحافظ على مكانة مميزة مقارنة بمثيلاتها في الفضاء السوفياتي.
الجامعات في الجمهوريات السوفياتية السابقة تجتهد لاستعادة عافيتها العلمية
كانت سمعتها في التسعينات في الدرك الأسفل.. وواجهت تحديات كبيرة
الجامعات في الجمهوريات السوفياتية السابقة تجتهد لاستعادة عافيتها العلمية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة