بدا لقاء الغداء مع صحيفة «نيويورك تايمز» بمثابة هدنة مؤقتة مع الإعلام الذي يكرهه الرئيس المنتخب دونالد ترامب، لا سيما بعد تسريب معلومات عن اجتماع صدامي سبق المقابلة مع إداريي وكبار صحافيي شبكات التلفزيون الكبرى.
ترامب الذي بدأ قبل أيام باختيار فريق إدارته من مقر إقامته في «برج ترامب»، ترك مكان عمله لإجراء مقابلة واسعة النطاق بشأن خططه، وتوجه إلى مبنى صحيفة «نيويورك تايمز»، التي هاجمها مرارا خلال حملته الانتخابية واعتبرها جزءا من نخبة واشنطن السياسية الموالية للحزب الديمقراطي. وكان قد أعلن الرئيس الأميركي ترامب الثلاثاء عبر «تويتر» أنه ألغى مقابلة مقررة مع صحيفة «نيويورك تايمز» التي يتهمها باستمرار بالتعامل معه بانحياز. وغالبا ما هاجم ترامب في تغريداته الصحيفة، و آخرها الثلاثاء، واصفا إياها بـ«الفاشلة»، لكنه نأى بنفسه عن التهديدات بتشديد قوانين التشهير. وقال ترامب بشأن الصحيفة: «أنا أقرأها بالفعل. مع الأسف»، متابعا: «لو لم أفعل لطال عمري 20 عاما.. رغم أنني أعتقد أنها تعاملت معي بقسوة شديدة». وتطرق الحوار الموسع إلى المصالح التجارية لترامب وقضية تغير المناخ وسوريا والنزاع الإسرائيلي الفلسطيني والدعم من الجماعات اليمينية المهمشة.
في المقابلة، تراجع الجمهوري دونالد ترامب عن عدد من وعود حملته الانتخابية. فخفف من حدة موقفه من المناخ، ولمح إلى إمكانية عدم ملاحقة هيلاري كلينتون قضائيا، في حين غير رأيه بشأن التعذيب، لكنه ظل غامضا فيما يتعلق بسياساته، خصوصا الخارجية.
السياسة الخارجية
ونقلت الصحيفة عن الملياردير الجمهوري أنه يرغب في أن يكون من ينتزع اتفاق سلام لإنهاء النزاع المستعصي بين إسرائيل والفلسطينيين.
وأعلن ترامب أنه يود أن «يكون من يتوصل إلى اتفاق سلام بين إسرائيل والفلسطينيين». وقال: «سيكون هذا إنجازا عظيما»، بعدما كان قد اقترح، خلافا للموقف الأميركي التقليدي، الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل. وأضاف رجل الأعمال الثري أن صهره غاريد كوشنر زوج ابنته إيفانكا، يمكن أن يضطلع بدور في مفاوضات سلام محتملة. وكان كوشنر، وهو رجل أعمال ومستثمر، مستشارا قريبا من ترامب خلال الحملة الانتخابية. وبعد فوز ترامب، طلب المشاركة في المطالعات الأمنية اليومية الخاصة بالبيت الأبيض، وكان حاضرا خلال لقاء ترامب مع رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي في 17 نوفمبر (تشرين الثاني)، في أول اجتماع يعقده مع قيادي أجنبي.
اليمين الإسرائيلي أبدى ارتياحه لفوز ترامب بالرئاسة في 8 نوفمبر، ورأى في ذلك فرصة لتسريع الاستيطان في الضفة الغربية والقدس الشرقية المحتلتين حتى القضاء على فكرة قيام دولة فلسطينية مستقلة. ومباشرة بعد فوزه عبر الإسرائيليين عن ارتياحهم لانتخاب «صديق لإسرائيل»، وطالبوه بأن يوفي بوعوده التي قطعها على نفسه.
غير أن فريق ترامب دعا اليمين الإسرائيلي إلى الاعتدال في التعبير عن حماسته، بحسب ما نقل وزير الدفاع أفيغدور ليبرمان. وبذل وزير الخارجية في الإدارة المنتهية ولايتها، جون كيري، جهودا مكثفة على مدى أشهر لإحراز تقدم في مفاوضات السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين، من دون تحقيق نجاح. والمفاوضات المباشرة بين الطرفين معطلة تماما منذ سنتين ونصف سنة.
لكنه بقي غامضا بشأن حمام الدم في سوريا مؤكدا «إنهاء الجنون الساري». لكنه تكلم عن «أفكار قوية» بخصوص سوريا، دون أن يوضح، رغم تكرار السؤال. وقال إنه تكلم مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتن، دون أن يوضح ما دار بينهما، مضيفا: «جميل جدا أن نعمل مع بعض بتناسق».
اتفاقية المناخ
وجاء انتخاب ترامب قبل أيام من انعقاد قمة المناخ في مراكش، وتركز الحوار حول التزامات أميركا تجاه هذه القضية التي عارضها ترامب خلال حملته الانتخابية. والآن بعد انتخابه وانتظار توليه رسميا رئاسة البلد بدا ترامب أكثر واقعية، معترفا بالعلاقة بين الانبعاثات الغازية والتغييرات المناخية التي يتعرض لها كوكب الأرض وارتفاع منسوب المياه بسبب الذوبان الجليدي وارتفاع درجات الحرارة.
كان ترامب توعد بـ«إلغاء» الاتفاق الذي تبناه 195 بلدا نهاية 2015 خلال قمة باريس المناخية. ويهدف الاتفاق إلى احتواء ارتفاع حرارة الأرض بحيث يبقى دون درجتين مئويتين. وكرر أثناء حملته الانتخابية أمام الحشود في منطقة «حزام الصدأ» (القلب الصناعي للبلاد قبل هجرة المصانع والجنوب، وهي حشود ضمت عمال مصانع ومناجم فحم ونفط)، أنه سيمزق وثيقة اتفاق المناخ العالمي. وفي 2012 قال في تغريدة إن «مفهوم تغير المناخ تم اختلاقه من طرف الصينيين ولصالحهم للقضاء على تنافسية التصنيع الأميركي».
وصادقت الولايات المتحدة، ثاني أكبر الدول الملوثة بعد الصين، على الاتفاق في بداية سبتمبر (أيلول) بدفع من الرئيس باراك أوباما. وأقر ترامب ردا على سؤال كاتب «نيويورك تايمز» توماس فريدمان، بإمكانية وجود رابط بين أنشطة التصنيع البشرية وتغير المناخ. وقال: «أعتقد أن هناك علاقة بين البشر والتبدل المناخي، هناك شيء ما»، موضحا أنه ينبغي معرفة «كم سيكلف تنفيذ (اتفاق باريس) شركاتنا» وأي أثر سيكون له على التنافسية الأميركية. كما بدا كأنه يخفف من حزم وعوده بسحب الولايات المتحدة من اتفاقات على غرار اتفاقية باريس للمناخ في العام الماضي التي تلزم كل دولة بتخفيض انبعاثاتها من الغازات الدفيئة. قال ترامب لمديري وصحافيي «نيويورك تايمز» أثناء غداء في مقرها: «إنني أنظر إلى هذا الأمر من كثب وبانفتاح». حسبما نقلت الصحيفة.
هيلاري كلينتون والتهديد بالمحاكمة
كما تراجع عن تهديدات بمقاضاة خصمه الديمقراطية السابقة هيلاري كلينتون. فأثناء الحملة اتهم ترامب كلينتون بإتلاف رسائل إلكترونية للتغطية على انتهاكات وتزوير في مؤسستها الخيرية، فيما هتف أنصاره «اسجنوها». لكن أكد الرئيس المنتخب للصحيفة أن ملاحقة الزوجين بيل وهيلاري كلينتون «ستثير انقساما هائلا في البلاد»، ردا على سؤال إن كان سينفذ التهديد الذي وجهه مباشرة إلى كلينتون أثناء مناظرتهما الثانية بتعيين نائب عام خاص للتحقيق بشأنها. وقال رجل الأعمال، بحسب تغريدة لمحررة في الصحيفة: «مهما كانت السلطة التي أتمتع بها، سأكون ميالا للقول فلنمض قدما. تم النظر في هذا الموضوع منذ وقت طويل، وأُشبع». ونهاية أغسطس (آب)، اتهم ترامب منافسته الديمقراطية بأنها تمارس شكلا من «الفساد» أقرب إلى ما يحدث في «العالم الثالث» عبر مؤسسة كلينتون.
وبهذا يكون ترامب قد تراجع عن أحد تعهدات حملته الانتخابية وعن شعار «اسجنوها» (كلينتون) الذي أثار حماسة كبيرة لدى مناصريه.
ووصف موقع «بريتبارت» الإخباري الإلكتروني، الذي يعبر عن أقصى اليمين، والذي كان ستيفن بانون أحد كبار مساعدي ترامب رئيسه التنفيذي السابق، هذه الخطوة بأنها «نكث للوعود».
وقالت كيليان كونواي، التي أدارت حملة الانتخابات الرئاسية لترامب، لشبكة «إم إس إن بي سي»، إن القرار من شأنه أن يبعث بـ«رسالة قوية للغاية» بشأن توحيد البلاد في أعقاب انتخابات مثيرة للجدل.
كما أغدق ترامب المديح على الرئيس باراك أوباما، سلفه في البيت الأبيض، مؤكدا للصحيفة أنه تشرف بلقائه رغم الخطاب الهجومي في حملته.
اليمين البديل
كما أدان تحت وقع الأسئلة المتكررة ما يعرف بتسمية «اليمين البديل»، بعد لقاء قادة الحركة في واشنطن في نهاية الأسبوع للاحتفال بفوزه وسط تحيات نازية. وحين سئل عن هذه الواقعة، أجاب ترامب خلال المقابلة: «أنا أتبرأ منها وأدينها». وكان زعيم المسيرة قد أشار خلال عطلة نهاية الأسبوع إلى الآيديولوجية النازية في الوقت الذي مدح فيه الرئيس المنتخب دونالد ترامب. وأضاف ترامب حول الحركة: «إنها ليست مجموعة أريد أن أنشطها.. وإذا تم تنشيطها، أريد أن أنظر في الأمر وأعرف السبب». وتعرض ترامب طوال حملته الانتخابية لانتقادات لعدم النأي بنفسه عن جماعة «كو كلوكس كلان» وجماعات الكراهية الأخرى التي احتضنت دعواته لفرض قوانين هجرة أكثر صرامة وفرض حظر على دخول المسلمين للولايات المتحدة.
تضارب مصالح
كذلك شدد الرئيس المنتخب على نقطة مثيرة للجدل، هي أن إمبراطورية الأعمال التي يديرها حول العالم لن تطرح تضارب مصالح له بصفته رئيسا، بحسب محامين استشارهم. وقال ترامب الذي جمع ثروة من خلال بناء شبكة واسعة من الفنادق والمباني الفاخرة، لصحافيي «التايمز»: «القانون إلى جانبي بالكامل، لا يمكن أن يكون للرئيس تضارب للمصالح». وأوضح: «أود أن أفعل شيئا من أجل الفصل بين هذين النشاطين بشكل واضح». وفي هذا الإطار يستفيد ترامب من تشريع أميركي يتميز بليونة كبيرة، إذ إن الرئيس ونائبه يستطيعان التوفيق بين ولايتيهما وأعمالهما الاقتصادية.
ومتحدثا أيضا في الإطار «النظري»، أوضح ترامب أنه قد يستطيع توقيع الشيكات عن شركته، لكنه أكد أنه سيضع «حدا تدريجيا» لذلك، مشيرا إلى أنه قد يترك هذه المهمة لثلاثة من أولاده.
تعذيب الموقوفين
كذلك أعلن ترامب أنه يراجع موقفه حول تعذيب الموقوفين بعدما كان وعد خلال حملته الانتخابية باللجوء إلى هذه الأساليب. وقال ترامب في المقابلة إن التعذيب «لن يحدث فارقا كبيرا، على عكس ما يعتقد أناس كثيرون». والتعذيب محظور في ظل إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما. وشرح الملياردير أنه غيّر موقفه حيال التعذيب خلال عمليات الاستجواب، بما في ذلك اللجوء إلى تقنية الإيهام بالغرق، بعد أن تحدث إلى الجنرال المتقاعد جيمس ماتيس الذي يعتزم ترامب «بجدية» تسميته على رأس البنتاغون. وأوضح الرئيس الأميركي المنتخب أن ماتيس «قال لي لم أجد يوما أن ذلك ينفع» في إشارة إلى وسائل التعذيب. وقال ترامب إن جواب ماتيس البالغ من العمر 66 عاما «أثار إعجابه كثيرا». ويفضل ماتيس كسب ثقة المشتبه بهم ومحاولة مكافأتهم إذا أبدوا تعاونا.
ويلقى الجنرال ماتيس المعروف بصراحته، تقديرا كبيرا في واشنطن، ولن تطرح تسميته وزيرا للدفاع أي مشكلة. وقال ترامب: «أظن أن الوقت حان لكي يكون (هناك) جنرال» على رأس وزارة الدفاع. وإذا سمي ماتيس على رأس وزارة الدفاع فسيكون الجنرال الثاني الذي يقودها بعد الجنرال جورج مارشال عام 1950.
وعلى غرار أسلافه، لم يبد ترامب على عجل لتشكيل إدارته تاركا الصحافيين أمام برج ترامب يطاردون الشائعات، فيما يواصل مشوراته في الأعلى.
وإذا كانت الطبقة السياسية التقليدية في واشنطن تتوقع من الثري الشعبوي الاستفزازي الذي جال البلد في الحملة الانتخابية أن يعين فريق قيادة من الشخصيات المتواترة على الساحة الساسية، فقد تشهد خيبة.
وأشار استطلاعان للرأي، نشرا الثلاثاء، إلى تفاؤل أكثرية الناخبين في أن تقود جهوده من أجل أن «تعود أميركا عظيمة»، إلى مستقبل أفضل للبلاد. وكشفت بيانات لجامعة كوينيبياك عن أن أغلبية الناخبين ترى من الضروري أن يتوقف عن التغريد، لكن أكثرية بدت «متفائلة بشأن السنوات الأربع المقبلة برئاسة دونالد ترامب». ووجد استطلاع مشابه لشبكة «سي إن إن - أو آر سي» أن أغلبية محدودة بنسبة 53 في المائة من الناخبين ترى أن ترامب سيحسن الأداء. في وقت متأخر، الثلاثاء، وصل ترامب إلى عشاء عائلي بمناسبة عيد الشكر في منتجعه للغولف في مارالاغو بولاية فلوريدا، حيث اجتاز موكبه طريقا ملأ أنصاره جانبيه وسط هتافات الترحيب والتقاط الصور.