من التاريخ: أزمة السيادة البحرية العثمانية

خير الدين بربروسا
خير الدين بربروسا
TT

من التاريخ: أزمة السيادة البحرية العثمانية

خير الدين بربروسا
خير الدين بربروسا

ما زلت متأثرًا تأثرًا شديدًا بكتاب ألفريد ثاير ماهان «تأثير القوة البحرية على التاريخ» The influence of sea power upon history الذي كتبه في عام 1890، وأكد من خلاله أن القوة البحرية هي العنصر الحاسم للهيمنة السياسية عند أي دولة تأمل في لعب دور على المستوى الدولي. واستند في ذلك إلى دراسة متعمقة لدور البحرية في حركة التاريخ، إذ اعتبرها المفتاح الحقيقي لحسم الصراع على هيمنة أي قوة على النظام الإقليمي أو الدولي، ولعل مثال الدولة العثمانية في القرن السادس عشر يأتي تأكيدًا لأطروحة هذا الكتاب الاستراتيجي. ذلك أنه رغم كون الدولة العثمانية القوة البرّية الأولى في أوروبا قولاً واحدًا، فإنها لم تستطع أن تفرض هيمنتها على القارة الأوروبية، بل اكتفت بدورها الملحوظ في وسط أوروبا وجنوب شرقيها، وحول المدن الساحلية الجنوبية لأوروبا في أوقات متقطعة. والعنصر الأساسي في تقديري وراء خسوف القوة السياسية العثمانية، إلى جانب الخلفاء الضعفاء للسلطان سليمان «القانوني»، كان ضعف بحريتها، بينما كانت الأساطيل الأوروبية قد تطورت وتقدمت، بل وتفوقت. والحق أن الدولة العثمانية لم تشذ في ذلك عن التقليد الموروث للخلافات والدول الإسلامية المتعاقبة التي مثلت قوى قارية Continental كبرى، لكنها لم تتمتع أبدًا بالقوة البحرية الحاسمة والمهيمنة على المناطق المتاخمة للأراضي التي كانت تحت سيادتها. ولعل في هذا تبرير جزئي غير مانع للسبب وراء إخفاق أي دولة أو خلافة إسلامية في الهيمنة على النظام الدولي، إذ لم تشهد السياسة الدولية أحادية قطبية إسلامية عبر التاريخ لهذا السبب.
واقع الأمر أن كثيرين من السلاطين العثمانيين اهتموا اهتمامًا ملحوظًا بتطوير البحرية العثمانية، خصوصًا بعد عصر الاكتشافات الجغرافية، بل حتى من قبلها، لا سيما محمد «الفاتح». ولكن الدفعة التي ولدتها شخصية خير الدين بربروسا (أو بربروس)، قائد الأسطول العثماني، بالتعاون مع السلطان سليمان «القانوني»، في منتصف القرن السادس عشر، لم تدم أو تتكرر.
كان بربروسا - واسمه الأصلي خضر بن يعقوب، وأما لقب «بربروسا» فيعني بالإيطالية «اللحية الحمراء» - من رجال الإنكشارية، وقد استوطن الجزائر مع أخيه عروج، وظل يحارب الإسبان بحريًا، ويغير على شواطئهم وفي المتوسط، حتى فتح السلطان سليمان «القانوني» معه حوارًا لضمه إلى البحرية العثمانية، وهو ما قبله مع أخيه، إذ أصبح واليه على الجزائر. ومن ثم، عيّن «قبطان باشا»، أي قائد البحرية ومسؤولاً عن صناعة السفن والأساطيل، وكفل له كل التمويل والأيدي العاملة. وهذا ما منح الدولة العثمانية الفرصة كي تصبح القوة البحرية الأولى في المتوسط، مع منافسة دويلتي البندقية (فينتيزيا) وجنوى التجاريتين اللتين طورتا أسطوليهما لتأمين تجارتهما الدولية. ولقد لعبت سياسية توازن القوى دورها في البحر المتوسط، تمامًا كما فعلت في المسرح الأرضي في جنوب شرقي أوروبا، وكانت انعكاسًا للتطورات في هذا المسرح على النحو الذي تابعناه في الأسبوع الماضي.
وإبان فترة قيادته، استطاع بربروسا أن يستولى على تونس، ويضمها إلى الباب العالي، إلى جانب الجزائر التي كانت بحوزته. ولكن في عام 1535، جمع الإمبراطور الأوروبي، بالتحالف مع البابا وعدد من الدول الأوروبية (منها إسبانيا)، أسطولاً بحريًا كبيرًا استطاع أن يستعيد تونس، لكنه فشل في محاولة قتل بربروسا الذي كان قد وجه جزءًا لا بأس به من أسطوله إلى الجزائر متفاديًا هزيمة واضحة، ثم عاد من جديد لمزاولة نشاطه البحري، بالإغارة على الشواطئ الأوروبية. وبعد ذلك، رجع إلى إسطنبول للإشراف على بناء أسطول أقوى عام 1537، ولاحقًا استأنف فرض سطوته على المتوسط، إلى أن أقام الأوروبيون تحالفًا جديدًا، عرف باسم «عصبة فينتزيا»، وأعدوا أسطولاً قويًا تحت قيادة بحار محنّك من جنوى، هو آندريا دوريا.
وفي ضوء هذا التطور، صار وضع الأسطول العثماني حرجًا، رغم تحالف فرنسا معه، خصوصًا عندما سارت الأمور نحو معركة بحرية حاسمة، مثل معركة أكتيوم البحرية التي شهدها شرق المتوسط إبان الحرب الأهلية الرومانية في عام 31 ق.م، والتي كانت ستحسم السيادة على المتوسط مرة أخرى لصالح الغرب على حساب الشرق. لكن كفاءة بربروسا وتكتيكاته كانت مجددًا العنصر المرجح، إذ إنه تفادى الدخول في معركة مفتوحة مع أسطول أقوى من أسطوله، وظل يتبع سياسة الاستنزاف والكرّ والفرّ، مانحًا نفسه الوقت لتفتيت التحالف ضده بمرور الزمن، وهو ما نجح فيه في عام 1538. وهكذا، تركت حكمة بربروسا البحر المتوسط تحت السيادة النسبية للدولة العثمانية، بعد تفكك التحالف المنافس، واستطاع هذا الرجل الفذ أن يُغير على المدن الإيطالية والإسبانية، وإن كان لم يفلح بحسم السيادة على المتوسط قبل مماته في عام 1556.
حقيقة الأمر أن الدولة العثمانية كانت تعاني من مشكلة رئيسة، هي وجود جبهتين بحريتين مفتوحتين في آن واحد: الأولى في المتوسط، والثانية كثيرًا ما يتناساها المفكرون والمؤرخون، وهي مسرح الحروب في الخليج العربي والشاطئ الهندي. فمنذ هزيمة الأسطول المشترك للدولة العثمانية والمماليك أمام البرتغاليين في معركة ديو البحرية، أمام ساحل الهند عام 1509، استطاع الأوروبيون تحويل طرق التجارة عبر رأس الرجاء الصالح موجهين ضربة قاسية للدولتين الإسلاميتين. ولم ينس العثمانيون هذا المسرح الحربي، غير أن المتوسط ظل الأولوية خلال الحقب الأولى من القرن السادس عشر. كذلك فإن الظروف الحربية ووضعية البحرية لم تكن تسمح لهم بذلك إلا بعد مرور ثلاث حقب، حين حاول الأسطول المنقول للدولة العثمانية من المتوسط عبر السويس الاستيلاء على ميناء ديو مرة أخرى، بغية تحويل طرق التجارة الدولية عبر الأراضي العثمانية إلى الشرق. لكن هذه المحاولة باءت بالفشل، ولم تسفر إلا عن الاستيلاء على اليمن. ثم كرّر العثمانيون المحاولة في عام 1551، تحت قيادة القائد العثماني بيري، عندما وجه سليمان «القانوني» جهده للاستيلاء على الخليج العربي ومضيق هرمز في مواجهة البرتغاليين. بيد أنه رغم استيلائه على عُمان ودخوله الخليج العربي، لم يتمكن من التغلب على الأسطول البرتغالي، ولقد فرّ القائد وهرب بثلاث سفن محملة بالأموال والجواهر، وعاد إلى القاهرة، لكن السلطان قطع رأسه ثمنًا لجبنه أو خيانته ليكون عبرة لمن يأت بعده. ومن ثم، جهز أسطولاً جديدًا خرج من البصرة لمساندة الأسطول العثماني في الخليج، ومع أن هذا الأخير نجح في كسر حصار البرتغاليين، فإنه لم ينج من الإعصار الذي ضرب الأسطول وفتك به. وهكذا، استسلم العثمانيون لسيادة البرتغاليين على الطرق التجارية، واكتفوا مرة أخرى بأن يكونوا القوة القارية البرية على الساحتين العربية والأوروبية.
أما في المتوسط، فقد انتقلت قيادة الأسطول العثماني تباعًا لمن لم يكن لهم حنكة العبقري بربروسا، وبالتالي بدأت الدول الأوروبية تستعيد نفوذها تدريجيًا. ورغم بعض الانتصارات المهمة، مثل استعادة طرابلس الغرب في العام التالي لموته، فشل العثمانيون عام 1558 في الاستيلاء على جزيرة مالطة، كما فعل السلطان سليمان في جزيرة رودس عام 1522 في مطلع حكمه، وهذا ما ترك جزءًا مهمًا من المتوسط في أيدي القوات المناوئة للدولة العثمانية. واستمر الصراع البحري حتى حسم في عام 1571 في معركة ليبانتو Lepanto البحرية الشهيرة التي وصف البعض نتائجها وآثارها على أنها تكرار لمعركة بلاط الشهداء (بواتييه) Poitier البرية في عام 732م التي أوقفت الزحف العربي على أوروبا الغربية.
حقيقة الأمر، ومن خلال متابعة المسرحين البحريين للدولة العثمانية، يتحتم علينا الوصول إلى نتيجة لا مفر منها، وهي أن الدولة العثمانية لو كانت قد استطاعت حسم المسرحين الحربيين في المتوسط والخليج، وإعادة التجارة الدولية عبر طرقها القديمة المارة بها، والسيطرة على حركة الاستكشافات الجغرافية في الشرق، فإن أحوال الدولة العثمانية كانت ستتحسن بكل تأكيد، ولأصبحت الفرصة مواتية لفرض الهيمنة العثمانية الجزئية على المنظومة السياسية الدولية والأوروبية. وإذا ما أضفنا إلى ذلك هزيمة ليبانتو، فإن النتيجة الحتمية كانت بداية تحلل النفوذ السياسي والعسكري العثماني في المتوسط، ومن بعده العالم الخارجي. ذلك أن التفوق الأوروبي الذي استتبع ذلك، سواء لبريطانيا أو فرنسا أو روسيا، حسم الأمر لصالح تقليص دور الدولة العثمانية بحريًا بلا رجعة، خصوصًا مع ظهور البحرية الروسية التي أسّسها بطرس الكبير.
وفعلاً لعبت هذه البحرية دورًا حاسمًا في تفتت الجبهة الشرقية للدولة العثمانية، إلى أن اضطرت إسطنبول في مرحلة تاريخية محددة إلى الاستعانة بروسيا عام 1833 لحمايتها من القوات المصرية التي كانت تتأهب لوراثة الدولة العثمانية بقوتها البرية والبحرية الفتية. وهكذا، فإن أطروحة ثاير ماهان صدقت بشكل قاطع مع الدولة العثمانية، ورغم المقولة الشهيرة «إن المشاة هم سادة المسرح العسكري»، يمكن القول إن تسيد البحار هو المفتاح الهام للهيمنة السياسية والعسكرية على المحيط الدولي.



الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».