جون بولتون.. دبلوماسي متشدد يبحث عن دور

من رموز «المحافظين الجدد» وأحد معارضي الصفقة النووية مع إيران والمنادين بإسقاط نظامها

جون بولتون.. دبلوماسي متشدد يبحث عن دور
TT

جون بولتون.. دبلوماسي متشدد يبحث عن دور

جون بولتون.. دبلوماسي متشدد يبحث عن دور

منذ فوز الرئيس المنتخب دونالد ترامب بالانتخابات الرئاسية الأميركية، تنشغل – بل تشتعل – الدوائر السياسية في واشنطن بـ«بورصة» ترشيح الشخصيات التي يتوقع أن تحتل مناصب مهمة في الإدارة الأميركية المقبلة. وعلى مدى الأيام الماضية برز اسم جون بولتون سفير الولايات المتحدة الأسبق إلى الأمم المتحدة كمرشح محتمل لمنصب وزير الخارجية أو أي منصب رفيع له صلة بشؤون السياسة الدولية والاستراتيجية. وكانت «بورصة التكهنات»، منذ فوز ترامب المفاجئ، قد شملت خلال الأيام الماضية عددا من الشخصيات الجمهورية المرتقب إسناد المناصب الحساسة إليها، أبرزها إلى جانب بولتون، ميت رومني المرشح الجمهوري السابق أمام باراك أوباما في انتخابات 2012 والحاكم السابق لولاية ماساتشوستس، الذي وجه انتقادات قاسية ضد ترامب خلال الحملة الانتخابية، ورودي جولياني عمدة مدينة نيويورك الأسبق وأشد حلفاء ترامب تحمسا. وأيضا في خيار مفاجئ إلى حد ما جرى تداول اسم نيكي هايلي (44 سنة)، حاكمة ولاية ساوث كارولينا، وهي سيدة أعمال ومحاسبة تتحدر من أصول هندية سيخية واسمها الأصلي نامراتا رانداوا.
في حسابات الخبرة في الشؤون الدولية والاستراتيجية، يعد جون بولتون (68 سنة) المرشح الأوفر خبرة بين أصحاب الأسماء المطروحة لقيادة الدبلوماسية الأميركية للسنوات الأربع المقبلة. ويُعرف عن بولتون أنه أحد «صقور» الحزب الجمهوري المتشدّدين، وواحد من وجوه تيار «المحافظين الجدد» الذي ترك بصماته على السياسة الخارجية للرئيس جورج بوش الابن بين العامين (2001 و2009). أما بالنسبة لقضايا منطقة الشرق الأوسط، فالمعروف عن بولتون، وهو الخبير في عدد من المراكز البحثية البارزة بواشنطن، أنه من كبار المدافعين عن إسرائيل وبالأخص سياسات اليمين فيها، ومن ثم، فهو أيضا يقف في صف أنصار إسرائيل الأميركيين اليمينيين المعادين لنظام طهران.
وحقا أنجز هذا المحامي، الذي انتقل مهنيا إلى عالم السياسة العديد من النجاحات في تحقيق أهدافه السياسية ودفع أجندته المحافظة المتشددة إلى الأمام غير أن فظاظته خلقت له العديد من الأعداء. وسجّلت له تصريحات كثيرة وصفت بأنها «غير دبلوماسية» سواء ضد إيران أو السلطة الفلسطينية أو كوريا الشمالية أو كوبا. ولطالما اتهمه الأعضاء الديمقراطيون في الكونغرس بأن لغته المنافية للأعراف والأساليب الدبلوماسية عرّضت لخطر الانهيار والفشل كثرة من المساعي التي كانت تقودها الولايات المتحدة. مع هذا، ترى أوساط مقربة من ترامب التقتها «الشرق الأوسط» أن الرئيس المنتخب، يميل شخصيا نحو تسمية بولتون ليكون على رأس الدبلوماسية الأميركية، مع أن بعض قيادات الحزب الجمهوري الأقل ميلا للمواقف الصدامية تفضل شخصية معتدلة مثل ميت رومني على الرغم من أن الأخير لم يسبق له أن خاض غمار العمل الدبلوماسي أو الشؤون السياسية الدولية. في أي حال، حين سئل بولتون عن احتمال ترشيح ترامب إياه لتولي حقيبة وزارة الخارجية، أجاب «لقد كان من دواعي الشرف لي أن أخدم بلدي في الماضي، وسيكون (هذا المنصب) شرفا لي مرة أخرى، لكن القرار الفصل سيظل قرار الرئيس المنتخب».
إيران وروسيا
كما سبقت الإشارة، يتبنى جون بولتون مواقف متشددة وعدوانية ضد كل من روسيا وإيران. وكان قد انتقد مرارا توجهات الرئيس باراك أوباما للدخول في تعاون محدود مع روسيا في كل من سوريا وإيران. وخلال شهادته أمام الكونغرس عام 2004، اتهم إيران صراحةً بالكذب مرارا حول اليورانيوم المخصب.
أكثر من هذا، دعا بولتون علنا للإطاحة بالسلطة الحالية في طهران، وقال صباح الخميس عبر شبكة «بريتبارت» اليمينية المتشددة التي يمتلكها ستيف بانون، الذي عيّنه ترامب أخيرا في منصب كبير الاستراتيجيين في البيت الأبيض: «الحل الوحيد على المدى الطويل هو تغيير النظام في طهران وآية الله (علي خامنئي) هو الخطر الرئيسي على السلام والأمن الدوليين في الشرق الأوسط». وأضاف بولتون في تصريحه: «لا أعتقد أن النظام (الإيراني) يتمتع بالشعبية إلا أنه يملك السلاح، وبالتالي، هناك طرق لمساعدة المعارضة، وهذا لا يشمل بالضرورة استخدام القوة العسكرية الأميركية، بل يكفي أن نساعد المعارضة لتغيير الحكومة». كذلك، في مقابلة سابقة، انتقد بولتون الرئيس أوباما لإحجامه عن بذل المزيد من الجهد لدعم احتجاجات «الحركة الخضراء» في إيران عام 2009.
غزو العراق.. وقصف إيران
وحقا، لم يكن هذا التصريح بالشيء الجديد في سياسات جون بولتون، المسؤول السابق بإدارة جورج بوش الابن الذي ساند بقوة – مع أترابه في تيار «المحافظين الجدد» – قرار بوش غزو العراق في عام 2003. كما أنه كان واحدا من مسؤولي الإدارة الذين روّجوا – عن اقتناع شبه كامل – التقارير التي تبين أنها باطلة عن امتلاك نظام صدام حسين برنامج أسلحة دمار شامل. وحتى بعد اكتشاف حقيقة أن نظام صدام حسين ما كان يمتلك أسلحة دمار شامل، ظل موقف بولتون على حاله، ولم يندم على ما حصل، إذ قال في تصريح له «ما زلت أعتقد أن قرار الإطاحة بصدام صحيح، إلا أن بعض القرارات المتخذة بعد هذا القرار كانت خاطئة، لكن أسوأ القرارات بعد عام 2011 على الإطلاق كان قرار سحب القوات الأميركية من العراق».
من ناحية أخرى، ناشد جون بولتون مرارا القيادة الأميركية مساعدة إسرائيل على قصف إيران أو على الأقل السماح لإسرائيل بأن تفعل ذلك بمفردها. ولقد تكررت تصريحاته بضرورة قصف الأهداف العسكرية الإيرانية، حتى إبان الفترة التي كانت إدارة أوباما تتفاوض فيها مع الجانب الإيراني حول البرنامج النووي. وواقع الأمر، أن بولتون وصف في عدة مقالات كتبها الاتفاق النووي مع إيران بأنه «أسوأ صفقة في التاريخ»، داعيا إلى «الامتناع عن التفاوض مع الإرهابيين» والتراجع عن الصفقة. ويقول المحللون إن تصريحات بولتون المتشددة ضد إيران تشير إلى «صقر المحافظين الجدد» والدبلوماسي اليميني المخضرم، القريب فكريا من الرئيس المنتخب ترامب، لن يخفف على الأرجح لهجته، ولن يتراجع عن وجهة نظره في السياسة الخارجية الأميركية، وبالتالي، قد تؤدي هذه المواقف إلى توترات ومشاحنات خارجية. كذلك يرى المحللون أن تولي جون بولتون حقيبة وزير الخارجية – إذا ما أسندها إليه ترامب – سيعني أن إدارة الرئيس المنتخب ستعمل على إلغاء الاتفاق النووي الإيراني في وقت مبكر من عمرها.
في المقابل، ثمة محللون آخرون يلفتون إلى أن ترامب وإن كان قد وصف الاتفاق النووي الإيراني بـ«الكارثي»، وقال أيضا إنه «أسوأ صفقة تفاوضية من أي وقت مضى»، فإنه لم يشر صراحةً إلى العمل على إسقاط نظام طهران. ثم إن بعض أعضاء مجلسي الكونغرس أعربوا علانية عن تخوفهم من احتمال ترشيح بولتون، الذي يتطلب إسناد المنصب إليه موافقة الكونغرس، ولقد قاد السيناتور الجمهوري اليميني راند بول (من ولاية كنتاكي) هجوما مباشرا عليه، قائلا «إن شخصا دافع عن الحرب على العراق ولم يتعلم من الدروس المستخلصة من حرب العراق لا يجوز أن يكون وزيرا للخارجية».
ولكن، بينما يتساءل بعض المحللين السياسيين عن خلفيات احتمال إقدام ترامب على ترشيح جون بولتون لقيادة الدبلوماسية الأميركية، ثمة خبراء مطلعون يشيرون إلى أن الإجابة تكمن في المقربين من الرئيس المنتخب الذين ينصحونه هذه الأيام بانتقاء شخصيات الإدارة الجديدة، وأبرز المقربين من الرئيس المنتخب هو صهره جاريد كوشنر، المعروف عنه – كما يقال – أنه يحب بولتون ويعجب بمواقفه المتشددة من إيران، وكذلك من دعمه غير المشروط لإسرائيل. أيضا، يأتي التأييد لبولتون من ريبيكا ابنة الملياردير روبرت ميرسر، أحد أكبر ممولي حملة ترامب الانتخابية. وتجدر الإشارة إلى أنه إبان شغل بولتون منصب مندوب الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة لأقل من سنتين توحّد ضده الساسة الديمقراطيون، وعملوا على منع تعيينه لفترة طويلة. كذلك، اتسمت الفترة التي أمضاها في أروقة الأمم المتحدة بتنامي المشاعر المعادية للولايات المتحدة بين أعضاء السلك الدبلوماسي الدولي. وباختصار، يعد بولتون وفق كثيرين أحد وجوه السياسة الخارجية الأميركية «المكروهة» على الساحة الدولية.
بطاقة شخصية
يعد جون روبرت بولتون أحد الوجوه المعروفة في السياسة الأميركي؛ فهو محام ودبلوماسي عمل بالعديد من الإدارات الجمهورية وكان منصبه الأخير هو سفير الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة من أغسطس (آب) 2005 إلى ديسمبر (كانون الأول) 2006 وعمل بعدها زميلا في معهد أميركان إنتربرايز ومستشارا بشركة كابيتال لإدارة الاستثمارات، ومعلقا في شبكة «فوكس نيوز»، وقد عمل مستشارا للسياسة الخارجية في حملة المرشح السابق ميت رومني. ويشارك بولتون في عدد من مؤسسات الفكر والرأي المحافظة مثل المعهد اليهودي لشؤون الأمن القومي (KINSA) واللجنة الأميركية للحرية الدينية والرابطة الوطنية للبنادق (NRA) ومجلس السياسة الوطنية ورئيس معهد جايتستون.
ولد بولتون يوم 20 نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 1948 في مدينة بالتيمور كبرى مدن ولاية ماريلاند، القريبة من العاصمة الأميركية واشنطن. وكان أبوه إدوارد جاكسون بولتون يعمل رجل إطفاء، بينما كانت أمه فرجينيا كلارا ربة منزل. ونشأ الصغير جون طموحا محبا للعلم، في بيئة شعبية من الطبقة دون المتوسطة، فحصل على منحة للدراسة في مدرسة ماكدونوه في مدينة اوينغز ميلز، ثم التحق بجامعة ييل العريقة، حيث نال منها درجة البكالوريوس بامتياز عام 1970، قبل أن يلتحق بكلية الحقوق الشهيرة فيها ويتخرج محاميا عام 1974. وكان بولتون خلال فترة دراسته في ييل صديقا حميما لقاضي المحكمة العليا المحافظ كلارنس توماس، وزميلا لكل من بيل كلينتون وهيلاري كلينتون أثناء دراستهما الجامعية في ييل.
ولكن قبل التخرج، وتحديدا عام 1969 بينما كانت حرب فيتنام مشتعلة تطوّع جون بولتون في الحرس الوطني التابع للجيش في ولاية ماريلاند (يومذاك كان التطوع في قوات الاحتياط أو الحرس الوطني وسيلة لتجنب الاستدعاء للخدمة العسكرية في ميدان القتال) وأمضى في الحرس الوطني أربع سنوات. ولقد كتب بولتون عن تلك الفترة: «أعترف أنه لم يكن لدي الرغبة بالموت في حقل أرز بجنوب شرقي آسيا، وكنت أرى أننا خسرنا بالفعل الحرب في فيتنام».
وبعد التخرّج، من عام 1974 إلى عام 1999، عمل بولتون في عدة مكاتب للمحاماة في العاصمة واشنطن، قبل أن ينضم عام 1997 إلى معهد «أميركان إنتربرايز إنستيتيوت»، أحد أهم مراكز الأبحاث المحافظة في الولايات المتحدة، ولاحقا، أصبح نائب الرئيس للبحوث السياسية، وعمل مساعدا لوزير الخارجية الأسبق جيمس بيكر عندما عيّنه أمين عام المتحدة في حينه كوفي أنان مبعوثا شخصيا للصحراء الغربية.
وخلال فترات إدارتي رونالد ريغان وجورج بوش الأب تقلب بولتون في عدة مناصب داخل وزارة العدل وفي وزارة الخارجية والوكالة الأميركية للتنمية الدولية. وإبان عمله مساعدا لوزير الخارجية لشؤون المنظمات الدولية (1989 - 1993) قاد بولتون محاولات ناجحة لإلغاء قرار الأمم المتحدة الذي ساوى الصهيونية بالعنصرية. ولعب أيضا دورا بارزا في استصدار قرار من الأمم المتحدة لتأييد استخدام القوة لتحرير الكويت من الغزو العراقي.
ثم في عهد إدارة الرئيس جورج بوش الابن عمل بولتون في إدارة ضبط التسلّح والأمن الدولي بوزارة الخارجية، وكانت من أهم مسؤولياته منع انتشار أسلحة الدمار الشامل. وبعد ذلك، عين مندوبا (سفيرا) للولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، وهنا كان من أهم إنجازاته خلال الفترة القصيرة التي أمضاها بالمنصب معارضة المحكمة الجنائية الدولية ووضع المادة 98 لاستثناء المواطنين الأميركيين من المقاضاة أمام المحكمة (التي لا تعترف بها الولايات المتحدة)، ويومذاك، وقعت أكثر من 100 دولة على الاتفاقية لكن بولتون وصف قرار الانسحاب من المحكمة الجنائية الدولية بأنها أسعد لحظات حياته السياسية. ولكن من المفارقات، بالنسبة لشخصية جون بولتون، هذا الرجل المتشدد في سياساته، أنه رشّح في عام 2006 لنيل جائزة نوبل للسلام (!) غير أن الجائزة ذهبت ذلك العام إلى الدكتور محمد يونس وبنك غرامين لتعزيز الفرص الاقتصادية للفقراء.
أخيرا، بولتون متزوج من سيدة اسمها غريتشن ويعيشان في منطقة بيثيسدا بضواحي العاصمة الأميركية، ولديهما ابنة واحدة هي جنيفر سارة بولتون. ولقد ألف كتابا بعنوان «الاستسلام ليس خيارا» انتقد فيه إدارة بوش لتغيير أهداف سياستها الخارجية في بداية فترة الإدارة الثانية.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.