ظل الكثير من المعلقين والسياسيين لما يزيد على العام يصورون دونالد ترامب، الرئيس الأميركي المنتخب، على أنه شخص متمرد يمكن أن يفسد كل شيء في العالم، مثلما تشير الدعابات المتداولة في الاتحاد الأوروبي، وأنه سيقود العالم كما نعرفه نحو الفناء. لقد ظهر الجزء الأكبر من خطاب ترامب في خضم الحملة الانتخابية الساخنة، وتم استخدامه سندًا لمساعدة هيلاري كلينتون، مرشحة الحزب الديمقراطي.
من هذا المنطلق كان جزءا من «الحرب الانتخابية»، مما يجعله مقبولا؛ لكن الآن بعد انقشاع غبار المعركة، بات من الممكن التكهن بسياسة ترامب الخارجية بهدوء، وذهن صافٍ. لقد قدم لنا ترامب مفتاحًا دلاليا خلال خطابه الأول بعد إعلان فوزه مساء الثلاثاء، حين قال: «سوف نتوافق مع كل الدول الأخرى التي ترغب في التوافق معنا». ولهذا التصريح أهمية كبيرة لأنه يشير إلى تحول في سياسة أوباما الخارجية، التي استمرت لثمانية أعوام، والتي كانت تقوم على عكس هذا المبدأ تمامًا، وهو: «إننا نحاول التوافق مع الدول الأخرى التي لم تكن راغبة في التوافق مع الولايات المتحدة الأميركية».
يعد أوباما، نتاج الثقافة السياسية، التي سادت في حقبة الستينات على هامش اليسار، والتي كانت تنظر إلى الولايات المتحدة باعتبارها قوة «إمبريالية» حاولت أن تسيطر على العالم، وتسوده لمدة طويلة. وكان أوباما يعتقد أن مهمته هي كبح جماح الغوريلا الأميركية، التي يصل وزنها إلى 800 طن، ويساعد في إصلاح الضرر الذي أوقعته بضحاياها.
وبالنظر إلى ما قام به أوباما من «إعادة» تشكيل للعلاقة مع روسيا، سنجد أنها تمت عام 2009 في وقت أوضح فيه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أنه لا يريد «التوافق مع الولايات المتحدة الأميركية» من خلال تقويض «الجهود المشتركة»، التي أعلنت عنها موسكو وواشنطن، من أجل التوصل إلى حل للنزاع بين روسيا وجورجيا على أوسيتيا الجنوبية، وأبخازيا. وبحسب ما ذكرته هيلاري كلينتون في مذكراتها، أمر أوباما بمنح روسيا «شيئا ما كدليل على حسن النوايا».
وقد اختار بوتين - الذي كان قد انتهز الفرصة وضمّ الجيبين الجورجيين بنفسه - هذا «الشيء». وحتى آنذاك لم يكن عطش موسكو قد ارتوى بعد، لذا قامت بضمّ شبه جزيرة القرم، وصنعت جيبًا في شرق أوكرانيا، وتنمرت على جمهوريات البلطيق، وأقامت محورا مناهضا للولايات المتحدة مع ملالي طهران، وشاركت في الصراع السوري.
ما يعرضه ترامب حاليًا هو «التوافق» بشروط مقبولة من الطرفين، لا تنازلات من طرف واحد كما كان يحدث في سياسة أوباما الخارجية الضارة لأميركا. وكان للتنازلات، التي قدمها أوباما من طرف واحد، أشكال عديدة؛ حيث جاء بعضها على هيئة حضن ودود لهوغو شافيز، الرئيس الفنزويلي آنذاك، في وقت كان يتداعى فيه نظامه «الاشتراكي» تحت ضغط السخط الشعبي، والفشل الاقتصادي. كذلك جاء في هيئة رحلة إلى هافانا لإظهار الاحترام للأخوين كاسترو اللذين لم يقدما أي شيء في المقابل.
أما أبرز تلك التنازلات فكان ما يسمى بالاتفاق النووي الإيراني، والذي يعد أكبر عملية خداع دبلوماسي في التاريخ الحديث، حيث ساعد الملالي في الخروج من مأزقهم دون إلزامهم بتقديم أي شيء ملموس مقابل ذلك. كذلك أرسل أوباما هيلاري كلينتون، التي كانت وزيرة الخارجية حينها، إلى بورما من أجل تصوير ما يحدث على أنه عملية تحول ديمقراطي هي في الحقيقة عملية زائفة عززت من قبضة الحكم العسكري مع الحفاظ على واجهة مدنية هشة. وكانت الطريقة، التي تعاملت بها إدارة أوباما مع ما يسمى «الربيع العربي»، وعواقبه، وتحالفها المتقّطع مع جماعة الإخوان المسلمين، والوضع المأساوي في سوريا، تفوح بالفشل من كل جانب. وكانت كلينتون إما أنها طرف فاعل مشارك، وإما شريك صامت في كل هذه المواقف.
ما الذي يعرضه ترامب بدلا من ذلك؟
أولا يوضح ترامب أنه يتمنى التحول عن سياسة أوباما الخارجية تمامًا، حيث يقول إنه لن يلفّ العالم معتذرًا للجميع في شتى بقاع الأرض عن خطايا أميركا المزعومة؛ ولن يصرّ على تملق أعداء أميركا من الإسلاميين، كما فعل أوباما في خطابيه الكاذبين في كل من إسطنبول، والقاهرة. وربما يعلن ترامب عن أهدافه بوضوح، بينما يحرص أوباما على الغموض، نظرًا لانعدام خبرته الدبلوماسية.
ويقول أوباما إن هدفه هو «احتواء وإذلال» تنظيم داعش، بينما يقول ترامب إنه يريد «تدمير داعش كليًا». وفي حين يقول أوباما إنه يحاول إقناع إيران، وهو في الحقيقة يعني رشوتها، بـ«اتباع نهج معتدل»، يرى ترامب أن هذا سراب، ويقول: «سوف نفكك شبكة إيران العالمية للإرهاب تمامًا». وظل أوباما يردد لمدة سبع سنوات أنه يتعاون مع «شركائنا الصينيين» من أجل إقناع كوريا الشمالية بكبح جماح طموحاتها النووية.
وفي سوريا، أنفق أوباما أموالا هائلة على تدريب وتسليح جماعات متمردة عديدة، مثلما حدث مع المجاهدين الأفغان في الثمانينات، والتي ربما ينتهي بها الأمر إلى أن تصبح من أعداء الولايات المتحدة الأميركية. في الوقت ذاته، دعا أوباما إلى تغيير النظام في سوريا، رافضًا فكرة عمل ملاجئ آمنة للمدنيين السوريين لحمايتهم من خطر الإبادة. ويتحمل قدرًا كبيرًا من المسؤولية عن معاناة الشعب السوري.
ويقول ترامب إنه سيبدأ باكتشاف «ما يحدث حقًا». وأقرّ قائلا: «نحن لا نعرف من هم حلفاؤنا، ومن هم أعداؤنا». كذلك أكد امتناعه عن «تدريب وتسليح متمردين لا نعرفهم ولا نسيطر عليهم». ويؤيد إنشاء «ملاجئ آمنة» ليمكث بها السوريون النازحون داخل سوريا بدلا من مواجهة الموت من أجل الوصول إلى أوروبا.
وفي الوقت الذي يفضل فيه أوباما التوافق اسمًا فقط مع حلف شمال الأطلسي مع عرقلة تقدمه على الأرض، يدعو ترامب إلى مراجعة نقدية لدور التحالف وموضعه في السياق الدولي الجديد. كذلك يصرّ ترامب على تقاسم العبء بعدالة داخل التحالف، خاصة فيما يتعلق بالتزام كافة الدول الأعضاء بتخصيص اثنين في المائة من إجمالي ناتجها القومي السنوي للدفاع. مع ذلك في الوقت الحالي، لا تقوم بذلك سوى دولتين من الدول الأعضاء البالغ عددها 28، وهما الولايات المتحدة الأميركية، وبريطانيا العظمى، رغم أن بعض الدول الأعضاء أغنى منهما. وتدفع الولايات المتحدة الأميركية 75 في المائة من تكلفة عمليات حلف شمال الأطلسي، في حين تدفع كل الدول الأعضاء مجتمعة نسبة الـ25 في المائة المتبقية.
كذلك يقترح ترامب مراجعة شاملة لالتزامات الولايات المتحدة تجاه الدفاع عن 66 دولة حول العالم. وهذا الأمر جدير باهتمام أكبر. في الكثير من الحالات لا تكون هناك حاجة إلى تدخل أميركي، بينما قد يؤدي التدخل الأميركي في حالات أخرى إلى تصعيد حدة التوترات. كذلك من غير المنطقي أن تدفع الولايات المتحدة إيجارًا لقواعد أنشأتها لحماية حلفاء أكثر ثراء منها.
من المؤكد أن أميركا ليست قوة مرتزقة، لكن سيجعل نظام يقوم على تقاسم العبء من الأسهل حصول أميركا على دعم شعبي لدورها القيادي.
وقليلون هم من لا يوافقون على فكرة أن أوباما قد أضرّ كثيرًا بالعلاقات مع الكثير من الحلفاء المقربين، خاصة في الشرق الأوسط. ويقول ترامب: «لقد عامل الرئيس أوباما إسرائيل بشكل فظيع». ويقول إن هذا يصدق أيضا على مصر، وتركيا، ناهيك عن دول الخليج، وبريطانيا، وفرنسا، التي أهان أوباما قادتها علنًا.
ورغم تصويره على أنه قومي متعصب، يقول ترامب إنه يؤيد التطبيع مع كوبا شريطة حصول الشعب الكوبي على المزيد من النظام الذي يحكم بلادهم. كذلك يرى أن القرارات، التي يتخذها حلفاء أميركا، خاصة اليابان، وكوريا الجنوبية، فيما يتعلق بالعقيدة الدفاعية لكل منهما، هي شأنهم وحدهم، لا شأن واشنطن. كذلك يؤكد ترامب أنه قد يفضل أن تتولى الدول الأوروبية الحليفة لأميركا، مثل ألمانيا، القيادة في أي أزمات تؤثر على أوروبا، خاصة أوكرانيا، مع تقديم الولايات المتحدة الدعم الكامل لها.
في خضم الحملة الانتخابية، اتهم معسكر أوباما ترامب بالعمل سرًا مع الكرملين. مع ذلك، تعني العبارة الدلالية «التوافق معنا» إمكانية، بل ووجوب إصلاح العلاقات الأميركية مع روسيا، شريطة التوصل إلى تفاهم بشأن ما هو مقبول. وهذا هو النحو الذي ينبغي أن تكون عليه الدبلوماسية الصحيحة. ومن غير المرجح، على الأقل في ظل إدارة ترامب، أن تطعن الولايات المتحدة الأميركية حلفاءها في ظهورهم من أجل إرضاء أعدائها.
قد تكون عودة الولايات المتحدة كقوة قيادية قادرة وعازمة على الدفاع عن مصالحها المشروعة نبأ سارا للعالم أجمع.
السياسة الخارجية.. وعود جديدة
أول تصريحات الرئيس الأميركي المنتخب وشت بالتغيير
السياسة الخارجية.. وعود جديدة
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة