في الدقيقة الأولى من فيلم «ثلاثة أقدار»، يطلب منا المخرج تيوكروس ساكلاروبولوس أن ننسى الصوت. يضع ثلاثة أسطر في وسط الشاشة تقول: «ليس هناك صوت. استمع فقط لهمسات روحك».
الدعوة يصاحبها أكثر من تعليق مطبوع على الصور التي يطالعنا بها الفيلم لشخصياته ومواقعه. إحدى الشخصيات الأولى رجل يمشي تتبعه الكاميرا على جدار مبنى في قرية ما. إنه يتحدث إلى نفسه والبطاقة المصاحبة تعلن: «يريد تغيير قدره. لم يعد يستطيع التحمل. لقد اكتفى مما هو محيط به. من الناس حوله… من حياته هو».
تقودنا المقدمة هذه إلى عمل تجريبي بالأبيض والأسود. صامت من أي حوار أو مناجاة وبل من أي مؤثرات صوتية. لا رياح ولا أصوات خطوات على الطريق ولا أصوات أدوات الحياة المختلفة.
«ثلاثة أقدار»، الذي كتبه وأنتجه وصوّره وقام بمونتاجه المخرج نفسه هو من بين الأفلام التي سيعرضها مهرجان ثيسالونيكي اليوناني ما بين الثالث والثالث عشر من الشهر القادم. دورته الجديدة ستحتوي على عشرات الأفلام القادمة من الشرق والغرب ومن كل مكان ساعية للتجمع في تظاهراته المختلفة: العروض الرسمية الموزعة في تسع دوائر من بينها الفيلم القصير والأفلام التي لم تعرض من قبل والأفلام اليونانية التي نالت جوائز ما هذا العام في مناسبات أو مهرجانات أخرى. هناك أيضًا قسم يشهد رواجا اسمه «تقرير البلقان» وثالث عن «سينما الشباب» ورابع ينتخب فيه النقاد اليونانيون أفلاما أعجبتهم.
عمر المهرجان اليوم 57 سنة، وهذا يجعله من الجيل المخضرم من المهرجانات الأوروبية كحال سان سابستيان ولوكارنو وفينيسيا وكان. وهو أفضل منصّـة لتقديم السينما اليونانية للحاضرين الذين يلتمّـون من حوله قادمين من مختلف أرجاء العالم خصوصًا من الدول البلقانية والشرق متوسطية والبحر الأبيض المتوسط كما من مختلف الدول الأوروبية.
لمحات كوميدية
الرجل في حياة اليوم موضوع يستأثر بعدد من الأفلام التي سيتم عرضها في هذا المهرجان والتي سنحت لي فرصة مشاهدة بعضها مسبقًا، رغم أنها لم تعرض بعد في مهرجانات أخرى. إنها حالة إنسانية معظمها يقع في إطار الحياة اليونانية الراهنة التي تبدو، إذا ما تابعناها من فيلم يوناني إلى آخر، وقد توقفت عن الاتجاه وإن لا تزال ماضية. تسير كما اعتادت أن تفعل لكنها تراوح مكانها تبعًا لأوضاع وظروف البلاد الاقتصادية والاجتماعية.
ها هو بطل فيلم «أفترلف» لا يجد سوى استعادة الماضي كسبيل للمواصلة. يتصل بصديقته التي تركته قبل نحو سنة ليدعوها لزيارته في قريته الجميلة. يذكرها بأنهما خلال فترح حياتهما معًا لم يقدما على تمضية عطلة ما لأنهما لا يملكان المال للتحوّل إلى سائحين. الآن هو يعلم أنها تعيش في غرفة تحت مستوى الأرض ويجدها فرصة لأن يعرض عليها العودة إلى الماضي ولو لأسبوع.
في فيلم سترغيوس باخوس لمحات كوميدية أكيدة يعالج بها موضوعه العاطفي - الاجتماعي، وهذا أيضًا حال فيلم يانيس ساكاريديس «أميركا سكواير» فهو معالجة ساخرة لموضوع يتعامل والوضع الاقتصادي والعائلي والسياسي في اليونان اليوم وكل ذلك من خلال حبكة محورها الوطن والمحيط المتشابك. بطله يانيس ستانكوغلو يقرر في مطلع الفيلم أنه كان يؤمن سابقًا بالحدود كفواصل بين بلد وآخر. الآن، وقد أصبح اليونان وسواه مختلطًا خصوصًا بعد أزمة المهاجرين القادمين من أفريقيا ومن الدول العربية، بات يؤمن بأن الحدود تجارة يستطيع استثمارها لأن بضاعتها هي الناس أنفسهم.
بعيدًا عن ذلك كله يتقدّم يانيس سترافولاموس، عبر فيلمه الأول «يقظة»، بعمل مختلف حول صبي كان يشعر بالخجل كون والدته مصابة بداء يجعلها عينها اليمنى تبدو جاحظة. يترعرع في هذا الشعور بأنه كان محط سخرية التلاميذ. الأيام وحدها تجعله قادرا على التغلب على ذلك الشعور خصوصًا بعد مقتل والديه في حادثة سيارة. بعد سنوات سيكتشف سرًا سيعمق من فهمه لما حدث لعين والدته.
المنحى الذي يقدم المخرج عليه هنا ينتمي إلى مزيج بصري من الروحانيات والميتافيزيقيات. امرأة تتحول إلى نار. رجل يمشي فوق سطح البحر، عوالم متداخلة. وفي الصميم أيضًا هناك مزيج من المسائل المطروحة حول الدين والطفولة والعائلة والشعور بالندم. بعض ما نراه يشبه أفكار المخرج الفرنسي ليو كاراكاس، لكن الفيلم، كوحدة خاصة، لديه دربه المنفصل في ذلك العالم الجامع بين الحقيقة والخيال.
فيلم آخر من الخيالات الممتزجة هو «عواطف» لكوستاس نيكولوبولوس وهو أيضًا مخرج جديد يميل، كحال «ثلاثة أقدار» أعلاه إلى التجريب وبل يزيد عليه. عبر الموسيقى وأنواع الألحان المتماوجة والمعبرة عن أكثر من ثقافة وأكثر من تاريخ، يحاول المخرج دفع بطله إلى الخروج من عالمه، زمانًا ومكانًا، ليدخل عالما يعتبره الفيلم أرحب بكثير وهو عالم الموسيقى غير المحدد لا بالمكان ولا بالزمان. والموسيقى لها مكان مهم في «مدينة المرأة الميتة» للمخرجة أنجيلا إسماعيلوس بطلتها مغنية أوبرا سابقة تلتقي براهب وبمصارع ثيران والثلاثة يقررون التحوّل من السلب إلى الإيجاب فيما يتعلق ببحثهم حول منعطف للحياة الجديدة. الرحلة هي بحث آخر عن الهوية المفقودة بين شخصيات اليوم والمآزق النفسية التي يمر بها شخوص هذا البحث.
وهو الضياع نفسه، إنما على مستوى شبابي، الذي يعصف بشخصيات فيلم «بارك» الذي سبق له أن عرض في مهرجان سان سابستيان قبل أسابيع وخرج بجائزته الخاصة بالمخرجين الجدد (عرضه أيضًا مهرجان تورونتو).
ضمن هذا التيار الباحث هناك فيلمان عن رجلين خسر كل منهما وظيفته بسبب الأزمة الاقتصادية العاصفة. في «المدينة الفاضلة» لنيكوس كورو نجد أخيليس وقد قرر، وبعض أصحابه، عدم الاستسلام للأمر الواقع والقيام بما من شأنه مقاومة الجشع والفساد الذي يعلم أنهما مسؤولان عن هذا الوضع أساسًا.
أما الموظف المطرود من عمله من جراء الوضع الاقتصادي ذاته في فيلم كليو فانوراكي «أكزامو» فيلجأ إلى العزلة أولاً ثم إلى القيام برحلة بحث تعيده إلى الريف اليوناني لربما وجد فيه الأصالة المفقودة.
لكن هناك ما هو بعيد عن كل تلك الاهتمامات مثل فيلم سوتيريس تزافولياس «أنا الآخر» الذي يدور حول عالم جرائم يعيش في أثينا اليوم يستعين به البوليس للكشف عن مرتكب خمس جرائم قتل. على الأقل هناك ما يلبي رغبة البعض في أفلام لا ترتبط كثيرًا مع الواقع وإن فعلت تحاول إخفاء ذلك تحت جثث ضحاياها.