حكومات لبنان: محاصصات مذهبية وسياسية وحزبية

رشيد كرامي الأطول رئاسة.. وجنرالان مارونيان خرقا الرئاسات السنّية

حكومات لبنان: محاصصات مذهبية وسياسية وحزبية
TT

حكومات لبنان: محاصصات مذهبية وسياسية وحزبية

حكومات لبنان: محاصصات مذهبية وسياسية وحزبية

تشبه ورشة العمل التي بدأها في لبنان رئيس الحكومة المكلف، النائب سعد الحريري، لتشكيل حكومته الثانية، كثيرا من الورشات التي أدارها رؤساء حكومات سابقين انصرفوا إلى توزيع الحصص والحقائب الوزارية على أساس المذهب أولا والانتماء السياسي والحزبي ثانيا. وقد تكون مهمة الحريري هي الأصعب منذ سنوات لتهافت القوى السياسية اللبنانية للمشاركة بالحكم قبل أشهر من موعد الانتخابات النيابية المقبلة، وتعاطي هذه القوى مع الوزارات كوسيلة لاستقطاب الجماهير من خلال تأمين بعض الخدمات وقبض ثمنها أصواتا انتخابية في صناديق الاقتراع في مايو (أيار) المقبل.
ويزيد مهمة الرئيس الشاب المكلّف صعوبة، تفكك كتلتي قوى 8 و14 آذار وانفراط عقد التحالفات التي قامت بعد عام 2005 على خلفية اغتيال أبيه رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري، باعتبار أنّه لم يعد يستطع أن يقسّم الوزارات من ناحية الاصطفافات السياسية بل بات مجبرا على التعاطي مع كل حزب أو تيار على أنّه فريق سياسي بحد ذاته.
تُعتبر حكومة سعد الحريري التي من المفترض أن تبصر النور قريبًا الحكومة الرقم 74 منذ استقلال لبنان في عام 1943، والرقم 7 منذ عام 2005. وهي على الأرجح ستكون حكومة «وحدة وطنية»، أي أنها ستضم كل القوى السياسية، تماما كما كانت حكومته السابقة التي شكلها في عام 2009 إبان عهد رئيس الجمهورية السابق، العماد ميشال سليمان، وضمت 30 وزيرا. ولقد قدم الحريري تشكيلتين حكوميتين لرئيس الجمهورية في حينها، فلم تنل الأولى رضا قوى المعارضة، بينما نالت الثانية ثقة 122 نائبا من أصل 128. ولكن، في عام 2011 أسقط ما يسمى «حزب الله» وحلفاؤه، وأبرزهم «التيار الوطني الحر»، تلك الحكومة من خلال سحب ثلث أعضائها على خلفية خلاف حول المحكمة الدولية الخاصة باغتيال رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري.

حكومات أكثرية ووحدة وطنية
هذا، ولم يلق الطرح الذي تقدم به في وقت سابق رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع، ووافقه فيه الوزير بطرس حرب، وحثّا من خلاله على تشكيل حكومة تضم الفريق الحاكم والأكثرية على أن تبقى المعارضة في الخارج ترحيبًا لدى باقي القوى السياسية وأبرزها رئيسا الجمهورية والحكومة اللذان يعتبران حكومة الوحدة كفيلة بإعطاء زخم للعهد الجديد.
ولطالما كانت الحكومات اللبنانية منذ عام 1992 وحتى عام 2004 حكومات تضم الأكثرية الحاكمة فقط، علما بأن الرئيس الراحل رفيق الحريري ترأس معظمها. وفي هذا السياق، يقول الوزير والقيادي الكتائبي السابق كريم بقرادوني، الذي واكب تلك المرحلة لـ«الشرق الأوسط» إنّه «لم يكن يتم تقديم استقالة أي حكومة حينها قبل الاتفاق على تشكيلة الحكومة الجديدة، حتى إنّها تحولت قاعدة لطالما اعتمدها الرئيس الحريري»، واستطرد: «وبعد اغتياله في عام 2005 باتت الحكومة تأخذ وقتا طويلا لتتشكل، فقد استمرت عملية تشكيل بعضها 9 و11 شهرا».. ثم أضاف: «حكومات الوحدة الوطنية لا يجب أن تكون قاعدة، فالديمقراطيات في العالم تعتمد هذا النوع من الحكومات في الحالات الطارئة والحرب، لأنّه خلاف ذلك، فالأكثرية يجب أن تحكم والمعارضة تُعارض». وهنا اعتبر بقرادوني تشكيل حكومة وحدة في الوقت الراهن «مبرّرا من منطلق أننا نخرج من أزمة، بينما تشهد المنطقة أزمات دموية وحروبا»، مرجحا ألا تستلزم عملية التشكيل وقتا طويلا فتنتهي كحد أقصى خلال شهر واحد.
ويؤيد خلدون الشريف، مستشار رئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي، أهمية أن تكون الحكومة التي سيشكلها الرئيس الحريري حكومة وحدة وطنية، معتبرا انتخاب العماد ميشال عون رئيسا، وتسمية النائب الحريري لرئاسة الحكومة «يستلزمان أن تكون الحكومة تضم الجميع لاستيعاب الاتفاق الذي تم، والهزة التي أحدثتها التسوية، وخاصة بعد كم التصادم بين الرئيسين الحريري وعون الذي طبع كل المرحلة الماضية». وتابع الشريف لـ«الشرق الأوسط» موضحًا: «انسحاب القرار الدولي الذي حصّن لبنان بالمرحلة الماضية على المرحلة الحالية ووجود حكومة فاعلة ورئيس للجمهورية قد يؤشران لانفراجات مقبلة على صعيد السياسة الداخلية، لكن في النهاية لبنان يبقى بلد الصعوبات والتناقضات والمناكفات، ولا شيء سهل بالمطلق فيه».

أرقام قياسية لرشيد كرامي
جدير بالذكر، أنه خاض غمار تجربة رئاسة الحكومة في تاريخ لبنان الحديث 25 شخصية سياسية، 23 منهم سنة، حسب العُرف المعتمد منذ الاستقلال العام 1943، في حين خرق جنرالان مارونيان هذه القاعدة عامي 1952 و1988.
رؤساء الحكومة الذين توالوا منذ عام 1943 هم: رياض الصلح وعبد الحميد كرامي وسامي الصلح وسعدي المنلا وحسين العويني وعبد الله اليافي وناظم عكاري وصائب سلام وفؤاد شهاب وخالد شهاب ورشيد كرامي وأحمد الداعوق وأمين الحافظ وتقي الدين الصلح ونور الدين الرفاعي وشفيق الوزان وسليم الحص وميشال عون وعمر كرامي ورشيد الصلح ورفيق الحريري ونجيب ميقاتي وفؤاد السنيورة وسعد الحريري وتمام سلام.
ويُعتبر الرئيس رشيد كرامي، أصغر مَن تولى رئاسة الحكومة في تاريخ لبنان، إذ ترأس أول حكومة له في عام 1955 في عهد الرئيس الراحل كميل شمعون، وكان في الـ34 من عمره. بينما يُعتبر الرئيس سعد الحريري ثاني أصغر رئيس حكومة للبنان.
كما أن كرامي - وهو ابن رئيس الوزراء عبد الحميد كرامي وشقيق رئيس الوزراء عمر كرامي - هو أكثر رئيس وزراء تشكيلاً وترؤسًا للحكومات في تاريخ لبنان، إذ ترأس 10 حكومات خلال ثلاثة عقود (بين 1955 و1984) يليه الرئيس عبد الله اليافي (شكّل 9 حكومات بين 1951 و1968).
ولا تقتصر «ميزات» رئاسة كرامي على كونه كان الأصغر وشكل العدد الأكبر من الحكومات، إذ يُعتبر أيضا صاحب الرقم القياسي في الفترة الزمنية التي أمضاها رئيسا للحكومة، وبلغت 141 شهرًا و20 يومًا، أي نحو 11 سنة و10 أشهر، في حين أمضى رفيق الحريري بين 1992 و2004 ما يقارب 10 سنوات وشهرين في سدة رئاسة الحكومة.
أما الجنرالان المارونيان اللذان توليا رئاسة الحكومة في لبنان فهما قائد الجيش فؤاد شهاب الذي ترأس حكومة انتقالية في نهاية عهد الرئيس بشارة الخوري وتحديدًا بين 18 سبتمبر (أيلول) 1952 و30 منه وتخللها انتخاب كميل شمعون رئيسًا للبلاد في 23 سبتمبر. أما الجنرال الثاني الذي ترأس حكومة عسكرية فكان ميشال عون، رئيس الجمهورية الجديد، الذي عيّنه الرئيس أمين الجميّل في 22 سبتمبر 1988 بعدما تعذّر انتخاب خلَف له على رأس الجمهورية.

أقصر الحكومات عمرًا
وتُعتبر الحكومة التي شكّلها الرئيس عبد الله اليافي في 12 أكتوبر (تشرين الأول) 1968 في عهد الرئيس شارل الحلو هي أقصر حكومة في تاريخ لبنان، إذ إنها لم تعمّر إلا 8 أيام واستقالت في 20 أكتوبر من دون أن تمثل أمام مجلس النواب. وتليها الحكومة الانتقالية التي شكلّها فؤاد شهاب في نهاية عهد الرئيس بشارة الخوري واستمرت 12 يومًا (بين 18 و30 سبتمبر 1952) ولم تمثل بدورها أمام البرلمان.
أما العمر الأطول لحكومة في تاريخ لبنان، فكان 37 شهرًا، وسجّله الرئيس رشيد كرامي في الوزارة التي ألفها في 30 أبريل (نيسان) 1984 وبقي على رأسها حتى تاريخ اغتياله في الأول من يونيو (حزيران) 1987. وللعلم، فإن الرئيس فؤاد السنيورة هو صاحب الرقم الثاني لأطول حكومة عمرًا، إذ استمرت لنحو 36 شهرًا بين 19 يوليو (تموز) 2005 و11 يوليو 2008، في حين أن أطول عمر لحكومة ترأسها الرئيس رفيق الحريري هو 31 شهرًا بين 31 أكتوبر 1992 و25 مايو 1995.

قضوا اغتيالاً
وللمفارقة، فإن ثلاثة من رؤساء الحكومة في لبنان قضوا اغتيالاً، هم: «رجل الاستقلال» رياض الصلح، الذي اغتيل يوم 16 يوليو عام 1951 في العاصمة الأردنية عمّان بإطلاق النار على سيارته بعد نحو 5 أشهر على مغادرته سدة رئاسة الحكومة. ورشيد كرامي الذي اغتيل في الأول من يونيو 1987 بتفجير عبوة ناسفة تحت مقعده في هليكوبتر عسكرية تابعة للجيش اللبناني، وكان حينها على رأس الحكومة. ثم رفيق الحريري الذي اغتيل في 14 فبراير (شباط) 2005 بتفجير ضخم استهدف موكبه عند الواجهة البحرية لبيروت، بعد نحو أربعة أشهر على تنحيه عن رئاسة الحكومة.

محطات بارزة
أبرز المحطات التي طبعت عملية تشكيل الحكومات منذ العام 1990 وحتى يومنا هذا، تمثلت بتشكيل عمر كرامي حكومته في أواخر عام 1990، وكان عنوانها «الوفاق الوطني» الذي لم يتحقق بالكامل، فقد ضم كرامي إلى حكومته سليمان فرنجية، أبرز حلفاء سوريا، وسمير جعجع قائد «القوات اللبنانية» التي كانت خاضت حربًا ضد عون، بالإضافة إلى الوزيرين نبيه برّي ووليد جنبلاط وإيلي حبيقة. غير أن جعجع لم يحضر أي جلسة للحكومة، ثم استقال منها بعد نحو 3 أشهر ونيف فعين روجيه ديب ممثلاً له فيها. ثم سقطت حكومة عمر كرامي تحت وطأة اضطرابات شعبية وضغوط غير شعبية في 6 مايو 1992 بسبب الأوضاع الاقتصادية وانهيار الليرة اللبنانية، إذ بلغ سعر صرف الدولار آنذاك نحو 3000 ليرة (حاليًا نحو 1500).
وفي 26 مايو شكّل الرئيس رشيد الصلح حكومة لم تعمّر طويلاً أشرفت على الانتخابات النيابية، ومهدت لوصول رفيق الحريري إلى الحكم لأول مرة. ولقد استقال جعجع من هذه الحكومة أيضا.
وضم الرئيس الحريري إلى حكومته الأولى ذراعه اليمنى، فؤاد السنيورة، بينما بقيت فيها رموز التحالف السابق المؤلف من برّي (عبر وزراء ممثلين له بعد انتخابه رئيسًا للبرلمان) وجنبلاط وفرنجية وحبيقة. وفي عام 1995، شكّل الحريري حكومته الثانية بعدما قدم استقالة الحكومة الأولى عقب تمديد ولاية الرئيس إلياس الهراوي في أكتوبر من العام نفسه. وفي عام 1996 عاد الحريري إلى الحكومة بعد الانتخابات النيابية التي دخل فيها إلى البرلمان للمرة الأولى نائبا عن بيروت.
وفي عام 1998 خرج الرئيس الحريري من الحكم مع انتخاب إميل لحود رئيسًا للجمهورية، بعد أزمة الاستشارات النيابية، إذ احتج الحريري على تفويض بعض النواب رئيس الجمهورية تسمية رئيس الحكومة رغم أنه تم اختياره من غالبية النواب، فأعيدت الاستشارات وسُمي الرئيس سليم الحص من قبل الغالبية النيابية. وضمت هذه الحكومة يومذاك أسماء جديدة مثل وزير المال، جورج قرم، ووزراء آخرين من مؤسسات الرقابة كرئيس التفتيش المركزي، فوزي حبيش. كما خلت من أسماء أخرى كالسنيورة وجنبلاط الذي لم يشارك رغم أنه تمثل فيها بوزراء قريبين منه. وخاض لحود والحريري مواجهة حادة في بداية هذا العهد فأحيل كثير من رموز الحريري للمحاكمة. ولكن الحملة الإعلامية التي شنّت على الحريري جاءت بمفعول عكسي إذ ساعدته على اكتساح مقاعد بيروت النيابية كافة، وحقق انتصارات كبيرة في الشمال والبقاع وجبل لبنان في حملته مجددًا لرئاسة الحكومة التي شكلها في نهاية عام 2000. وعاد فؤاد السنيورة إلى المالية ومعه الوزير باسل فليحان للاقتصاد. وبدا من خلال تلك الحكومة أن الحريري سيتولى ملف الاقتصاد، ولحود الملف السياسي في البلاد. وبعد حرب العراق عام 2003، شكل الحريري حكومته الثانية في عهد لحود والخامسة له، وضم فيها إلياس المر، وزيرا للداخلية، بدلاً من والده نائب رئيس الحكومة ميشال المر.

تغييب التكنوقراط
وعلى الرغم من أن «حكومات التكنوقراط» ظلّت الحاضر الأبرز في كل النقاشات عشية تشكيل معظم الحكومات بعد «اتفاق الطائف»، فإنه لم يجر اعتمادها طوال السنوات الماضية. وترد نهلة الشهال، الباحثة في علم الاجتماع السياسي، هذا الأمر إلى النظام السياسي القائم على المحاصصة، لافتة إلى أن «هذا النظام بالمرحلة الراهنة بحالة من العراء الكامل ما يزيد الطابع الفاقع للمحاصصة». وتشير الشهال في حوار مع «الشرق الأوسط» شارحة إلى أن «القادة الذين يسيطرون حاليا على السلطة يعتبرون أن الشكل الذي تتخذه الحكومات الحالية هو الأفضل برأيهم، ويتعاطون مع من ينادون بحكومات تكنوقراط أو غيرها على أنهم أقلية أو غريبي الأطوار». وأردفت: «لا يمكن القول إن الطبقة السياسية نجحت في استنهاض صفوفها وإعادة إحياء النظام الطائفي لسنوات وسنوات، فالتسوية التي أدت لانتخاب رئيس للبلاد لا يمكن أن تخفي ملامح النظام اللبناني المأزوم.. وخاصة أنّها صفقة غير مقنعة».
على صعيد آخر، شكّل البيان الوزاري للحكومات التي تشكلت بعد عام 2005، تحديًا كبيرًا في ظل إصرار ما يسمى «حزب الله» على تشريع حالته ووجوده وإصراره على إيراد عبارة «حق الشعب والجيش والمقاومة بالتصدي للاحتلال الإسرائيلي». ففي حكومة سعد الحريري التي تشكلت عام 2009 تم الاتفاق على تأكيد «حق لبنان، بشعبه وجيشه ومقاومته، في تحرير مزارع شبعا وتلال كفر شوبا والجزء اللبناني من قرية الغجر، واسترجاعها، والدفاع عن لبنان في مواجهة أي اعتداء والتمسك بحقه في مياهه، وذلك بكل الوسائل المشروعة والمتاحة»، وهي الصيغة التي تبنتها حكومة الرئيس نجيب ميقاتي في عام 2011.
وبعد سجال طويل، توصلت حكومة الرئيس تمام سلام لصيغة جديدة قالت فيها إنه «استنادا إلى مسؤولية الدولة ودورها في المحافظة على سيادة لبنان واستقلاله ووحدته وسلامة أبنائه، تؤكد الحكومة واجب الدولة وسعيها لتحرير مزارع شبعا وتلال كفرشوبا والجزء اللبناني من قرية الغجر، وذلك بشتى الوسائل المشروعة. مع تأكيد حق للمواطنين اللبنانيين في المقاومة للاحتلال الإسرائيلي ورد اعتداءاته واسترجاع الأراضي المحتلة». وحاليًا، يُرجح المعنيون أن تعتمد الحكومة التي سيشكلها الرئيس سعد الحريري الصيغة نفسها أو ما ورد في خطاب القسم الذي ألقاه الرئيس عون وقال فيه: «أما في الصراع مع إسرائيل، فإننا لن نألو جهدًا ولن نوفر مقاومة، في سبيل تحرير ما تبقّى من أراضٍ لبنانية محتلّة، وحماية وطننا من عدوٍّ لما يزل يطمع بأرضنا ومياهنا وثرواتنا الطبيعية».



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.