نص تخييلي يطرح السؤال الحارق: من نحن؟

عبد الكريم جويطي يتأمل في تاريخ وواقع المغاربة في روايته الجديدة

غلاف الرواية
غلاف الرواية
TT

نص تخييلي يطرح السؤال الحارق: من نحن؟

غلاف الرواية
غلاف الرواية

صدرت، حديثًا، عن «المركز الثقافي العربي»، رواية جديدة للروائي والمترجم المغربي عبد الكريم جويطي، تحت عنوان «المغاربة». رواية مثيرة للفضول والانتباه بعنوانها، أولاً، وبمضامينها وجمالياتها، ثم بشخصية وتجربة كاتبها، الذي يتم تقديمه على أنه «روائي مقل، لا يكف عن البحث عن روايته الفريدة، تلك التي يعتصر فيها قدراته الإبداعية، ويشحذ فيها رؤيته الفنية، برغبة أن يمضي بها إلى مداها الأبعد والأقصى»، كما يقول الناقد والباحث نور الدين درموش؛ وبأنه مبدع له تجربة روائية «متفرّدة»، لها عناوينها الخاصة، تتميز ببحثها في «العمق المغربي وفي هموم الهامش (الجغرافي واللغوي والفكري)»، كما يرى القاص والروائي عبد العزيز الراشدي.
مع صورة غلاف الرواية، نكون مع لوحة «عراك بالهراوات» للفنان الإسباني الكبير فرانسيسكو دي غويا (1746 - 1828)، التي مزج فيها بين ظلال وألوان قاتمة، تنقل لمشهد رجلين وهما يتعاركان بالهراوات، من دون أمل في أن يفوز أحدهما على الآخر: مشهد درامي، نجد تقديمًا له على ظهر الغلاف، حيث نقرأ: «رجلان في عِراك دامٍ، يوشك أحدهما أن يجهَز على الآخر بضربة هراوة. أحدهما سيقتل في النهاية، يظهر ذلك من شراستهما، والعصف الكامن في جسديهما المندفعين والمتوثِبين، ثم ليس هناك مَن يفضّ الخصام الضاري بينهما. هراوتان في الهواء تأخذان نفسًا عميقًا وقاتلاً من الجاذبية لتهويان بقوة وحسم. هناك جلالٌ ما في هذا العراك الخرافي. بعد حين سيسفح دم، وسيخرّ جسد إلى الأرض، لكن ماذا سيفعل المنتصر بنصره؟ فالأرض من حولهما هضاب جرداء، متفحِّمة، وغاضبة، وأرجلهما تغوص تدريجيًا في الرمال. يتعاركان وهما لا يدركان بأنّ العدو الحقيقي يتمثَّل في الرمل الذي يستدرجهما إلى حتفها. أي عمى أصابهما؟ ألا يحتاج أحدهما إلى الآخر في هذه الأرض الجحيمية التي تتسع بفداحة لهما ولسلالتهما من بعدهما؟ في حمى الهجوم المتبادَل بينهما، والعاطفة العنيفة التي تزيِّن لأحدهما فكرة أنّ العالم سيكون أفضل من دون أحدهما، وفي اللحظة التي كان فيها كل شيء ممكنًا: يقتل أحدهما، يُقتلان معًا، يخرّان جريحين نازفين من دون إمكانية إسعاف. كان هناك شيء واحد يقف رابط الجأش بينهما محترسًا من إشراقة تعقُّل تنبثق بداخلهما فيتوقفان: إنها الجريمة في كمال وحشيتها وقداستها منذ أن دفع رُهاب المزاحمة قابيل لقتل أخيه هابيل. في خلفية لوحة غويا: (عراك بالهراوات) تتجمّع نذر عاصفة، ستقتلع كلّ شيء من جذوره وتطوح به بعيدًا. ما أغبى الإنسان! ما أغبى الإنسان!».

جويطي: أبطال الرواية هم المغاربة

عن اختياره «المغاربة» عنوانًا لعمله الإبداعي الجديد، قال جويطي لـ«الشرق الأوسط»: «كان المرحوم فؤاد زكريا يكرر دومًا بأن عنوان الكتاب تلخيص ميتافزيقي لمحتواه. وبهذا المعنى أنظر لعنوان الرواية، فهو محاولة تكاد تكون مستحيلة لقول رواية كاملة في كلمة أو كلمتين. لم أختر عنوان (المغاربة). لقد فرض نفسه علي، والأصدقاء الذين قرأوا الرواية، قبل نشرها، أجمعوا على أنه العنوان الدقيق للرواية. لم أتردد فأبطال الرواية هم المغاربة. قد يتساءل المرء من هم؟!! ولكن، الجواب بديهي، فكما علمتنا الفينومولوجيا، فإن الرواية تناولت المغاربة ليس كما هم (النومين) بل كما يمن دون لرواة الرواية (الفينومين). طبعًا، العنوان عتبة، وهذه العتبة تفتح تعاقدًا مع القارئ المفترض وتهيئه لقراءة نص حول الهوية المغربية، نص تخييلي سيحاول بكل ما يتيحه جنس الرواية من طاقة ومن حرية ومن قدرة على التهديم والبناء أن يدخل يده في السؤال الحارق: من نحن؟».
وعن مكانة رواية «المغاربة»، في مسيرته الإبداعية، بـعد «ليل الشمس» و«زغاريد الموت» و«زهرة الموريلا الصفراء» و«كتيبة الخراب»، يقول جويطي: «كتبت كل رواية من رواياتي بنفس الحرص والتروي والإخلاص للكتابة وحدها. لم أكتب من أجل مال ولا شهرة ولا مخافة أن أنسى من طرف الأوساط الأدبية. تفصل سنوات بين عمل وعمل أقضيها في تطوير قدراتي. لا شك أنني تطورت من رواية لأخرى وتشربت بعض أسرار المهنة. وإن كانت هناك مكانة لرواية (المغاربة) فهي أنها آخر ما تمكنت من إنجازه. إنها تجسيد لما وصلت له قدرتي وجهودي في الكتابة. أحرص دومًا على ألا أشبه نفسي، لا أستطيع التخلص من عوالم تسكنني وأسكنها وتدأب على الخروج كلما أمسكت القلم، لكنني أحاول أن أسيطر عليها ما أمكن، وأحاول أن أعيش بها مغامرة جديدة رؤية وشكلا. لا نكتب في النهاية إلا رواية واحدة متجددة وبتنويعات لا تمس الجوهر».
وعن اللغة السردية، والعوالم التخييلية للرواية، وسؤال الشكل، قال جويطي: «كتبت رواية (المغاربة) بنفسين سرديين: واحد قصير، ومكثف، ولاذع، يمضي للأهم، والآخر طويل يبني الجملة السردية بأناة وعدم انشغال بالحيز الذي تتطلبه. لم أكن معنيًا بشعرنة الخطاب، ولم أتصنع. كنت حريصًا على أن أهدم وأبني، وأعتقد أنني، بمواد تخييلية متباينة يقدمها التاريخ والحياة اليومية، قد تمكنت من رواية مشوقة استمتع بقراءتها وإعادة قراءتها نقاد وكتاب وقراء عاديون، رواية يمكن أن تقرأ كنشيد أو قصيدة طويلة».
وبخصوص الإضافة التي يمكن أن تقدمها الرواية المغربية، اليوم، للإبداع الروائي العربي، قال جويطي: «يبدع الروائيون المغاربة داخل فضاء حضاري ولغوي وتخييلي يمتد من المحيط إلى الخليج، ويمتحون من نفس المراجع والذاكرة النصية والثقافية، التي تغتني بخصوصية كل بلد ومنطقة. أعتقد أن التجربة الروائية المغربية، والتي يثريها كل يوم كتاب جدد، رسخت حضورها في المشهد الروائي العربي وقدمت له نصوص لافتة ومميزة. لحسن الحظ لم تعد هناك مراكز تحتكر كل شيء، فقد تساوى الكل. يعيش العالم العربي فترة عصيبة من التشرذم والانحطاط وتهاوي المثل والقيم ولا شك أن الكتابة الجيدة في هذا الواقع القيامي شكل مجيد من أشكال المقاومة للرداءة المعممة. إن إنتاج الجمال والمعنى وسط كل هذا الخراب مهمة نبيلة وتكاد تكون مقدسة».

في أعين النقاد

اتفقت قراءات ووجهات نظر عدد من النقاد والمبدعين المغاربة على الإشادة برواية «المغاربة»؛ فهي، بحسب الروائي والباحث حسن أوريد، «عمل روائي رصين»؛ كما أنها «رائعة وعميقة»، بحسب القاص أنيس الرافعي؛ في وقت رأى الشاعر والروائي ووزير الثقافة السابق، محمد الأشعري، أنها «محكمة البناء» و«متعددة الأبعاد، في شخصياتها وعوالمها ولغتها»؛ فيما رأى الكاتب والإعلامي لحسن لعسيبي أنها رواية «متعبة» و«ممتعة» و«مستفزة»: متعبة وممتعة، لأنها «لا تمنحك نفسها بسهولة في أول الصفحات، لكن مع توالي القراءة تكتشف أن المغاربة ربحوا روائيًا جديدًا، بصوت إبداعي مختلف». وهي مستفزة، لأنها «تستفز هويتنا، وتوقظ فينا مكامن السؤال»، من جهة أنها «تقتفي، عبر الأدب، أثر المغربي كمعنى سلوكي». أما الناقد والباحث نور الدين درموش، فرأى أنها «جاوزت الأبعاد المعتادة، كي تلامس أبعادًا أوسع وأعمق. إذ بدا طموحها، إدراك ما يمكن وسمه بـ(الكينونة المغربية)، ما تطلب اشتغالاً متأنيًا على التاريخ المغربي (قديمه ووسيطه وحديثه)، سواء بجعل هذا التاريخ خلفية للمصائر التي تعيشها شخوص الرواية، أو بجعل محطات التاريخ المتباعدة، موضوعًا لكتابات شذرية، مفعمة بالتأملات الحاذقة والكاشفة، أو بضم مقاطع من كتب ومدونات تاريخية مأثورة أو نادرة، ناطقة بفداحة وقائع تاريخية فارقة».
ولاحظ درموش أن «الرواية حاولت، وهي تنفذ إلى الطبقات المنضدة والمتراكبة للتاريخ المغربي، أن تصل إلى مكامنه القاسية والدامية والعنيفة؛ مكامن لم تلبث، بحكم تكرارها وتواترها وتلاحقها المزمن، أن اكتسبت صفة المكامن العابرة للتاريخ، أو صفة المكامن (اللازمنية)، وبالتالي، فالرواية، بطموحها هذا، حاولت أن تستخلص القار والثابت في حركة تاريخ عنيف ومدمر، أما الكينونة المغربية، فهي، في هذا السياق، نتاج ما بوسعنا، أن نسميه (عودًا أبديًا) لما يشبه (عدمًا تاريخيًا)، جاوز في حالاته الكثيرة حدود المأساة المأثورة». وختم درموش وجهة نظره، بإبداء ملاحظتين: «الأولى، لها علاقة بالتاريخ أو بكتابة التاريخ. فالتاريخ، في رواية (المغاربة)، (مادة)، تشتغل عليها الرواية بطريقة تخالف اشتغال المؤرخ. الرواية تخلص التاريخ من وثوقيته، كي تبقيه مشرعًا على الاحتمال والممكن. وهي لذلك، لا تسعى إلى الإثبات والتأكيد، لأن هاجسها ليس هو قول: «الحقيقة»، بل تحرير (الحقيقة) من ذاتها، كي تصبح احتمالاً. وهو ما نلمسه بوضوح في بعض محكيات الرواية، محكيات لا تلبث أن تنقلب على نفسها، واضعة موضع الارتياب كل ما أبانت أو أفصحت عنه. نلمس ذلك، أيضًا، حين يطلق السارد قهقهات عالية، يسخر من كلامه الذي أوغل في بناء المعنى، بشكل يوهم القارئ بالتشكل الصلب لحقيقة ثابتة. أما الملاحظة الثانية، فهي ذات علاقة بالرؤية التي تكتنف الرواية. إذ إن رؤية الرواية ليست في العمق، رؤية تاريخية برغم الحضور الكثيف والمطرد للتاريخ، إنها بالأحرى رؤية وجودية، رؤية لوجود إنساني موسوم في أساسه بالرثاثة والفظاظة والعدم. أما التاريخ في الرواية، فهو تمظهر (ملموس)، أو تجل (عياني)، لوجود إنساني (أصله) مختل ومنحط وقاتم».



«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!